كان الهدف من وراء محادثات جنيف الثالثة هو الوصول إلى اتفاق بغض النظر عما إذا كان منصفا وقابلا للاستمرار أم لا.

ليس من المفاجئ أن تتعطل محادثات اتفاقية جنيف الثالثة، وقد ألقى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري باللوم على المعارضة. ويبدو أن كيري مؤمن بأن العمليات العسكرية للنظام الروسي، والتي تواصلت خلال المحادثات وخلفت الكثير من الضحايا واللاجئين الفارين لتركيا، كانت نتيجة لتعليق المحادثات وهو ما من شأنه “تقزيم” المعارضة.  وإن كانت هذه التصاريح مقبولة أخلاقيا، فهي تعد تهربا من مسؤولية المجازر الحاصلة في سوريا.
لم تفشل محادثات جنيف بسبب عناد المعارضة، إذ كانت هنالك عوامل هيكلية كانت قد عرقلت المحادثات منذ البداية، وقد كشفت الاستعدادات التي سبقت المحادثات طبيعة الأزمة السورية ومدى استجابة المجتمع الدولي لها.
وقد كان الدافع الرئيسي للمحادثات هو الوصول إلى اتفاق بغض النظر عما إذا كانت الاتفاقية منصفة وقابلة للاستمرار أم لا. نظريا، يمكن أن تمارس القوى الدولية والإقليمية الكبرى الضغط على المعارضة، والتي تعد الطرف الأضعف، لإجبارها على قبول اتفاق “سياسي”.

هذا المنطق يتغاضي عن حقيقة أن صفقة سياسية لا يمكن أن تكون مستدامة إلا إذا كانت مدعومة اجتماعيا. فمن السهل نسبيا الوصول إلى اتفاق سياسي على مستوى النخبة لكن من الصعب التوصل إلى توافق اجتماعي، والسبيل لتحويله إلى توافق اجتماعي لا يكون إلا عن طريق الشرعية، فمدى شرعية الاتفاق في نظر الناس العاديين هو مؤشر لمدى استدامة أي قرار سياسي. وهنا تجاهل المجتمع الدولي، عن قصد أو عن غير قصد، هذه المسألة في محادثات جنيف.
وقد اعتقد المجتمع الدولي أنه بإمكانه التوصل إلى اتفاق من خلال إجبار الطرف الأضعف، أي المعارضة، على التخلي عن شروطها والحد من انتظاراتها. لكن هذه الطريقة قد تكون لها نتيجة عكسية، فقد تفقد المعارضة أية شرعية اكتسبتها من الشعب، وحينها ستكون قد فشلت في تحقيق تطلعات الشعب ومطالبه.
إن سبب رغبة المجتمع الدولي في تحقيق ذلك يبدو واضحا، فنظام الأسد لم يكن أبدا نظاما يحكم بالتوافق، بل لطالما كان نظاما دكتاتوريا، ويسعى هذا النظام إلى “المساومة” حول مطالب شعبه السياسية من خلال زيادة حدة المأساة. وكان النظام السوري وروسيا قد كثفا العمليات العسكرية بينما كان من المفترض أن يحاولا إيجاد حل للأزمة خلال محادثات جنيف، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن كلا من روسيا والنظام السوري يحاولان تقويض شرعية المعارضة في نظر الشعب السوري من خلال خلق نزاع داخل كتلة المعارضة. وجعلها تفشل في تحقيق الحد الأدنى من الشروط التي وضعتها قبل بدأ المحادثات.

إذن النظام السوري يستهدف أساسا شرعية ووحدة المعارضة، وتعتبر هذه الطريقة السبب الأصلي للأزمة السورية، لذلك فعلى المجتمع الدولي أن يرفضها خاصة وأن أي حل للملف السوري يستوجب مستوى عال من الشرعية وسلطة تمثيلية قوية. إذن فعلى المجتمع الدولي أن يسعى لمساعدة المعارضة على المحافظة على شرعيتها وعلى حماية وحدتها. فتلك هي الطريقة الوحيدة التي ستساعد المعارضة على الوصول لاتفاق وتنفيذه.

منذ محدثات جنيف واحد، لاحظنا وجود اتجاهين، فمن جهة، يوجد تراجع ملحوظ في النزاع بين الطرفين الرئيسيي للنزاع، الولايات المتحدة وروسيا. ويبدو أن الولايات المتحدة تعطي أولوية أكبر للعملية على حساب النتيجة، فهي تسعى لإيجاد تسوية بأي ثمن. أما روسيا فلها سياساتها وأولوياتها الخاصة بها، وهي على استعداد أن توفر الموارد وتوظف قوتها لحمايتها. وهذا يفسر توجه الولايات المتحدة نحو سياسة روسيا.
ومن جهة أخرى، تطور الإختلاف بين الأطراف الإقليمية مثل حزب الله، إيران، تركيا، السعودية وقطر، وأصبح هذا الاختلاف يوصف بأنه خطير. وقد تفضل الأطراف الداعمة للمعارضة أن تسلك طريق الخطر، خاصة بعد أن شعروا أنهم قد تُركوا وحدهم.
وتحتاج الولايات المتحدة بشكل خاص إلى أن تكون حذرة من خيبة أمل حلفائها وشعورهم بالإحباط. وإلا فإن هذه الهوة بين دول المنطقة ستكون عائقا رئيسيا أمام تحقيق أهداف المحادثات. ويعتبر التعارض بين سياسات المعارضة والنظام السوري أحد العوائق الأخرى، فقد شاركت المعارضة في محادثات جنيف من موقع سياسي في غاية الضعف، خاصة بعد تهديدها ووضعها تحت الظغط من قبل مسانديها الدوليين والإقليميين، كما تعرضت للقصف من قبل القوات الروسية وقوات النظام.
ومن جهة أخرى، كان النظام السوري في موضع قوة خاصة مع الدعم الذي يتلقاه من قبل حزب الله، وإيران وروسيا، كما تم منحه مزيدا من الشرعية الدولية.
هذا التباين في الذهنية السياسية للطرفين يقلل من استعداد النظام لتقديم أي تنازلات، كما يقلل من ثقة المعارضة في التوصل لأي تسوية سياسية، وتحتاج هذه المسألة للمعالجة، ولكن هذا يتطلب موقفا حازما من جانب أنصار المعارضة الإقليمية والدولية لمساعدة المعارضة من خلال الضغط على النظام وروسيا لوقف الهجمات العسكرية خلال المحادثات.