يعود التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى جذوره الممتدة داخل التحولات السياسية الإقليمية، بجانب التغيرات الاجتماعية بداخل السعودية نفسها. فلقد اختل ميزان القوى في الشرق الأوسط بعد حرب العراق عام 2003، والتي أتاحت المجال للصعود الإيراني، فضلاً عن أن موجات التحول الديمقراطي التي ظهرت في العالم العربي عام 2011 قد قوضت الأُسس التي بُني عليها استقرار النظام وأمن المنطقة. بعد اعترافها الضمني بالصعود النسبي للقوى الإيرانية ونفوذها الإقليمي، ترى السعودية أن إدارة أوباما ساهمت في تفاقم الوضع، وقد أدت هذه الأفكار إلى خلق فجوةٍ بين الحليفين القديمين، فالسعودية باتت تشعر بأنه قد تم التخلي عنها فيما يخص احتياجاتها الأمنية، خاصةً فيما يتعلق بالصعود الإيراني، والتحول الديمقراطي، وتصاعد خطر السلفيين المتشددين.

 

لطالما ارتكز النظام السعودي على هيكلٍ ثلاثي من التحالفات: فعلى المستوى المحلي، هنالك تحالف بين النظام ورجال الدين المحافظين، والذي يعود بدايته لتحالف محمد بن آل سعود مع محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى التحالف بين العائلة المالكة والقبائل السنية المختلفة بشبه الجزيرة العربية، وهو التحالف الذي تم توطيده عن طريق عدة زيجاتٍ ملكية. لكن الهيكل لم يحظ ببعده الدولي الثالث حتى عام 1945، وذلك عن طريق التحالف الأمني بين المملكة السعودية والولايات المتحدة في عهد الملك السعودي عبد العزيز بن سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت. يتمتع البُعد المحلي من النظام السياسي السعودي باستقرارٍ وثبات على الرغم من الضغوطات الاجتماعية التي تثقل كاهل نظامها. ولسخرية القدر، فهذه الضغوطات تعود إلى نجاح النظام في تجديد الاقتصاد، وتحقيق تقدمٍ في التعليم وخطط التمدن. وعلى الجانب الآخر، فالبُعد الدولي الثالث لهيكل النظام يعاني من أزماتٍ متزايدة بسبب تحولات السياسة الإقليمية، خاصة بعد حرب العراق عام 2003 وبعد الربيع العربي. تُعد السعودية تطبيقاً حرفياً لنموذج الدول الريعية. ووفقاً لهذا النموذج، فالدول التي لديها وفرة هائلة من الموارد الطبيعية لا تضطر إلى فرض الضرائب على مواطنيها، ولغياب هذا الرابط الاقتصادي آثارٌ ضمنية قوية على السياسات الدولية والمحلية، فبدلاً من ذلك الرابط الاقتصادي بين الدولة والمجتمع، تعتمد الدولة على الأموال الخارجية التي تتحصل عليها من خلال بيع مواردها الطبيعية، ويتنبأ النموذج أيضاً باعتماد دول الريع على الأسواق الخارجية والتحالفات الأمنية من القوى العالمية. وقد صدقت جميع تنبؤات هذا النموذج على السعودية كتطبيقٍ له حتى هذه اللحظة. إلا أن المملكة ترزح الآن تحت ضغطٍ كبير يدفعها نحو التغيير، ضغطٍ ناتجٍ عن العولمة والتغيرات الدراماتيكية على الساحة الجغرافية/السياسية في المنطقة، بالإضافة إلى مجتمعها المتزايد عدده وعدد المتعلمين فيه، مما يجعله أكثر تطلباً، وقبل كل هذه العوامل، يأتي انخفاض أسعار بيع النفط. بوجود هذه الأزمة في نموذج اقتصادها، فالسياسة الخارجية للمملكة، وتحديداً علاقتها الخاصة بالولايات المتحدة، ليست بمنأى عن هذه الضغوط.

في عالم السياسات الخارجية، تضرب المملكة السعودية مثلاً في ديناميكيتها وقدرتها الكبيرة على التأقلم مما يحبط تنبؤات النموذج الاقتصادي الذي ينبطق عليها. فنموذج الدول الريعية يتكهن بمحدودية علاقاتها بداخل إطار مشترٍ/بائع، وذلك بسبب طبيعة اقتصادها المعتمدة على بيع مواردها الطبيعية. لقد ظلت الولايات المتحدة هي الحليف التاريخي الذي اختارته السعودية لنفسها. لكن بحلول الربيع العربي، تعاملت السعودية مع التحديات الأمنية الجديدة بما يتفق مع رؤيتها الخاصة، تعاملٌ يتصل بهويتها وبجذورها التاريخية. فالسعودية قامت بالخروج عن خط السياسات المرسوم من قبل الولايات المتحدة، قبل أن تبدأ في إعلان استيائها من هذه السياسات الإقليمية المدعومة من الطرف الأميركي. في الوقت نفسه، كان على السعوديين التعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة بفعل انخفاض إيرادات النفط، والزيادة السكانية، بالإضافة إلى زيادة حدة التوتر الطائفي. من وجهة النظر السعودية، فهنالك ثلاثة تهديدات أمنية دولية على المملكة، لكلٍ منها أبعاده وآثاره على السياسات الداخلية: (1) زيادة حيّز النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، (2) موجات التحول الديمقراطي التي صاحبت الربيع العربي، وأخيراً (3) صعود المتطرفين السلفيين. ويرى السعوديون أن الولايات المتحدة قد تخلت عن أولويات التحالف السعودي الأميركي التقليدية، تاركةً السنة ليواجهوا بمفردهم صعود إيران ومن خلفها سياساتها الطائفية. وتشعر السعودية بضرورة التصرف تبعاً لهذه التغيرات في الظروف الأمنية الحالية باحترازات ذاتية، وكسبٍ لحلفاءٍ إقليميين، بالإضافة إلى المزيد من القمع ضد الأقليات الطائفية داخل المملكة.

الصعود الإيراني

يؤمن السعوديون بأن السبب وراء تفاقم هذه التهديدات، وخاصةً الصعود الإيراني، هو سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وأن نقطة التحول الرئيسية التي سبقت كل ذلك هي حرب العراق عام 2003، والتي أعادت تشكيل الخريطة الجغرافية/السياسية للشرق الأوسط. لا يقتصر السجال بين السعودية وإيران على السياسة فقط، بل يمتد إلى أبعادٍ ثقافية، وفكرية، واقتصادية، وجغرافية/سياسية. ووفقاً للقراءة الأمنية السعودية، فإيران هي عدوٌ جغرافي/سياسي، يستخدم ورقة الصراع الطائفية لزيادة دائرة نفوذه حول المملكة التي بدورها تشعر بالحصار بسبب هذا التوسع، خاصةً مع العدد الكبير للشيعة السعوديين الذين يعيشون على ساحل الخليج العربي. وبعد أن استتب الأمر للشيعة العراقيين وصار النظام الحاكم منهم، زادت القوى الإيرانية تلقائياً، وتشجعت الحركات الشيعية العربية للسعي إلى السلطة في البلدان العربية الأخرى، بل وقَوي سعيهم نحوها بعد حلول الربيع العربي. اليوم، يمتد النفوذ الإيراني ليشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي الخليج العربي توجد البحرين ذات الأغلبية الشيعية التي تتراوح نسبتها بين 65 و75 بالمائة. بينما يقتصر الأمر في الكويت على نفوذ الشيعة مع كونهم أقلية في دولتهم الغنية بالنفط. على الرغم من أن الشيعة السعوديين تتراوح نسبتهم بين 10 و15 بالمائة من مواطني المملكة، إلا أنهم يعيشون في مناطق الاحتياطي النفطي السعودي، مما يجعلها تشعر بضغطٍ دائمٍ من الصعود المتزايد للنفوذ الإيراني، خاصة وأنها مُحاصرةٌ من جميع الاتجاهات بمدٍ شيعي، باستثناء حدودها مع الأردن. وقد أدى إعدام المملكة لآية الله النمر بيناير الماضي إلى إثارة ردود فعلٍ غاضبة من حكومات العراق وإيران، وقوبل بمظاهرات للشيعة في العديد من مدن المنطقة، لكن السعودية قد أكدت أن النمر قد ارتكب جريمة عصيان النظام الحاكم، وإثارة الفتن الطائفية. كانت هذه رسالة سياسية للإيرانيين، لكن الرد جاءهم سريعاً. فقد وجه المرشد الأعلى لإيران، آية الله خامنئي، ضربته للسعودية، وعصفت تظاهرات المدنيين بالسفارة السعودية في طهران. إلا أن السعودية لم تجد أميركا بجوارها في خضم هذا الصراع، بعد أن التزمت الأخيرة الصمت. وكان الطرفان على موعدٍ مع مواجهة أخرى في قمة منظمة التعاون الإسلامي التي عُقدت باسطنبول، حينما دبرت السعودية بيان إدانةٍ يتهم إيران بممارستها لسياسات عرقية وبإحباطها لمساعي تركيا للحد من التوتر الطائفي.

وصل أوباما إلى كرسي الرئاسة الأميركي عام 2009 بعد حملة انتخابية كانت منتقدة للحرب على العراق، والتي وعدت الأميركيين بالخروج من العراق وأفغانستان. وفقاً لهذا، فسياسة الرئيس الأميركي الخارجية لم تحيد عن أجندته الانتخابية، لكن من ناحية أخرى، فإحجامه عن التدخل العسكري في الصراع السوري قد انتهى إلى نتيجة مماثلة لما انتهت إليه الحرب العراقية. أي أن التدخل الأميركي في العراق، وحيادها العسكري في سوريا وصلا بإيران إلى أن تكون قوة إقليمية، وسمحا لها بأن تستخدم ورقة الطائفية لزيادة نفوذها. وأخيراً، أدى الاتفاق النووي بين إيران والغرب إلى زيادة القدرات الإيرانية، ومنحها شرعية تستند على كونها أحد صناع السلام في المنطقة، تحديداً فيما يخص الإرهاب الداعشي.

تعامل السعودية مع موجات التحول الديمقراطي

يُعد معدل نمو السكان السعودي أحد أسرع معدلات نمو السكان في العالم، ويُقدر عدد السكان بما يقارب الثلاثين مليون مواطنٍ. لقد استثمرت المملكة في تعليم أبنائها كما لم تفعل أي دولةٍ أخرى في الشرق الأوسط، فالآلاف من الطلبة السعوديين يحصلون على درجاتهم الجامعية من الخارج ممولين بمنحٍ دراسية حكومية، ويوجد في السعودية ما يزيد عن ثلاثين جامعةٍ، من بينها جامعة الملك عبد الله البحثية للعلوم والتكنولوجيا بجدة، وجامعة الأميرة نورا بنت عبد الرحمن، التي يدرس فيها ما يزيد عن ستين ألف طالبة، ما يجعلها أكبر جامعةٍ مخصصة للفتيات على الإطلاق. يُرى هذا الاستثمار التعليمي على أنه إشارة قوية على “التزام النظام بفتح المجال السياسي والاجتماعي والثقافي بالمملكة”، وعلى بناء “البنية التحتية اللازمة للتحول الاقتصادي والتقني في المستقبل”. في المقابل، فقصور التنوع الاقتصادي بالسعودية، بسبب الاعتماد شبه الكامل على عوائد النفط، بالإضافة إلى قوانين المملكة المحافظة، أديا إلى صعوبة وصول آلاف الخريجين والخريجات من جامعات المملكة إلى طموحاتهم المهنية. تستند الشرعية الداخلية للنظام السعودي في الأساس على “هبات” المملكة، فالاقتصاد السعودي كان قادراً على توفير حياةٍ جيدة لمواطني المملكة عن طريق إعانات الطاقة والنفط المرتكزة على عوائد النفط ذاته، إلا أن هنالك مطالب متزايدة من خبراء اقتصاديين بضرورة قطع هذه الإعانات. وفي المستقبل، ومع تزايد الكثافة السكانية، ومطالب الفئة العمرية الأصغر من الطبقة المتوسطة ذات التعليم الجيد باقتصادٍ أكثر تنوعاً، قد تضطر المملكة السعودية إلى أن تضع نهايةٍ لتبنيها نموذج الدولة الريعية وتبدأ في تحصيل الضرائب من مواطنيها. كان ولي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، قد أعلن عن خطته لتحولٍ اقتصادي ضخم ضمن “رؤيته للمملكة العربية السعودية” والتي تسعى لإضفاء مزيدٍ من التنوع على اقتصاد المملكة، وذلك كي تكون مستعدة لمجابهة مستقبل ما بعد النفط الذي أصبح حتمياً. تستلزم هذه الخطة خلق أكبر تمويلٍ سيادي على مستوى العالم بقيمة اثنين تريليون دولار في صورة أصولٍ خُلقت من بيع خمسة بالمائة من حصة شركة آرامكو، بالإضافة إلى بدء الاعتماد على التحصيل الضريبي على القيمة المضافة، وضرائب أخرى على السلع الترفيهية والمشروبات السكرية. سيتم تحويل هذا التمويل إلى أصولٍ غير نفطية، بالإضافة إلى أنها “سيتم استثمارها في إيجاد مصادر دخلٍ غير نفطية للحكومة السعودية”. ويأمل ولي ولي العهد ذو العقلية الإصلاحية بأنه “في خلال عشرين عاماً، سنصبح اقتصاداً أو دولةً لا تعتمد بشكل رئيسي على النفط”. ولكن يبقى السؤال، كيف سيتمكن النظام السعودي من تحقيق هذا التحول إلى الاقتصاد المُعتمد على الضرائب بدون أية تجديداتٍ موازية لسياساته. لا تخفى هذه المعضلة عن الأمير محمد بن سلمان، لكنه ينوي أن يتم التحول بصورة بطيئة تعتمد على إتمام الإصلاحات السياسية والاجتماعية اللازمة، وذلك كي يتفادى إثارة القاعدة الدينية المحافظة.

لكن موجة التحول الديمقراطي التي اجتاحت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2010، ووصلت إلى اليمن عام 2013، أصابت السعودية أثناء هذه المرحلة الانتقالية. اقتصر رد فعل النظام الأولي على هذه الموجة بشراء الشرعية عن طريق توزيع الأموال على الشعب، بالإضافة إلى قمع المعارضة. كما أنها لعبت على وتر الطائفية كي تضمن ولاء الأغلبية السنية لها، فقد حشدت قواتٍ عسكرية وأرسلتها إلى البحرين لمساعدة الحكومية السنية في إخماد الثورة الشيعية التي قامت عليها في فبراير عام 2011. كما أنها تزعمت حملة مكلفة وغير ناجحة من الضربات الجوية على الحوثيين منذ عام 2015 أسمتها (عملية عاصفة الحزم). كما لعبت دوراً هاماً في دعم التدخل العسكري في مصر، والذي أطاح برئيسٍ أتى بانتخابات ديمقراطية، وهنأت الرئيس المؤقت، الذي أتى به وقتها القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح السيسي، بعد يومٍ واحدٍ من الإنقلاب، بل وتزعمت السعودية عدة دولٍ عربيةٍ أخرى كي تعلن أن جماعة الإخوان المسلمين جماعةً إرهابية، الوصف الذي تم التصديق عليه من قبل روسيا، لكنه لم يكن مقبولاً من طرف الولايات المتحدة. من الواضح تماماً عدم رضا الجانب السعودي عن رد الفعل الأميركي تجاه الربيع العربي، والذي يمكن وصفه بالـ “مُتذبذب”، فبعد خلع القائد الليبي مُعمر القذافي بالقوة، التزم الأميريكيون الحياد ولم يفعلوا شيئاً ضد الديكتاتور السوري بشّار الأسد. فمن ناحية، دعمت واشنطن بقوة الانتقال الديمقراطي في مصر وليبيا وتونس، وقد كرر الرئيس أوباما رداً منه على الانتقادات التي وُجهت له بسبب تدخله في الشئون الداخلية لهذه الدول بأن كل هذه الأمور “ليست لها علاقة بالولايات المتحدة”. لكنه في خطبته التاريخية بجامعة القاهرة عام 2009 التي حملت اسم “بداية جديدة”، كان قد عبر عن دعمه القوي لتغييرات سياسية في الشرق الأوسط، بل إن الإدارة الأميريكية صممت وقتها على السماح لعشرة أعضاءٍ على الأقل لجماعة الإخوان المسلمين بحضور هذا الخطاب. وكان للضغط الأميركي على الرئيس الأسبق حسني مبارك دوراً هاماً في الإطاحة به بعد المظاهرات الحاشدة التي خرجت ضده عام 2011.

ومن ناحية أخرى، فالولايات المتحدة بقيت بعيدةً عن الصراع فيما يخص سوريا، التي سيؤدي فيها دعم الديمقراطية إلى الإطاحة بنظام موالٍ لإيران، ومنح السلطة لحكومةٍ سنية. ظل الموقف الأميركي سلبياً تجاه وحشية النظام السوري ضد المدنيين، الأمر الذي دفع بدفة الصراع تدريجياً تجاه التطرف. وقد أبدى مسؤولون سعوديون هذه الانتقادات تجاه الموقف الأميركي أكثر من مرة. لكن في عام 2013، خرج الأمير بندر بن سلطان رئيس المخابرات السعودية لينتقد بحدة السياسات الأميركية، معلقاً على أن الولايات المتحدة قد فشلت في أن تتدخل بفاعلية في الصراع السوري، وفشلت في أن تدعم النظام السعودي في معركته في البحرين عام 2011، معقباً بأن المملكة تعتزم أن تأخذ علاقتها بالولايات المتحدة اتجاهاً جديداً. لكن السعودية تعرف أنها لا تمتلك اختيارات واقعية أخرى لحلفاءٍ ذوي قوى عظمى كي يحلوا محل شراكتها مع أميركا، كما أن للمرشحين الآخرين اختلافات جوهرية عن الموقف السعودي فيما يخص الشأن الإيراني. لذا، انتهى عهد الاعتماد على أحلافٍ أمنية مع القوى العظمى.

زيادة القبول الشعبي للتطرف السلفي

من الواضح أن خطاب السعودية المُتمحور حول المد الإيراني الشيعي قد ساعدها على تهدئة بل وإسكات عناصر المعارضة الديمقراطية والمتطرفة الذين يشاركون النظام إحساسه المتزايد بانعدام الأمن بسبب ذلك الأمر. وتزعم سانام فاكيل بأن: “الخطاب الطائفي يخدم مصالح النخب في طهران والرياض، التي ترغب في إلهاء رعيتها عن أزمات الحكم المحلية”. لكن ذلك يخلق أمام النظام معضلةً ودائرةً مفرغة. فهذا الخطاب الطائفي يشعل الطائفية، التي تثير بدورها أعداءً طائفيين، وازدياد الطائفية أرضٌ خصبة لصعود السلفية الجهادية، والتي تحتاج إلى رد فعلٍ قوي من الأنظمة الحاكمة. يقول توبي جونز في النيويورك تايمز: “إشعال الطائفية لن يؤدي إلا إلى تمكين المتطرفين، مما سيؤدي إلى زعزعة استقرار منطقةٍ هي في الأصل سريعة الاشتعال”.

وفي هذا المناخ، تزدهر القاعدة الآن في اليمن، بل وأدى القمع الطائفي للسنة على يد الشيعة في العراق وخلال الأزمة السورية إلى خروج داعش للنور. بإمكان هذه المجموعات أن تنسل بسهولة إلى الداخل السعودي بسبب تشابه عقيدتهم الدينية مع عقيدة المؤسسة الدينية السعودية، فالتفسير السلفي للإسلام، وهو التفسير المميز خاصةً فيما يتعلق بالتشيّع، يعود بأصوله إلى فكر المؤسسة الدينية السعودية نفسها. لقد بَنَت داعش شرعيتها بتصدير صورتها على أنها الجيش الذي يشن حرباً على المد الشيعي وعلى إيران في سوريا والعراق، مما يعزز من قدرتها على الاستقطاب والحصول على التمويل. وعلى الجانب الآخر، فالنظام السعودي يشعر بالاضطراب أمام صعود داعش لنفس هذه الأسباب، فمن الممكن أن تنقلب داعش عليه بعد ذلك، لذا فليس للسعوديين أية نية بأن يبدو عليهم أي ضعفٍ في صراعهم ضد إيران. لذا فمن وجهة نظر السعوديين، من الضروري أن يتم التخلص من النظامين العراقي والسوري المواليين لإيران كي تتزعزع شرعية داعش، خاصةً بين العدد المتزايد من الشباب الذين يميلون إلى تيارات الإسلام المتطرفة. لكن على الناحية الأخرى، فإرهاب داعش قد ساعد على منح إيران والأنظمة الموالية لها شرعيةً كانت تحتاجها، بما فيها نظام الأسد. وفي الوقت نفسه، فالولايات المتحدة بدأت في فقدان اهتمامها بالحرب على داعش، فلقد صرح الرئيس أوباما أكثر من مرة بأن أي تدخل عسكري على الأرض غير قابل للنقاش، وذلك لأن داعش لا تمثل خطراً وجودياً على الولايات المتحدة، بالإضافة لأن تدخلاً كهذا سيزيد من رقعة نفوذ التطرف على مستوى العالم الإسلامي بأسره. لقد أعلن أوباما أيضاً خططه بزيادة عدد القوات الخاصة الأميركية على الأرض في سوريا إلى ثلاثمائة بدلاً من عددها الحالي الذي يقارب الخمسين. قد يكون ذلك الموقف مجرد طريقة لتحسين صورة الموقف الأميركي في سوريا بعد الاستياء الإقليمي الواسع من موقفها السابق.

أثر الحادي عشر من سبتمبر الباقي في العلاقات السعودية الأميركية

أحد أهم الدلائل على ارتباك العلاقات الأميركية السعودية هو القرار الذي كان مقترحاً في الكونغرس الأمريكي، والذي بمقتضاه كان بإمكان أسر ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر مقاضاة الحكومة السعودية. لكن الرد السعودي على هذه المحاولة جاء عن طريق وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الذي صرّح بأن المستثمرين السعوديين سيقومون بسحب أموالهم من أميركا، التي تتضمن سبعمائة وخمسين مليار دولار في الخزينة الأميركية، بالإضافة إلى استثمارات سعودية مختلفة، وذلك إذا قام الكونغرس الأميركي بتمرير القرار. ومن ناحية أخرى، ففي نسخته المنشورة، أكد تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر الصادر عام 2002 أنه لا توجد أي صلات بين المملكة السعودية كمؤسسة وبين تنظيم القاعدة، الجهة التي نفذت الهجمات. لكن قراراً مدعوماً من كلا الحزبين قد صدر من الكونغرس ليطلب من البيت الأبيض الكشف عن الثماني وعشرين صفحة التي كانت جزءاً من التقرير، قبل أن يتم حذفهم بداعي السرية بطلبٍ من إدارة الرئيس السابق جورج بوش. وظلت هذه الأوراق على سريتها حتى بعد مجيء أوباما إلى البيت الأبيض، لزعمه بأن الكشف عن هذه الأوراق سيعرقل مساعي الولايات المتحدة ضد الإرهاب. وفقاً لعضوي الكونغرس؛ والتر جونز المنتمي للحزب الجمهوري ويمثل شمال كارولينا، وستيفان لينش المنتمي للديمقراطيين عن ولاية ماساتشوستس، واللذان أعدا القرار، فالصفحات المفقودة تحتوي دلائل مباشرة على تورط أشخاص وكيانات سعودية في الهجمات. لكن السعودية نفسها قد طالبت بالكشف عن هذه الأوراق لدحض هذه المزاعم، فلقد صرح الأمير بندر بن سلطان بأن: “ليس للسعودية ما تخفيه، بإمكاننا أن نجيب على أسئلة الجميع، لكن ليس بمقدورنا الرد على صفحاتٍ خالية”. لاقى تحالف الحزبين الأمريكيين بالكونغرس للبحث خلف حقيقة الدور السعودي مقاومة شديدة من البيت الأبيض. فقد رفض الرئيس أوباما القانون زاعماً أنه سيُعرض الولايات المتحدة هي الأخرى بأن تُحاكم من قبل مواطني دولٍ أخرى.

 في زيارته في شهر أبريل للسعودية لحضور قمة مجلس التعاون الخليجي، حاول أوباما أن يقنع السعوديين بأن موقف الولايات المتحدة من السعودية لم يتغير، وأنها لا زالت ترى في المملكة حليفاً لها. لكن سُخط السعوديين كان جلياً في استقبالهم للرئيس الأميركي في المطار، فلم يجد هنالك من يرحب به سوى أمير الرياض (حاكمها الإقليمي). رد أوباما كان من خلال الانتقادات القوية والمُستترة التي وجهها للسعودية وبقية الأنظمة الخليجية فيما يتعلق بالطائفية: “إن الاستقرار والرخاء في المنطقة يعتمد على معاملة الدول لكل مواطنيها بعدالة… والطائفية هي عدو السلام والرفاهية”. وكما أبرز سيمون هيندرسون في مجلة فورين بوليسي، فبدلاً من التظاهر بنجاحٍ دبلوماسي في استعادة العلاقات، كانت الزيارة: “أقرب لأن تبرز مدى اتساع الفجوة بين واشنطن والرياض والتي تتفاقم على مدار الثمانية أعوامٍ الماضية”.

ختام

توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية أكثر تعقيداً من يكون بسبب الإدارة الأميركية الحالية فقط، فالولايات المتحدة تحاول أن تتأقلم مع النظام العالمي الجديد متعدد القوى، بعد أن كانت هي القوة العظمى بمفردها سابقاً، ومع الصعود الصيني، ومع التغيُّر العام في معايير الاقتصاد العالمي، والتي بسببها أصبحت منطقة آسيا والمحيط الهادي أكثر أهمية للاستراتيجيات الأمنية للولايات المتحدة عن الشرق الأوسط. لقد سعت إدارة أوباما إلى السير على استراتيجية الإنسحاب العسكري، ونجحت في التخلص من أو حتى تقليل التوتر مع أعدائها السابقين، ككوبا وميانمار وإيران، مع اتجاهها إلى استراتيجيات ما قبل 2003 التي اعتمدت على “تحقيق توازن القوى عن بُعد”، بمعنى الحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، في وجود الولايات المتحدة بوصفها مسؤولة عن إبقاء هذا التوازن. لكن الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة بعد انسحابها من المنطقة، ملأته إيران الصاعدة بسياساتها الطائفية. وهذه هي جذور استياء وغضب المملكة السعودية من الولايات المتحدة في الأعوام الماضية.

وبإدراكها أنها لن تعد قادرة على الاعتماد أمنياً على حليفتها أميركا، تستعد المملكة الآن كي تسعى للحصول على دورٍ بارزٍ في توازن القوى الإقليمي. وهي تعرف أن فرصها في الإبقاء على العلاقات المميزة السابقة مع الولايات المتحدة أصبحت ضئيلة، وأن بناء علاقات جديدة مع قوى عظمى كروسيا والصين أمرٌ مستحيل عملياً لأنهما لا تشاركان السعودية نفس وجهة النظر الأمنية في المنطقة. لذا، لا يبدو للسعودية مفرٌ من سياسة الاعتماد على النفس، فهي الطريقة الوحيدة التي ستضمن للمملكة أمنها. أصبح خبراء الأمن الآن يتكلمون عن عقيدةٍ سعوديةٍ جديدة، عقيدة سلمان، نسبةً إلى مُهندسها، ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. هذه العقيدة تسعى إلى الاعتماد على النفس والحفاظ على الأمن الإقليمي. وبإنفاقٍ سنوي يقارب التسعين مليار دولارفي العام، أصبحت للجيش السعودي ثالث أكبر ميزانية على مستوى العالم، متخطياً الجيش الروسي. ولدوره، فستظل الولايات المتحدة المزود الرئيسي لأسلحة الجيش السعودي، استمراراً لما باعته لهم من عتادٍ عسكري يبلغ قيمته خمسة وتسعين مليار دولار في الأعوام القليلة الماضية. وفي نفس الوقت، ستستمر السعودية في تطوير وتحديث مخابراتها وبنيتها العسكرية، وستحاول خلق تحالفاتٍ إقليمية تتضمن جيوشٍ سنيّة تتمتع بالقوة كجيشي مصر وتركيا، ودولٍ خليجية ذات اقتصادٍ قوي كالإمارات العربية المتحدة. لكن هذه الخطوات الساعية إلى تحقيق الأمن، لن تستطيع تحقيق ما يكفي الاحتياجات الأمنية السعودية، إلا إذا واجهت المملكة التحديات التي في طريق احتياجاتها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية بمبادراتٍ مثل تلك التي يتولاها الأمير محمد بن سلمان.