تلخيص:

بعد أسبوع من الجهود الدبلوماسية التركية الرامية إلى تطبيع العلاقات مع روسيا وإسرائيل، جاءت الأخبار حول الإتفاقيات مع الطرفين في الأسبوع ذاته، وتحديداً بعد شهر واحد من تكوين الحكومة الجديدة في تركيا. ربما كانت العوامل الداخلية عاملاً محفزاً لتحسن العلاقات، ولكن العوامل الإقليمية لعبت الدور الأهم في هذه القضية ضمن سياق السياسة الخارجية التركية. ومن بين العوامل الكبرى التي لعبت دوراً في تطبيع العلاقات التركية مع إسرائيل وروسيا، كانت التحديات الأمنية في الشرق الأوسط، وتداعيات هذه التحديات على الحرب التركية ضد الإرهاب، وكذلك اختلاف وجهات النظر بين صناع السياسة التركية ونظرائهم في الغرب، بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية السلبية لتوتر الأوضاع مع روسيا.

أعلن خبر سعي تركيا لإصلاح علاقاتها الدبلوماسية مع كل من روسيا وإسرائيل في نفس الأسبوع من يونيو/حزيران الماضي. وفي الفترة ذاتها، كان هناك حديثٌ حول تحسين العلاقات مع مصر ودول أخرى. وبينما جرت مناقشة تلك القضايا، مرت تركيا بمحاولة إنقلاب أثرت بقوة على سياق سياساتها الداخلية والخارجية. وبجانب العناوين والأطروحات التي ملأت الصحف حول “تقليص الأعداء وزيادة الأصدقاء”، كانت هناك الكثير من الأسئلة حول ما يحدث في سياسة تركيا الخارجية. ما أسباب هذه التغيرات السريعة؟ هل لذلك علاقة بتغيير حكومي في تركيا؟ هل يأتي ذلك نتيجة لتغير الدينامية الإقليمية، أم أنها ناتجة عن الاعتبارات السياسية والاقتصادية المحلية؟ وعلى الرغم من أن المتغيرات الداخلية لعبت دوراً هاماً في مراجعة أولويات السياسة الخارجية، إلا أن العوامل الإقليمية قادت صناع القرار إلى تعديل موقفهم في معظم القضايا.

نعيش في عصر يتم فيه التشكيك في علاقات التحالف الكلاسيكية، وهو ما ينطبق على تركيا أيضاً، بالنظر إلى الإختلافات في الآراء بين تركيا والولايات المتحدة وبعض أعضاء الناتو حول الصراع في سوريا والعراق. وتستمر حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط عقب ثورات الربيع العربي حتى الآن وللعام الخامس على التوالي، بينما لا يبدو أن ثمة حل سريع يلوح في الأفق لمشاكل المنطقة. اضطرابات الشرق الأوسط بشكل عام، وما يحدث في العراق وسوريا بشكل خاص، له آثار سياسية واقتصادية واجتماعية على تركيا، وبالتأكيد فإن أغلب هذه الآثار سلبية بطبيعة الحال. تؤثر مشكلات المنطقة الأخرى أيضاً على علاقات تركيا مع لاعبين آخرين في الساحة العالمية. تراجعت العلاقات مع الولايات المتحدة، والتي دائماً ما كانت حليفاً استراتيجياً لتركيا، تضررت بشدة نتيجة للخلاف بينهما حول سوريا والعراق. يضاف لتلك الإختلافات بين تركيا وحلفائها في الغرب، أتت الإدانة الضعيفة والمتأخرة لمحاولة الإنقلاب من جانب دول الغرب لتقوي من الأصوات الداخلية التي تنتقد الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وتوترت العلاقات بين تركيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي نتيجة لقضية أكراد سوريا وأزمة اللاجئين، في حين أن العلاقات بين تركيا وروسيا، والتي كانت قد بلغت ذروة تاريخية في مطلع الألفية الحالية، تأثرت بقوة نتيجة للصراع في سوريا.

علاقات تركيا مع أوروبا، وخاصة مع الاتحاد الأوروبي، دائماً ما كانت السبب وراء تغير السياسة الداخلية والخارجية لأنقرة. وفي ظل التحديات الكبرى القادمة من الشرق الأوسط، نظر الجميع للاتحاد الأوروبي باعتباره المنقذ والمخلص من هذه المشاكل. وبالنظر إلى توابع الأزمة الاقتصادية وتزايد معاداة الأجانب في العديد من دول أوروبا، أصبح الحفاظ على مستوى العلاقات القائم بين تركيا والاتحاد الأوروبي مهمة صعبة في حد ذاتها بالنسبة للحكومة التركية. ومع إجراء الانتخابات العامة في تركيا في 2015، وحالة عدم اليقين السياسي المصاحبة لها، تدمرت الآمال في إحياء عملية إنضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. في المقابل، أدت التحولات المستمرة في قضية الأكراد منذ يوليو/تموز 2015 وحتى الآن، والعمليات التي استهدفت القضاء على حزب العمال الكردستاني (بي كا كا)، إلى قلق بعض الجهات الأوروبية، والتي ترغب في استمرار عملية السلام. على الجانب الآخر، مثلت أزمة اللاجئين الصداع الأكبر للاتحاد الأوروبي العام الماضي، وقد تحول الاتفاق الموقع بين تركيا والاتحاد الأوروبي إلى عامل محفز لإحياء إنضمام تركيا للاتحاد الأوروبي من جديد. وجاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد والجدل حول عضوية تركيا وكذلك أزمة اللاجئين ليضيف بعداً جديداً في العلاقات بين تركيا والاتحاد. الإستجابة البطيئة والضعيفة من الدول والمؤسسات الأوروبية في دعم الديمقراطية التركية وسط محاولة الإنقلاب الفاشلة تسببت في إحباط كبير للنخبة التركية وللشعب التركي. ونتيجة لكل هذه التطورات، يبدو من غير المرجح أن يكون الاتحاد الأوروبي ذراعاً فاعلاً في تغير السياسات التركية داخلياً وخارجياً.

عوامل إقليمية ودولية

لنلقي نظرة على التغيرات واحدة تلو الأخرى، نراجع معها تأثير عوامل بعينها على تغير السياسة الخارجية لتركيا. كان حلف شمال الأطلسي والعلاقات مع الولايات المتحدة بمثابة حجر الزاوية في العلاقات التركية الخارجية منذ سنوات الحرب الباردة. تضمنت تلك العلاقة نجاحات وانتكاسات في الماضي، إلا أن الاختلافات أصبحت أكثر وضوحاً بعد الحرب الباردة، وخاصة فيما يتعلق بحرب العراق عام 2003. تباينت أولويات كل من الولايات المتحدة وتركيا خلال الأعوام الأخيرة والتي أعقبت ثورات الربيع العربي. تغيرت التحالفات الإقليمية والأولويات من جانب الولايات المتحدة، وهو ما أثر على معالم السياسة التركية تجاه المنطقة. التغيرات الكبرى في الشرق الأوسط عقب الربيع العربي جرى تفسيرها بشكل مختلف من جانب الدولتين، كما أن حجم التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة تعدى قدرات الجهات الفاعلة الإقليمية، وتطلب إسهامات من المجتمع الدولي. وفي غياب قيادة الولايات المتحدة ورغبتها، ترك ذلك الأمر المجال أمام روسيا، والتي استغلت الفرصة في الشرق الأوسط لتستعيد نفوذها كقوة عظمى في السياسات الدولية. بالتالي، جاء التحول للوضع السوري من تحركات احتجاجية إلى صراع عسكري ليغير معالم السياسة الإقليمية.

منذ العام المضي وحتى الآن، كان على تركيا التعامل مع خطر منظمتين إرهابيتين في آن واحد، وهما حزب العمال الكردستاني، وتنظيم الدولة الإسلامية. وجاء إنهيار المفاوضات حول قضية الأكراد بعد انتخابات يونيو/حزيران 2015، والتنسيق المتزايد بين أعضاء التحالف المضاد لتنظيم الدولة الإسلامية ليقود إلى دائرة من العنف في بعض المدن التركية. وكنتيجة للنشاط التركي المتصاعد داخل التحالف المضاد لتنظيم الدولة الإسلامية، استهدف التنظيم المدن التركية بهدف إجبار أنقرة على مراجعة سياستها، ولكن دون جدوى. كان على تركيا التعامل مع هذه التحديات الأمنية بوجود الحكومة المؤقتة التي شُكِلت بعد انتخابات يونيو/حزيران 2015، والتي لم تنجح في إفراز حكومة مستقرة. في ذلك الوقت، فقدت تركيا 211 من مواطنيها نتيجة للأعمال الإرهابية لتنظيم الدولة الإسلامية، وجاءت الانتخابات العامة في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ليشكل حزب العدالة والتنمية حكومة جديدة بعد فترة من الاضطرابات. وفي اليوم الذي تشكلت فيه هذه الحكومة الجديدة، وتحديداً 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أُسقِطت طائرة روسية اخترقت المجال الجوي التركي على يد الجيش التركي. وجاء هذا التطور، بجانب التدخل العسكري الروسي في سوريا، ليؤثر بشكل مباشر على السياسة الخارجية والأمنية لتركيا. وكانت روسيا وتركيا قد طورتا علاقاتهما خلال الألفية الجارية، ونجحتا في فصل الخلافات حول السياسات الخارجية للدولتين في الشرق الأوسط والقوقاز. ومع إسقاط الطائرة الروسية، انتهت تلك العلاقات القوية، ومنذ تلك اللحظة، استغلت روسيا جميع الفرص للإضرار بالمصالح التركية في المحافل الدولية والإقليمية على حد سواء.

تزايدت الأسئلة حول مصداقية هياكل التحالف القائمة وما نتج عنها من زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وتحديداً سوريا والعراق، وهو ما ألحق الضرر بالمصالح التركية في المنطقة على نحو متزايد. حجم التهديد الأمني الذي تتعرض له تركيا وآثاره على البلاد من حيث الاستقرار والاقتصاد والسياحة، قاد صناع القرار في البلاد إلى إعادة تقويم سياسة تركيا الخارجية بشكل عام، وسياساتها تجاه الشرق الأوسط بشكل خاص. علاوة على ذلك، كان يُنظر إلى تشكيل الحكومة التركية الجديدة باعتباره فرصة للتغلب على تلك التحديات. لذا، ينبغي تحليل ورؤية تحسن العلاقات مع إسرائيل وروسيا في هذا السياق. وعلى الرغم من أن أخبار التطورات في العلاقة مع الدولتين ظهرت في أسبوع واحد، إلا أن كلاً منهما يحقق أهداف سياسية مختلفة في سياق مختلف، كما أن التقارب جاء نتيجة لأسابيع أو حتى شهور من المفاوضات.

العلاقات مع إسرائيل

تواصلت المحادثات بين تركيا وإسرائيل منذ عام 2013. في أعقاب الهجوم على سفينة مرمرة، طلبت تركيا اعتذاراً وتعويضاً من إسرائيل، بالإضافة إلى إنهاء الحصار على غزة. وجاء الاعتذار بعد تدخل الرئيس الأميركي باراك أوباما أثناء زيارته لإسرائيل في 2013. المحادثات بين المسئولين الأتراك والإسرائيلين انتهت إلى اتفاقية حول قيمة التعويض الذي ستدفعه إسرائيل لأسر الضحايا. تحولت بعد ذلك قضية حصار غزة لتصبح العقبة الأصعب أمام وضع اللمسات الأخيرة على عملية التطبيع. ومن وجهة نظر المصالح التركية، كان الاعتذار والتعويض أهم من قضية الحصار، إذ أن قضية الحصار تتعلق بشكل أكبر بديناميات المنطقة، والتي تغيرت بشكل كبير عبر السنين لتصبح الأحوال في غزة متردية على نحو متزايد. ومع الإنقلاب العسكري في مصر وتغير النظام، تحول الحصار على غزة إلى حصار كامل بسبب تدمير الأنفاق التي كانت تزودها ببعض المواد الأساسية للحياة داخل القطاع. ازدات حالة اليأس لدى سكان غزة، وواجهوا مشكلات في توفير أبسط الاحتياجات الحياتية. لذا، يجب تفسير وتحليل قضية إنهاء الحصار وفق هذا السياق.

وبالإضافة للتغيرات التي ذكرناها في المنطقة، قاد الصراع في سوريا وآثاره من الناحية الأمنية إلى قيام العديد من البلدان في المنطقة بإعادة تقييم أولوياتها الخارجية والأمنية وإجراء بعض المراجعات. بإمكاننا أن نفترض أن الصراع في سوريا وتدخل حزب الله فيه يصب في صالح إسرائيل، نظراً لكونه يقلل من الخطر على أمنها، كما أن القضاء على الأسلحة الكيميائية السورية، وتدمير الجيش السوري يبدو تطوراً إيجابياً من وجهة نظر إسرائيل. في المقابل، ربما يمثل ظهور حزب الله –المخضرم عسكرياً- واستحواذه على الأسلحة المرسلة من إيران وغيرها من حلفاء النظام السوري، ربما يمثل خطراً مستقبلياً على إسرائيل، إذ أنه من الممكن أن يستخدم حزب الله هذه الخبرات والمعدات ضدها. بالإضافة لذلك، خلق إنهيار السلطة الرسمية وظهور عدة منظمات إرهابية وعسكرية داخل سوريا تحدياً من نوع آخر أمام إسرائيل، وخاصة مع كون طبيعة بعض تلك المجموعات بقيت أمراً مجهولاً.

من منظور إسرائيل، بجانب البيئة الأمنية للمنطقة، يجب أيضاً مراعاة الإتفاق النووي الإيراني، التطورات في مصر، وكذلك احتمالات النتائج الإيجابية لصفقة الغاز مع تركيا. ربما تكون هذه العوامل أمراً ثانوياً بالحديث عن أهمية الإتفاق، إلا أنه إذا نظرنا للصورة الكبيرة، فإن هذه العوامل الثانوية لعبت أيضاً دوراً هاماً في إقناع السياسيين من الجانبين بضرورة إصلاح العلاقات. ودفع حجم التحديات في المنطقة كلتا الدولتين إلى البحث عن فرص لتقليص الخلافات مع الدول الأخرى في الشرق الأوسط.

لا يجب أن ننسى أيضاً أنه كانت هناك عدة جولات من المحادثات بين المسئولين الأتراك والإسرائيلين للتوصل لاتفاقية تطبيع العلاقات، لذلك، فهذا لا يعد تطوراً مفاجئاً بالأساس. وأثرت الاعتبارات السياسية الداخلية في البلدين على وتيرة المحادثات، كما أن بعض أعضاء الحكومة الأمنية الإسرائيلية رفضوا الاتفاق. وبالرغم من البروتوكولات التي وُقِعت، يظل تنفيذ الشروط المتفق عليها وتطوير العلاقات الثنائية أمراً يتطلب الكثير من الجهد من الجانبين، كما أن هناك شرائح مجتمعية في إسرائيل وتركيا ستستمر في معارضة الاتفاق.

العلاقات مع روسيا

أثرت العلاقات المتوترة بين تركيا وروسيا على كلتا الدولتين. تقع روسيا تحت عقوبات دولية بسبب تحركاتها في أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم. وتركز عقوبات الاتحاد الأوروبي بالأساس على البنوك المملوكة للدولة، وحظر صفقات الأسلحة، وفرض قيود على بيع التكنولوجيا الحساسة، وحظر صادرات معدات النفط لروسيا. وبجانب تلك العقوبات، يأتي تراجع أسعار النفط عالمياً ليخلق العديد من المشكلات للإدارة الروسية. أمرت موسكو بمنع مواطنيها من التوجه لتركيا لقضاء عطلاتهم، كما منعت تصدير المنتجات الزراعية، وهو ما أثر على روسيا أيضاً. ومن وجهة نظر إقتصادية، لم يكن من الممكن لبعض المواطنين الروس تحمل نفقة العطلات في دول أخرى، ولكن تراجع عائدات السياحة كان تحدياً بالنسبة لتركيا أيضاً، خاصة للوجهات السياحية كأنطاليا. استمر هذا المناخ التصادمي بين روسيا والعالم الغربي في عامي 2015 و2016، بينما مدد الاتحاد الأوروبي العقوبات على روسيا حتى 31 يناير/كانون الثاني 2017. تراجع الاقتصاد الروسي في عام 2015 بنسبة 3.7%، ومن المتوقع أن يستمر التراجع هذا العام بـ1.2% إضافية، بسبب استمرار العقوبات، وتراجع أسعار النفط. في المقابل، يبدو أن الاقتصاد الروسي لا يملك القدرة على تجديد نفسه، كما كان تراجع القدرة الشرائية للمواطنين الروس أمراً مقلقاً بالنسبة للساسة الروس، وخاصة مع تراجع شعبية الحكومة.

أدى تدهور العلاقات أيضاً إلى تجميع أو إلغاء عدد من المشاريع بمليارات الدولارات في روسيا وتركيا على حد سواء، وهو ما تسبب في تضرر اقتصاد البلدين. وعلى الرغم من أن الأتراك نفذوا مشاريع أقل في روسيا خلال العامين الماضيين بسبب الأزمة الاقتصادية الروسية، استمر التراجع عقب إسقاط الطائرة الروسية. ونُفِذت عدد من المشروعات العملاقة في تركيا بتمويل روسي، مثل أوكويو للكهرباء والتي تعمل بالطاقة النووية، وقد تأجلت تلك المشروعات نظراً للمناخ الدبلوماسي السلبي.

وبخلاف الآثار الاقتصادية لإسقاط الطائرة الروسية، كانت هناك عواقب سياسية على تركيا، إذ استخدمت روسيا كل الفرص المتاحة لخلق المشكلات لتركيا داخل المؤسسات الدولية وفي المناطق المجاورة مثل الشرق الأوسط، والقوقاز، ووسط آسيا، والبلقان. ولاحظت تركيا اتصالاً متزايداً بين المسئولين الروسي من جهة، والإيرانين، والعراقيين، واليونانيين، وغيرهم من المسئولين في الدول المجاورة لتركيا. واستخدمت روسيا نفوذها في دول وسط آسيا للحد من علاقاتهم مع تركيا، كما بدأت روسيا حملة للتشهير بتركيا. وعلى الرغم من أن بعض الحجج التي استخدمتها روسيا كانت مجرد دعاية، إلا أنها أثرت بالفعل على تركيا، خاصة في دول الاتحاد السوفيتي السابق.

من وجهة نظر تركيا، خلقت العلاقات السلبية مع روسيا مشاكل أمنية، وسياسية، واقتصادية. وبعد واقعة إسقاط الطائرة، أصبح التواصل بين الروس وحزب الاتحاد الديمقراطي- التابع لحزب العمال الكردستاني- متكرراً، حتى أن الإدارة الروسية سمحت للحزب بفتح مكتب له داخل موسكو.، كما يقال أيضاً أن روسيا زودت مقاتلي الحزب بالسلاح. ويُعتقد أن مروحية تركية أُسقِطت على يد حزب العمال الكردستاني باستخدام صاروخ روسي. ولفكّ هذه الروابط، كانت إذابة الجليد بين روسيا وتركيا ضرورة ملحة.

وبالإضافة للعوامل المذكورة، جاءت محاولة الانقلاب في تركيا في 15 يوليو/تموز الماضي، ورد الفعل الروسي المبكر مقارنة بالدول الأوروبية بمثابة عامل إيجابي في تحسين مناخ العلاقات، وخاصة مع لقاء الرئيسين في سانت بطرسبرج في 9 أغسطس/آب الماضي. لم تركز المحادثات على المشكلات الاقتصادية الثنائية فحسب، بل تناولت القضايا الإقليمية مثل الوضع السوري، والحرب  ضد الإرهاب.

وبالنظر إلى الديناميات الدولية والإقليمية التي تحدثنا عنها، يظل من مصلحة تركيا أن تستعيد علاقاتها مع روسيا وإسرائيل، ومع دول أخرى إن أمكن ذلك. وبتغير معالم هياكل التحالفات الكلاسيكية، وتدهور الوضع الأمني في الشرق الأوسط، وعدم وجود توقعات إيجابية على المدى القريب، وتحديات مواجهة الإرهاب، والآثار الاقتصادية والإجتماعية لهذه التحديات على تركيا، أدى كل ذلك إلى أن يقرر الساسة الأتراك تحسين العلاقات مع بعض جيرانهم. هناك أيضاً ما يحفز روسيا وإسرائيل لتحسين العلاقات مع تركيا، إذ كان تغيير الحكومة في تركيا بمثابة فرصة لإجراء بعض التغيرات في السياسة الخارجية. وقادت التحديات الدولية والإقليمية جميع الدول إلى التركيز على الأمن والاستقرار، والبحث عن طرق للتغلب على الخلافات مع الدول الأخرى. ودفعت تلك العوامل تركيا في الاتجاه ذاته.

وسيكون تحسن العلاقات مع روسيا وإسرائيل سبباً في تخلص تركيا من بعض الأخطار الإقليمية. في المقابل، لا يجب أيضاً أن نتوقع رؤية العلاقات التركية الإسرائيلية بذلك القرب الذي كانت عليه في تسعينات القرن الماضي نظراً لاختلاف طبيعة الحكومات في الدولتين، وكذلك البيئة الإقليمية الحالية. وبالنسبة للعلاقات التركية الروسية، فتجاوز بعض المشكلات السابقة هو علامة إيجابية، ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن أولويات كل دولة تتعارض بقوة مع الأخرى حول قضايا المنطقة بالتحديد. وسيحتاج الأمر لبعض الوقت للتغلب على هذا التعارض في الأولويات.