إن إسقاط سلاح الجو التركي للطائرة الروسية في 24 من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي؛ يمثل محطة هامة في تاريخ الصراع السوري المستمر لأكثر من أربعة أعوام. فقد بدأت العمليات العسكرية الروسية منذ شهرين تقريباً، بهدف منع انهيار نظام الأسد، لكنها زادت التوتر على الحدود التركية-السورية؛ حيث قامت الطائرات الروسية باختراق لمجال الجوي التركي في تشرين الأول/ أكتوبر، الأمر الذي دفع بالسلطات التركية لتحذير نظرائها الروس من التداعيات المحتملة لهذا الخرق. ويعتبر الكثيرون أن العمليات الروسية العسكرية في سوريا، هي عامل بالغُ التأثير في مستقبل الصراع السوري، وبذلك؛ فإن إسقاط الطائرة الروسية والرد الروسي على ذلك سيؤثر على مستقبل سوريا، في الوقت الذي لا تزال فيه المحادثات للتوصل إلى حل سياسي للصراعِ قائمة.
ولهذه الحادثة أيضاً آثارٌ مهمة على السياسة التركية تجاه سوريا والصراع السوري، فعلى الرغم من حدوث الكثير من عمليات إسقاط الطائرات والمروحيات والطائرات بدون طيار على كلا الجانبين التركي والسوري، إلا أنه بإسقاط الطائرة الروسية، أصبح الوضع أكثر تعقيداً. وقد جاءت هذه الحادثة بعد هجمات داعش في باريس، التي أودت بحياة 130 شخصاً، إضافة إلى المحادثات التي كانت جارية في فيينا من أجل التوصل إلى حلٍّ سياسي للصراع السوري. وكانت هنالك مؤشرات مبكرة على توافق بين عدد من الجهات، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والسعودية، وتركيا، لإيجاد حل سياسي للصراع السوري. وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية المبذولة منذ بداية الصراع، ظلت الخلافات كبيرة بين تركيا وروسيا حيال سوريا. وقد عبرت عدد من الشخصيات السياسية التركية عن استيائها بشكل واضح في عدة مناسبات، على خلفية القرار الروسي بإرسال طائرات عسكرية ومروحيات إلى سوريا. وإلى جانب استيائهم من الدعم المُقَدم لنظام الأسد، بدا أن السلطات التركية كانت تتوقع حادثة من هذا النوع.
إن الاختلافات بين تركيا وروسيا حول الشأن السوري واضحة؛ فمنذ بداية الصراع، كانت لتركيا وروسيا أجندات مختلفة في سوريا. وعلى الرغم من الاختلافات بينهما على هذا الشأن وغيره من قضايا العلاقات الدولية الأخرى، مثل أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، والصراعات القائمة في القوقاز، تمكنت تركيا وروسيا من الاتفاق على فصل العلاقات السياسية عن غيرها، وتطوير التعاون في ما بينهما، خاصة في ما يتعلق بالمصالح الاقتصادية. ولكن مع الأزمة الأخيرة، يبدو أن هذا الفصل قد وصل إلى نهايته. ومع عدم قدرته على إثبات عدم اختراق الطائرة العسكرية للمجال الجوي التركي، يوحي الرد الروسي في مجالات مختلفة بأن موسكو تسعى جاهدة للتأثير سلباً على تركيا بكل السبل الممكنة.
إن التطورات الأخيرة في العمليات الجارية والانتشار الروسي في سوريا، يهدف إلى إضعاف المعارضة المعتدلة وتمهيد الطريق أمام حل مع الأسد، كما ترى تركيا. وقد بدأت العمليات العسكرية الروسية مع إدراكها بضعف نظام الأسد يوماً بعد يوم، وضرورة رفعه قبل الاتفاق على تسوية سياسية. وفي الوقت ذاته، تسعى روسيا إلى إفشال إمكانية إقامة منطقة حظر جوي في الشمال السوري. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن للعمليات العسكرية الروسية في سوريا هو قتال داعش، إلا أن روسيا ركزت عملياتها على المناطق التي تقدمت فيها قوات المعارضة خلال عام 2015، حيث زادت من هشاشة نظام الأسد وجعلتها واضحة. وقد أعرب مسؤولون أتراك عن استيائهم من الهجمات العسكرية الروسية على المعارضة المعتدلة، ومن الخسائر الفادحة في أرواح المدنيين على إثر هذه الهجمات، إلى جانب تحذيرهم من احتمال وقوع حادث من هذا النوع. وعلى الرغم من الوعي الروسي بهذا الاحتمال، إلا أن روسيا استمرت في هجماتها، ما يمكن تفسيره أيضاً على أنه إثارة مقصودة لغضب تركيا.
الآثار المترتبة على العلاقات التركية- الروسية
إلى جانب الآثار المترتبة على العلاقات التركية-الروسية على إثر هذا الحادث، ستكون هناك تأثيرات جانبية غير مرغوب بها على نطاق الصراع السوري بشكل أوسع، وفي نفس الوقت سيؤثر ذلك على العلاقات التركية-السورية. وستساعدنا أمثلة تاريخية، أثناء تحليل هذه الآثار، على تصنيف العوامل المختلفة في إطار إقليمي وثنائي.
يسعى نظام الأسد- الذي يعي تماماً قدراته المتراجعة- بشدةٍ إلى مد الصراع السوري إقليمياً أو دولياً. ويتوجه نظام الأسد بإلقاء اللوم على تركيا بشأن مشاكله ويحاول استخدام الورقة الكردية المتمثلة في حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، في الوقت الذي يفقد فيه السيطرة على أجزاء من أراضيه ويقتل شعبه بالبراميل المتفجرة. وإلى جانب استخدام الورقة الكردية، قام النظام السوري بدعم مجموعات إرهابية أخرى ضد تركيا، وسعى إلى مد الصراع إلى الداخل التركي؛ ويمثل سقوط طائرة تركية في البحر المتوسط في تموز/ يونيو 2012، بالإضافة إلى تفجيرين في بلدة الريحانية جنوب تركيا في أيار/ مايو 2013 أمثلة واضحة على ذلك. وبالمثل، قامت تركيا باعتراض طائرة متوجهة من موسكو إلى دمشق كانت تحمل معدات عسكرية في تشرين الأول/ أكتوبر 2012. وبعد تغيير قواعد التدخل التركي في عام 2012، قامت تركيا بإسقاط طائرة سورية حربية في آذار/ مارس 2012. وبهذا يكون لدينا سجل حافل من التوترات العسكرية بين تركيا وسوريا خلال الصراع، ويتصل هذا التوتر بشكل أو بآخر بروسيا. ومع وجود هذه الحوادث، إلا أن تركيا تمتنع عن أن تكون طرفاً مباشراً في الصراع في سوريا. ويمكن تفسير الحادثة الأخيرة على ضوء هذه الأمثلة.
يمكن تحليل الآثار المترتبة على هذه الحادثة على العلاقات التركية-السورية، بالنظر في عوامل عدة في الساحة السورية. من وجهة نظر قتال تنظيم داعش، والمحاولات لتوحيد قوات التحالف ضده بما فيها روسيا، تعتبر حادثة إسقاط الطائرة الروسية خرقاً لهذا التحالف. فمنذ عام تقريباً، توجه الولايات المتحدة إلى جانب أعضاء آخرين في التحالف غارات جوية ضد داعش. وتشارك تركيا في هذه الهجمات كجزءٍ منه، وفي ظل المحادثات التي جرت مؤخراً بين تركيا والولايات المتحدة، ظهر اتفاق على توسيع نطاق القتال ضد داعش ليشمل عمليات برية. ولا شك أن الحادثة الأخيرة ستؤثر على المناقشات بين التحالف وروسيا بشأن القتال ضد داعش، وعلى الرغم من أن أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي لم يكونوا صارمين تجاه الدور الروسي في سوريا، على النقيض من موقفهم تجاه دورها في أوكرانيا، وبسبب تهديدات داعش، أفصحت لهم الحادثة الأخيرة مرة أخرى عن نوايا روسيا، سواءً في أوكرانيا أو في سوريا.
وترى المعارضة المعتدلة أن القصف الروسي، إلى جانب الهجمات البرية التي تقوم بها قوات سورية وإيرانية إضافة إلى حزب الله، ضد قوات المعارضة ستؤثر على السياسة التركية. وقد وقعت هذه الحوادث على إثر العمليات العسكرية الروسية ضد قوات المعارضة التركمانية قرب الحدود التركية. وقد شهدنا في الأسبوعين الأخيرين هجمات مكثفة تسعى لحماية القاعدة الجوية الروسية في اللاذقية، كما تسعى أيضاً للسيطرة على المناطق الحدودية مع تركيا. وقد كثفت روسيا من هجماتها بعد حادثة إسقاط الطائرة، ما تسبب في إزهاق أرواح المزيد من المدنيين. كما فجرت الطائرات الروسية شاحنات تحمل مساعدات إنسانية، ومخبزا تعمل عليه إحدى المنظمات غير الحكومية، وأدت هذه التفجيرات إلى حركة نزوح كبيرة للسوريين إلى تركيا بحثاً عن ملاذ آمن.
بالنسبة للعلاقات مع نظام الأسد، فإن حادثة إسقاط الطائرة ستزيد من التدخل الروسي في الصراع السوري، مما سيُسعد نظام الأسد ويزيد الخلاف بين أنقرة ودمشق. إن التواجد الروسي في سوريا قد يزيد من جرأة النظام، ليزيد قصفه في المناطق الشمالية، ما سيزيد بالمقابل أعداد الفارين من القصف. وتهدف الهجمات العشوائية على شمال البلاد أيضاً إلى إجبار عدد كبير من الناس على التوجه إلى تركيا.
وقد أظهرت الحادثة الأخيرة حاجة ملحة إلى المفاوضات من أجل التوصل إلى حل للصراع القائم. من ناحية أخرى، يبدو أن اجتماع الرباعية الدولية، الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، السعودية وتركيا، قد يكون صعباً في الوقت الحالي، بسبب الخلافات بين تركيا وروسيا. وبالنسبة للحوار الموسع، قد تؤثر الحادثة الأخيرة على نتائج المفاوضات.
السياق التاريخي
عندما نقوم بتحليل تاريخ العلاقات التركية مع سوريا، بصرف النظر عن الفترة ما بين العامين 1999 و2011، نجد مشاكل عديدة وفتوراً في العلاقة رغم كونهما بلدين متجاورين. وقد أدى تمترسهما في معسكرين مختلفين خلال سنوات الحرب الباردة، إلى ضعف التواصل بين دمشق وأنقرة. وبناءً على العلاقات الأمنية الحالية، وعضوية تركيا في حلف الناتو، إضافة إلى علاقة سوريا مع دول السوفييت خلال الحرب الباردة، يمكن تعريف الإطار العام للعلاقة الثنائية بين تركيا وسوريا. ويمكن إرجاع المصالح الروسية الحالية في سوريا إلى تلك الأيام. فإلى جانب الاختلافات الأيديولوجية، استخدمت سوريا قضايا محافظة هاتاي ومياه الفرات لمهاجمة تركيا. ومن أجل إزعاج تركيا وانتزاع بعض التنازلات في موضوع المياه، قامت سوريا بدعم حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تعتبره تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، ضد تركيا خلال فترة الثمانينات والتسعينات.
انتهت هذه الفترة بطرد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من سوريا، وتوقيع بروتوكول أضنة في عام 1988. وعندما نقوم بتحليل العصر الذهبي للعلاقات، مابين 1999 و2011، فإننا نستطيع أن نتحدث عن العديد من العوامل التي أدت إلى سعي الدولتين وراء علاقات أفضل. فعلى الصعيد التركي، سعت حكومة أنقرة إلى منع تذكر ما حدث في التسعينات، وحاولت التغلب على مشاكلها الأمنية والدعاية السلبية التي أطلقتها دمشق في العواصم العربية. وإلى جانب هذه الدوافع، قامت تركيا أيضاً بالانخراط مع سوريا، الأمر الذي أتى بفائدة اقتصادية على اقتصاد تركيا القائم على التصدير. أما من ناحية الانخراط الثقافي، فقد سعت حكومات حزب العدالة والتنمية إلى تطوير علاقات أفضل مع الشرق الأوسط، وكانت سوريا أرضية جيدة لاختبار ذلك.
أما على الصعيد السوري، فقد كان تغيير موقفها تجاه تركيا إيجابياً أيضاً. كان بشار الأسد جديداً في منصبه، وانطلاقاً من ذلك، كان في حاجة إلى تعزيز سلطته من أجل التغلب على التحديات الداخلية. فبدلاً من وجود المشاكل مع تركيا، كان من مصلحته تطوير علاقة ودية مع أنقرة، فقد جعله العزل السياسي المفروض على سوريا من قِبَل الولايات المتحدة، في حاجة لصلات سياسية مع دول أخرى. أما من ناحية العلاقات الاقتصادية، فقد كان الاقتصاد السوري في حاجة للإصلاح، وقد شمل رفع الاقتصاد السوري علاقات اقتصادية ناجحة مع تركيا.
وتشير العلاقات التركية- السورية إلى النموذج التاريخي وسيطرته على الأجندا الحالية. واليوم، تعرف العلاقات الأمنية خصائص العلاقات الثنائية. فعلى غرار سنوات الحرب الباردة، تزداد هيمنة الأجهزة الأمنية السورية على الساحة في ظل التواجد الروسي. وخلال خمسينات القرن الماضي، كانت تركيا قلقة حيال تزايد أعداد الضباط المؤيدين للاتحاد السوفيتي في الجيش السوري. وتفصح الأزمة بين تركيا وسوريا عام 1957 عن هذه المخاوف في كتب حول السياسة الخارجية التركية في ذلك الوقت. وكحالة مشابهة، مع تراجع قدرات الجيش السوري، نرى تزايداً في التواجد العسكري الروسي في بر وجو وبحر سوريا. وبالنظر لسجل مواقف روسيا مؤخراً في جورجيا، والقرم، وأوكرانيا، فإن تركيا قلقة حيال أمن أراضيها في الجنوب. وقد سعى النظام السوري إلى جانب روسيا إلى استخدام الورقة الكردية ضد تركيا كتذكير لما حدث في الثمانينات والتسعينات.
من المؤكد أننا لا نعيش ظروف حرب باردة، كما أثرت الحالة الأمنية حول العالم في الوقت الحالي بشكل كبير على احتمالية نشوء صراع عسكري. وتراجع قدرات النظام السوري، الذي يؤدي إلى ضعف تواجده على الأرض وفقدان السيطرة، أدى به إلى طلب توافد المزيد والمزيد من الدعم من القوات العسكرية الإيرانية والروسية إلى سوريا. ويذكّر التزايد في التواجد الروسي على الأراضي السورية في العامين الأخيرين، بالتنافس على مجالات التأثير في الشرق الأوسط أثناء الحرب الباردة. إن هذا ليس السيناريو الذي قد ترغب تركيا بحدوثه، ولذلك فإن صناع السياسة التركية يسعون جاهدين إلى إخماد فتيل الصراع، إلى جانب حماية سيادة بلادهم. وقد يكون مثال العلاقات التركية-الروسية خلال الحرب الباردة مفيداً في فهمِ الوضع الحالي.