“رغم أننا مسلمون، فإننا أولا أكراد، وبهذا فإن الأكراد وكردستان يأتون قبل الإسلام”، هذه الكلمات أصبحت مثل شعار وخط سير للقوميين الإسلاميين الأكراد. حيث يعتبرون أن خطاب الأخوة الإسلامية في سياق معالجة المسألة الكردية مجرد وجه إسلامي لممارسة اضطهاد الأقليات. كما أنهم يشيرون إلى أهمية مساواة حقوق الأكراد مع غيرهم واعتبارهم بمثابة شعب، ومساواتهم في الحقوق مع الأتراك على أساس أخلاقي.

إن قيام القوميين الإسلاميين الأكراد بتقديم القضية الكردية، أو قضية كردستان، تحت المظلة المشتركة التي تسمى “الكردية”، على الشعارات الإسلامية التي تريد تحييد الهويات القومية للأكراد، يمثل تعارضا واضحا مع موقف حزب العدالة والتنمية الذي يفضل مقاربة إدماجية مبنية على مفهوم الأخوة الإسلامية.

الأخوة الإسلامية: نعمة أم نقمة؟

كان من المثير رؤية الزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي يقبع في السجن، يقول خلال رسالة أرسلها في عيد النوروز يوم 22 آذار/مارس 2013، في خضم مسار السلام الذي امتد من 2009 إلى 2015، “إن الأخوة الإسلامية كتاريخ مشترك بين الأتراك والأكراد تمثل أرضية مسهلة لتحقيق السلام”. وقد أكد حينها أن الشعب التركي الذي يعيش في الأناضول القديمة تحت اسم تركيا، يجب أن يعلم أن التعايش بينه وبين الأكراد على مدى قرون يقوم على قانون الأخوة والتضامن، وأنه في قانون الأخوة لا يوجد مجال للغدر أو الحرمان أو التضليل أو الإدماج القسري.

لاقت رسالة أوجلان ترحيبا من كل الأحزاب، ومؤخرا تم الترحيب بها من قبل سياسي كردي يساري معروف، وهو طارق ضياء أكنشي، الذي اعتبر في الماضي أن خطاب الأخوة ليس إلا دعوة للعبودية، وأن الأكراد ليسوا إخوة لأحد ولا يريدون أن يعيشوا كإخوة مع أي أناس آخرين، والشيء الوحيد الذي يريدونه هو المساواة في الحقوق والمواطنة.

الفكر القومي والإسلامي الكردي

دفعت التغييرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها تركيا في بداية التسعينات، بالإضافة إلى تجربة حكم حزب العدالة والتنمية بعد سنة 2000، بالشق المتدين من الأكراد إلى البحث عن إعادة صياغة رابط بين القوة السياسية والإسلام والهوية الكردية.

هذا البحث يظهر من خلال عاملين إثنين: أولا، حالة من اليقظة والرفض للسياسات التي يقترحها حزب العدالة والتنمية الحاكم فيما يخص المسألة الكردية. ثانيا، التشكيك الدائم في أن حزب العدالة والتنمية وكل الإسلاميين الأتراك ليسوا في وضعية جيدة تؤهلهم لحل المسألة، لأن مخططاتهم السياسية تهدف فقط للبقاء على قيد الحياة سياسي،”يجب عليك تطليق فكرة سيطرة الدولة التركية على الدين، أو التوقف عن التحدث إلينا عن الأخوة الإسلامية”.

التوجه الإسلامي والإسلاميون في المسألة الكردية

خلال عهد حزب العدالة والتنمية، تم التطرق علنا للمسألة الكردية والتحاور بشأنها، بكل تداعياتها، لأول مرة في تاريخ الجمهورية. بفضل حزب العدالة والتنمية بدأ الإسلاميون سواء كانوا أكرادا أو أتراك بالتناقش حول هذه المسألة برمتها، في عدة سياقات سياسية واجتماعية.

خلال سنوات التسعينات، كان الخطاب السياسي للدوائر الإسلامية تحت سيطرة شعار “الإسلام والأخوة الإسلامية هي الحل”، ولذلك لو تمكن الإسلاميون من الوصول إلى السلطة حينها فإن المسألة ستحل على أساس الأخوة، ولكن المسألة الكردية لم يتم حلها في أعقاب سيطرة الإسلاميين على السلطة في تركيا.

ويعتبر القوميون والأكراد بكل أطيافهم، أن الكوادر السياسية والدينية لحزب العدالة والتنمية أثبتوا أن عقلياتهم تشكلت تحت تأثير الدولة التركية الكمالية. إذ أن الأخوة الإسلامية تضمن حقوق الإخوة حتى ولو كانوا من طائفة أخرى على أساس أخلاقي، ولكن هذا المعطى تم التلاعب به وسوء استعماله وتلويثه من قبل القوى السياسية. ويعتقد “يافوز ديلال”، وهو وجه بارز في صفوف الأكراد المسلمين وعضو في مبادرة أزادي، أن المسألة الكردية كشفت الإسلاميين الأتراك، لأن “الإسلاميين الأتراك لا يعودون مسلمين عندما يتعلق الأمر بالأكراد، وبالتالي فإن الأكراد لا يستطيعون الوثوق بهم في هذه القضية. فخطاب الأخوة يعني تبديل الإسلام بالكردية. وكما أن تركيا العلمانية لم تتمكن من محو الأكراد عبر فرض الهوية التركية عليهم، فإن تركيا الدينية أيضا لن تتمكن من فعل ذلك عبر “أسلمتهم”. إن العيش تحت ظل نفس الدولة لا يمكن أن يكون مرتبطا بالانتماء الإسلامي، وإذا كانت المواطنة لا علاقة لها بالاعتبارات الدينية، فإن الأكراد لديهم الحق في أن يكونوا أكراد وفي نفس الوقت إسلاميين.

وبحسب الإسلاميين الأكراد، فإن المسلمين في تركيا إما بقوا متفرجين أو تصرفوا بلا مبالاة حيال معاناة الأكراد، لأنهم تم تحييدهم من قبل الدولة القومية التركية. كما أن موقف الإسلاميين الأتراك من المسألة الكردية تشكل عبر وجهة نظرهم القومية، فمواقفهم تجاه الهوية الكردية أصبحت إحدى أهم الأسباب الكامنة وراء الموقف الكردي الحالي في تركيا.

وفقا لذلك فإنهم يعاملون الأكراد كإخوتهم في الدين، وفي نفس الوقت ينفون عنهم حقهم في أن يكونوا أمة: “المسلمون في تركيا ليسوا مسلمين عندما يتعلق الأمر بالمسألة الكردية”. إنهم ينظرون للمسألة الكردية في سياق متلازمة الحسابات الوطنية، التي تقدّم مسألة الوحدة والتكافل، بدون إقامة أي اعتبار للتعددية العرقية والدينية. فمن وجهة نظرهم، يمكن أن يمهد الاعتراف بالهوية الكردية إلى حدوث عملية انفصال، ولذلك فإنهم لن يعترفوا أبدا بالهوية الكردية وبالأكراد كأمة، لا في سياق حقوق الإنسان ولا في سياق القيم الإسلامية.

ولم يتوانى الإسلاميون الأكراد عن التصريح بأن “الخطاب الأخوي” الذي يقوم على مفهوم “الأمة”، ليس إلا مغالطات سياسية قومية تخفي وراءها سعيا لمحو الهوية الكردية، فالنسبة لهم ينتهي خطاب الأخوّة الإسلامية عند نكران حق الأكراد في أن يكونوا أمة، رغم أن الشرط الأساسي لإثبات صحة هذا الخطاب هو تكريسه لمبادئ المساواة والعدالة التي ترتكز عليها نظرية الإنصاف. فهم يقدمون اعتراضات على استعمالات مفهوم “الأمة” كخطاب سياسي للأكراد سواء على المستوى النظري أو التطبيقي.

أيتام “الأمة”

يبرر القوميون الإسلاميون الأكراد موقفهم عبر مفهوم الأخوة والمساواة، وهو ما يعني التعامل على قدم المساواة مع الأتراك والعرب وأي أمة أخرى. ولكن مقولة “الأكراد هم أيتام الأمة”، تنطوي على التمييز الكبير الذي يستهدف الكرد في الدول الإسلامية التي يعيشون فيها. إن الأخوة الإسلامية تحتاج إلى أن يتم تكريسها من خلال مقترحات عملية بشأن تحسين الوضع السياسي للأكراد وتمكينهم من التعليم باستعمال لغتهم الأم. أما ما دون ذلك فإن الإسلاميين غير مؤهلين للتحدث في المسألة الكردية. حتى المفكرون الإسلاميون والمجموعات الإسلامية أيضا تأثرت بالإيديولوجيا الرسمية، وقد أصبحت نظرتها تتشكل بحسب الفكر القومي التركي، وهم يعانون من الجهل لأنهم لا يتابعون أدبيات القومية والتطور المؤسساتي للدول القطرية.

يبدو أن فهمهم الإسلامي مكيف حسب النظرة القديمة التي كانت سائدة في العهد العثماني لمسألة الهوية الإسلامية، فهم يستعملون التعابير الإسلامية على غرار “الأخوة الإسلامية” و”الأمة”، كما لو كانت جامعة لكل المفردات المتعلقة بالقومية التركية. وبما أنه لا يوجد مقابل حقيقي لفكرة الأمة الإسلامية في نظام الدولة القطرية الحالي، فإن حق الكردي بتقرير مصيره لا يمكن نفي الشرعية عنه بتعلة الوحدة الإسلامية.

إن القوميين الإسلاميين الأكراد يطرحون تساؤلات بشأن مدى صدق الإسلاميين الأتراك، في سعيهم للدفاع عن المسلمين في فلسطين وميانمار، بينما تتواصل معاناة الأكراد بقربهم. لأن نظرتهم للأخوة تستوعب كل الأكراد، بما في ذلك الأكراد غير المتدينين والذي يكافحون من أجل قضيتهم القومية، مثل أنصار القومية الكردية بما في ذلك تنظيم البي كا كا. ولكن “حزب الدعوة الحرة” يمكن اعتباره استثناء هنا”.

الموقف الاستثنائي: حزب الدعوة الحرة

رغم أنه فصيل كردستاني، فإن حزب الدعوة الحرة لا يشاطر مواقف بقية الأكراد الإسلاميين فيما يخص رفض تدخل غير الأكراد في مؤسساتهم. فهم يحافظون على تركيزهم على مفهوم الأمة، رغم أن ذلك يمتزج بتركيز خاص على الأكراد، وهم لا يعطون الأولوية لتأسيس دولة كردية كحل أفضل للوضع السياسي للأكراد، شعارهم هو “الإسلام لكردستان”، ولكن على أرض الواقع هم لا يزالون منظمة كردية خالصة.

نقد الإسلاميين للفكر القومي للإسلاميين الأكراد:

يعتبر الناقدون الإسلاميون أن الموقف السياسي للإسلاميين الأكراد فيما يخص المسألة الكردية هو موقف قومي خالص، وبالتالي فهم لا يمكنهم استيعاب الهوية الإسلامية. إن خطاب الإسلاميين الأكراد يتمسك بالهوية القومية، ولذلك فهو يؤدي إلى مخرجات علمانية. إن حقيقة كون الشعب الكردي ضحية للقمع ومستضعفا، لا تضفي الشرعية على الحل القومي للمسألة الكردية. لا يمكن إدانة خطاب الأخوة الإسلامية واعتباره مجرد رواية دينية لنفس الموقف الرسمي الذي يهدف إلى محو الهوية الكردية.

كان من الممكن استعمال ذلك على هذا النحو الديني، ولكن الوضع الراهن لا يقلل من قيمة الأخوة الإسلامية بالنسبة للمسلمين الذين يؤمنون بأن الشعور بالأخوة أعمق أقوى من الحواجز القومية. إن الخطاب السياسي المعتمد من قبل الإسلاميين الأكراد ضد المسلمين غير الأكراد وأصحاب الرأي هو خطاب مهين، وهو خطاب تقسيم يقطع كل روابط الأخوة. إن الإسلاميين الأكراد يعانون من متلازمة ستوكهولم، حيث أنهم يصفقون للحركات الكردية العلمانية والاشتراكية القومية.

ويواصل البعض من الإسلاميين توجيه انتقاداتهم حيث يستحضرون مسألة تاريخية هذه المواضيع السياسية؛ إذ يميل الإسلاميون الأكراد نحو وضع أنفسهم خارج الموروث الفكري الإسلامي في تركيا، والواقع أنه عوض رفض هذا الميراث الذي يشكلون جزء منه، كان عليهم أن يتقبلوه. فالإسلاميون في تركيا عموما هم جميعهم ضحايا للنظام السياسي الكمالي. واضطهاد الأكراد ليس إلا جزءا من هذه الصورة الكبرى، ولذلك فإن الادعاء بأن الإسلاميين لم يكترثوا بمعاناة الأكراد، هي ادعاءات ليس لها أساس من الصحة.

إن حل الدولة القومية الكردية ليس بالضرورة ما يحتاجه المسلمون لحل ما يسمى بالمسألة الكردية، كما أن المشاكل التي سببتها طريقة تفكير الدولة القطرية لا يمكن معالجتها عبر إنشاء دولة أخرى، فعوضا عن ذلك سيؤدي هذا إلى الدخول في دوامة سلبية من المشاكل التي تقود إليها الدول القطرية فيما يتعلق بالتعددية الإنسانية والهوية القومية.

الخلاصة: الإصبع أم الظفر؟

ذات مرة قال موسى عنتر، وهو ناشط سياسي قومي كردي وشخص يتصف بالحكمة: “إن الأتراك والأكراد متمازجان ولا يمكن الفصل بينهما”. لذلك فإن التعبير المجازي “الإصبع والظفر” تم استعماله في مرات عديدة من قبل الأتراك والأكراد على حد السواء، للتأكيد على الأسباب التي تجعل من الضروري التعايش معا. وفي أيامنا هذه يرفع القوميون الأكراد أيديهم للاعتراض والتحجج بأن الوضع الحالي لا يمكن احتماله لأن الأكراد لا يزالون يعتبرون “ظفرا” والأتراك “كإصبع”، وكلما طال الظفر تم قصه من قبل الدولة التركية. ويبدو أن الفكر القومي الإسلامي الكردي يضيف وزنا جديدا لنظرية “الحاجة لفك الارتباط بين الإصبع والظفر”، وبالتالي يتحول إلى قوة راسخة في المشهد السياسي وذات نزعة انفصالية”.