انتصار ديمقراطية وتحسر استبداد

“الجيش التركي يطيح بإردوغان.” كان ذلك عنوان الصفحة الأولى لأعرق الجرائد المصرية – الأهرام – في يوم 16 يوليو 2016. العنوان عكس أمنيات النظام الحاكم في مصر، لا حقيقة ما يجرى في تركيا، وهو النمط السائد حالياً في معظم وسائل الإعلام المصرية. لم تكن هناك أية مفاجآت في الترحيب بنجاح انقلاب فاشل. ولكن الأمر لم يقف عند صحف النظام، وانما حاول ممثله في مجلس الأمن عرقلة بيان إدانة لمحاولة الانقلاب، بسبب دعوة المجلس “لاحترام الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في تركيا.”

انقلابات مصر (١٩٥٢-٢٠١٣)

وبعيدا عن المكايدات الطفولية، عانت كل من مصر وتركيا من حوالي ستة انقلابات ومحاولات انقلاب جدية منذ تأسيس الجمهوريتين. ففي مصر، أنهي انقلاب ١٩٥٢ الملكية الدستورية، ثم أنهي انقلاب ١٩٥٤ فترة انتقالية هشة، وأنشأ على أنقضاها “جمهورية عسكر،” بدلاً من جمهورية برلمانية. وفي عام ١٩٧١، أحبط الحرس الجمهوري محاولة انقلاب على الرئيس أنور السادات، اعتقل على إثرها وزراء الدفاع والداخلية والإعلام ونائب رئيس الجمهورية وبعض العناصر المخابراتية والمدنية. إلا أن الانقلابات الثلاثة الأخيرة في مصر كانت ناجحة. فاستولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة في فبراير ٢٠١١ منهياً بذلك ديكتاتورية مبارك وممهداً الطريق لفترة انتقالية بعد انتفاضة شعبية استمرت ١٨ يوما. حافظ المجلس العسكري على الامتيازات الخاصة للجيش خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك “حق نقض” في السياسات العليا، واستقلالية الاقتصاد العسكري عن خزانة الدولة، والحصانة القانونية من المحاكم المدنية، وسمح خلال هذه الفترة بحريات سياسية واجتماعية غير مسبوقة في تاريخ مصر المعاصر. أما انقلاب ٢٠١٢، فكان أقل وضوحا، ومر دون أية مقاومة محلية أو إدانة دولية. فقد حل المجلس العسكري البرلمان بعد حكم قضائي خاص بقانون الانتخابات وأصدر إعلانا دستورياً يعطيه المزيد من الصلاحيات السياسية والتشريعية والأمنية. ولكن انقلاب ٢٠١٣ كان الأكثر دموية مقارنة بجميع انقلابات مصر في الماضي. وقد ألغى المكسبين الرئيسيين لانتفاضة يناير ٢٠١١: الحريات الأساسية غير المسبوقة، والانتخابات الحرة والنزيهة غير المسبوقة أيضاً.

انقلابات تركيا (١٩٦٠-٢٠١٦)

كان مسار ومصير انقلابات تركيا مختلفاً. فقد أنهى انقلاب ١٩٦٠ أول تداول سلمي ديمقراطي للسلطة في تركيا الحديثة بمأساة مدوية، وهي إعدام الرئيس عدنان مندريس. أقال بعدها العسكر ٢٣٥ جنرالاً، وأكثر من ثلاثة آلاف ضابط وخمسمائة قاض و١٤٠٠ أستاذ جامعي. أما انقلاب ١٩٧١، فكان شبه أبيض، انقلاب بواسطة الرسائل – بدلا من الرصاص – وقد انهى حكومة سليمان ديميريل المنتخبة قبل استكمال مدتها. ولكن انقلاب ١٩٨٠ كان الأكثر دموية من بين الانقلابات الناجحة. فقد نفذ العسكر خمسين حكما بالإعدام، واعتقلوا أكثر من نصف مليون مواطن ومواطنة. وقد نجح قائد الانقلاب -أحمد كنعان افرين – في إقامة “جمهورية عسكر،” لفترة مؤقتة قبل أن يحاكم عام ٢٠١٢ ويدان بجرائمه عام ٢٠١٤. ومثل انقلاب ١٩٧١، كان انقلاب١٩٩٧ أيضا بالمذكرة. فقد امتثل لأوامر العسكر معظم السياسيين ومكونات الشعب حقنا للدماء، بعد مذكرة تطالب رئيس الوزراء بالاستقالة وإلا. ولكن هذا النمط بدأ في الانهيار بوضوح منذ عام٢٠٠٧. فقد صار السياسيون المدنيون ومعظم المواطنين وشرائح كبيرة من مؤسسات الدولة أكثر جرأة وأشد رغبة في تحدي حكم العسكر. فأجهضت محاولة انقلاب ٢٠٠٧ عبر دعوة اردوغان – رئيس الوزراء حينها – إلى انتخابات مبكرة، وأيضا عبر تهديده برفع تكلفة الانقلاب من خلال المقاومة. كانت تركيا بلا شك تتغير، إلا أن ذلك لم يثن انقلابيي ٢٠١٦ عن فعلتهم.

المسارات المضادة لانقلابات تركيا ومصر
لماذا نجحت الانقلابات الأخيرة بمصر في الاطاحة بالسلطات القائمة، بينما فشلت في تركيا؟ الإجابة تكمن في ستة اختلافات رئيسية.

على المستوى البنيوي، تركيا عادة في بلاد “الثلث الأعلى” من قوائم مؤشر التنمية البشرية، وهي إحصائية مركبة من مستويات التعليم (كمقياس للوعي)، والدخل (كمقياس للحالة الاقتصادية)، ومتوسط العمر المتوقع (كمقياس للصحة). مصر عادة ما تكون في الثلث الثان أو الأخير من القوائم. أي أن تركيا في مستوى آخر من التنمية الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية (كما موضح في قوائم الشفافية/الفساد وسيادة القانون)، وبالتالي ينعكس ذلك على النضج المجتمعي.

وقد كان للتاريخ تأثيره كعامل بنيوي آخر. فقد ترك انقلاب ١٩٨٠جراحا غائرة داخل المجتمع التركي، وتكرارها لم يعد مقبولا لدى الأغلبية الساحقة. وقد ترك انقلاب٢٠١٣ جراحاً مماثلة في مصر، ولكنها جراح حديثة لم تبن عليها بعد دروس مجتمعية مستفادة، وإن كان ذلك قد يحدث في المستقبل القريب أو البعيد.

أما على المستوى السياسي، فتعاظمت الاختلافات. فقد أظهرت الطبقة السياسية التركية مستويات من النضج أعلى بكثير مقارنة بنظرائهم في مصر وفي غيرها من البلدان. فبشكل عام، معظم الخاسرين في العملية الانتخابية في الديمقراطيات الناشئة، يتبنون الانقلاب على من فازوا عليهم كوسيلة للوصول للسلطة. هذا النمط الانتهازي كان حاضرا بقوة في مصر عامي 1952 و 2013، وفي معظم انقلابات أمريكا الجنوبية في سبعينيات القرن الماضي، وفي الجزائر عام ١٩٩٢، وفي بلدان ومناطق أخرى، وهو نمط مدمر للدمقراطيات الناشئة. تركيا ٢٠١٦ كانت بلا شك استثناء له.

الاختلاف الرابع متعلق بالقيادة. فوضوح ومثابرة وكاريزما القيادة السياسية – وبالتحديد الرئيس ورئيس الوزراء – كانت ملهمة لجماهير الشعب التركي. تقارن هذه الخواص وما بُنِيَ من سلوكيات وتصريحات، مع ميل الرئيس المصري عام ٢٠١٣ لوصف قادة العسكر بأنهم “من ذهب”، وبوصف الشرطة بأنها كانت في “القلب من ثورة يناير،” في حين أن قيادات هذه الجهات كانت تخطط للانقلاب عليه بإرهاصات واضحة منذ مارس ٢٠١٣ على أقصى تقدير.

أما ميزان “القوة الصلبة” فكان اختلافا خامسا وحاسما. فكان للقوات المسلحة التركية وقوات الأمن ومديرية المخابرات دور فعال في مواجهة الانقلابيين منذ الساعة الأولى. فبيان مديرية المخابرات الذي حث عناصرها على عدم الاستسلام “والقتال حتى آخر رصاصة” ألهب مشاعر المقاومة الوطنية ليس فقط في صفوف القوات الأمنية والعسكرية، ولكن أيضا بين عموم الشعب. وسهلت بيانات قائد الجيش الأول الميداني، وبيان رئيس الوزراء بأن قيادة الأركان مختطفة، عملية استسلام بعض جنود الانقلاب دون مقاومة تُذكَر، اذ أوضحوا أن ما يحدث هو تمرد على القيادة العسكرية، لا تدريب عسكري ولا غيره. أما في الحالة المصرية، فلم يحدث شيء من ذلك في عام ٢٠١٣.

فالضباط الموالون للحكومة المنتخبة والمؤيدون للديمقراطية لم تكن لديهم استراتيجية لمكافحة انقلاب، ولا مؤسسة يقاومون ويحشدون من خلالها. ويرجع ذلك جزئيا لمحدودية الوقت والأعداد والموارد، وإن كان أجدادهم في عام ١٩٥٤ كانت لديهم الأعداد والموارد والمناصب وبعض الوقت، ولكنهم لم يستطيعوا التنسيق لمكافحة وهزيمة أول انقلاب على أول رئيس مصري – محمد نجيب – نظرا لضعف وتعدد القيادات وأُطر السيطرة.

أما على المستوى المقاومة المدنية، فكان التماثل أكثر من الاختلاف بين الحالتين. فقد كانت شجاعة وصلابة المقاومة المدنية التركية مذهلة عام ٢٠١٦، كما كانت الحالة المصرية في عامي٢٠١١ و٢٠١٣. ففي تركيا، ربما كانت المرة الأولى في تاريخ المقاومة المدنية للانقلابات العسكرية حين تحاول سيارات مدنية منع طائرات انقلابية مقاتلة من قصف البرلمان المنتخب عبر اعتراض سبيل الطائرات في مدرج الإقلاع، وسده بسيارات المقاومين. وهي أيضا من المرات النادرة في تاريخ المقاومة المدنية حين ينبطح المقاومون فقط (دون التراجع) على الأرض وقت إطلاق النار عليهم، قبل أن يقفوا ويهتفوا ويتقدموا مرة أخرى بعد توقف الرصاص، وكأنهم تعاهدوا – في العقل الجمعي – على عدم التراجع تحت أية ظروف. وكان حشد وتعبئة المقاومة المدنية في شوارع اسطنبول وأنقرة سريع وصلب وملهم، وقد مثل – دون شك – عاملاً خطيراً في اسقاط الانقلاب. ولكن – كما هو مبين في دروس مكافحة الانقلابات من الأرجنتين الى اندونيسيا – الحشد الشعبي عامل هام ولكنه غير حاسم بذاته. فقد شهدت مصر واحدة من أطول وأصلب وأكبر الاعتصامات في تاريخها الحديث في ميدان رابعة العدوية ما بين يوليو وأغسطس ٢٠١٣. وانتهى الاعتصام بمجزرة – هي دون شك – الأسوأ في تاريخها الحديث. ويرجع ذلك بالأساس لعدم وجود العوامل المذكورة آنفا، ولرفض المقاومين للاستسلام، وعدم رغبة صقور الانقلابيين في التهدئة والتسوية.

قاوم كل مكون من مكونات الدولة التركية محاولة انقلاب ٢٠١٦ بنجاح، بما في ذلك الجيش، والشرطة، والمخابرات، والطبقة السياسية، ووسائل الإعلام، والمواطنين، في مواجهة قادة عسكريين ذوي ثقل، بطائراتهم ومروحياتهم المقاتلة. وقد أدى ذلك النجاح لحسرة مريرة عند انقلابيي مصر بألوانهم المختلفة. ولكن بعيدا عن الحسرة والابتهاج – فالشعوران زائلان – فإن الدروس المستفادة لمصر من الحالة التركية باقية، وهي دروس ستؤثر على مستقبل الديمقرطة والديمقراطية في ذلك البلد.