في السنوات الأخيرة، تعرَّضت الأنشطة الإيرانية في سوريا لانتقاداتٍ شديدة. وكان وجود الميليشيات الشيعية التي تديرها إيران على وجه الخصوص هو محور انتقادات دولٍ غربية وعربية وإسرائيل بالطبع. ويتحجَّج هؤلاء المنتقدون بأنَّ إيران لا تتدخَّل فقط في سوريا وأماكن أخرى بالمنطقة، بل تدعم وجودها بالصواريخ الباليستية، ومن ثَمَّ تشكِّل تهديدًا على الاستقرار الإقليمي. ولذلك، فإنَّ المناقشات المُثارة حول إعادة التفاوض بشأن خطَّة العمل المشتركة الشاملة المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني، تُشير باستمرار إلى النفوذ الخبيث المزعوم للجمهورية الإسلامية في المنطقة. إن الأمر المثير للاهتمام إلى حدٍّ بعيد هو أنَّ الموقف الغربي من الاتفاق النووي غير موحَّد؛ فهناك خلافٌ حادٌّ حول قيمة الاتفاق ومحاسنه بين الاتحاد الأوروبي والدول العضوة فيه من جهةٍ، والولايات المتحدة وحلفائها العرب وإسرائيل من جهةٍ أخرى؛ ولكن يبدو أنَّ جميع هذه الأطراف تتَّخذ موقفًا مشتركًا موحَّدًا تجاه التأثير السلبي لدور إيران الإقليمي.

ومن جانبها لا تُعلِّق إيران على وجود حلفائها في المنطقة إلَّا في سياق الاحتفالات بالمحاربين العائدين أو الجنائز بالطبع. وفي الوقت نفسه، يؤكِّد الإيرانيون على حقيقة أنَّهم ملتزمون بواجباتهم ومسؤولياتهم التي يقتضيها الاتفاق النووي، في حين أنَّ الأطراف الأخرى في الاتفاق لا تلتزم ببنوده، لدرجة أنَّ الولايات المتحدة تُشكِّك حتى في صحَّة هذا الاتفاق المُلزِم دوليًّا. ومع ذلك، يتَّفق جميع الأطراف على وجود علاقةٍ بين الاتفاق النووي ووجود إيران في المنطقة؛ لكنَّ السؤال هو: ما هي طبيعة هذه العلاقة وكيف يمكن تفسيرها؟

رؤية إيران الاستراتيجية للمنطقة

بادئ ذي بدء، لدى إيران رؤيةٌ للشرق الأوسط لا تختلف كثيرًا عن الرؤية التي كان النظام الإمبراطوري السابق يرعاها، تتضمَّن تقليل الوجود الأجنبي – أو بالأحرى الغربي –  في الشرق الأوسط، وحيازة السيطرة على الخليج العربي والحفاظ عليها، وامتلاك موطئ قدم قويٍّ في بلاد الشام، والأهم من كل ذلك النجاح في المنافسة مع المملكة العربية السعودية. وبالطبع ثمة اختلافاتٌ أيديولوجية بين النظام الإمبراطوري والنظام الإيراني الحالي؛ فالشاه لم يواجه الولايات المتحدة في الخليج، ولم يواجه إسرائيل على الأراضي اللبنانية، لكنَّ التنافس مع السعودية مستمرٌّ على جميع المستويات، سواءٌ في ذلك النظام الإمبراطوي أم النظام الحالي. وحتى في الوقت الحاضر، لا ينظر صنَّاع القرار السعوديون إلى الجمهورية الإسلامية الثورية من خلال عدسة الإسلام السياسي بقدر ما ينظرون إليها من خلال عدسة الإمبراطورية الفارسية، ومن ثَمَّ فهُم الوحيدون – باستثناء الإيرانيين أنفسهم – الذين يرون بوضوحٍ استمرار الاستراتيجية نفسها مستترةً خلف التغيُّر الثوري في السياسة الإقليمية الإيرانية.

وفي كلتا الحالتين، تطمح إيران إلى الاضطلاع بدورٍ رئيس في الشرق الأوسط، بغضِّ النظر عن موافقة الدول الغربية أو مخاوفها. ونظرًا إلى أنَّ إيران نظامٌ ثوريٌّ، فهي تؤمن بالحتمية التاريخية، وموقنةٌ بأنَّ جميع الأنظمة الموالية للغرب في المنطقة ستنهار عاجلًا أو آجلًا، وستحل محلها أنظمةٌ إسلامية أو على الأقل مؤيدةٌ للإسلاميين؛ لأنَّ الإسلام السياسي بجميع تنوعاته هو أقوى اتجاهٍ أيديولوجيٍّ في المنطقة بكلِّ المعايير. الشيء الوحيد الذي يجب على إيران فعله وفقًا لهذا التصوُّر هو التمسُّك بمبادئها والالتزام بموقفها المناهض للغرب – الذي يتَّخذ في الغالب شكلَ تحريضٍ ودعاية مواليين للفلسطينيين ومناهضين لإسرائيل – على أمل أن يلمس ذلك وترًا أيديولوجيًّا داخل الزعماء الصاعدين الجدد والشعوب ككلٍّ في المنطقة. وبذلك، بمرور الوقت وتحسين العلاقات الثنائية مع جميع الدول في المنطقة، ستصبح الجمهورية الإسلامية مقبولةً بصفتها قوةً رئيسة أو حتى زعيمةً للعالم الإسلامي، على الأقل في المشرق. ومن ثَمَّ، فإنَّ تحالفًا مُعاديًا لإسرائيل ظاهريًّا (محور المقاومة) يضمُّ حفنةً من الحلفاء الأساسيين مثل حزب الله وسوريا وبعض الجماعات الفلسطينية مثل حركة الجهاد الإسلامي وحماس كذلك في بعض الأحيان، مدعومًا ببرنامج نوويٍّ وترسانة أساسية من الصواريخ من بينها صواريخ باليستية، بالإضافة إلى دهاءٍ دبلوماسي – سيكون كافيًا للتفوق على مكانة المملكة العربية السعودية في المنطقة، وربما يصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك.

لدغات الواقع

غنيٌّ عن الذكر أنَّ الخطط الاستراتيجية دائمًا ما تُقيَّد بالقدرات الاقتصادية والعسكرية؛ لأنَّ الرؤى الجيوسياسية غالبًا ما تكون متعارضةً مع الطموحات والتصورات الأمنية للدول المجاورة والقوى المتنافسة. فعلى سبيل المثال، بينما تبدو قوة الصواريخ البالستية الإيرانية طموحةً ومُبهرةً للوهلة الأولى، فقد تصبح عبئًا استراتيجيًّا وليست شيئًا نافعًا. ففي النهاية، يجب على كلِّ دولة أن تسأل عن ماهية الدول الأخرى الجديرة بالردع أو التهديد. ففي حين أنَّ هذا البرنامج منطقيٌّ ضد عراق الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، فإنَّه يبدو غريبًا بالنظر إلى حقيقة أنَّ جميع الأعداء المحتملين لإيران – لا سيما إسرائيل والمملكة العربية السعودية – حلفاء مقرَّبون للولايات المتحدة، ويمكنهم الاعتماد على دعمها العسكري القوي في حال وقوع هجومٍ إيراني. وتتمثَّل القدرات الرادعة الحقيقية لإيران في التسليح التقليدي لحزب الله في لبنان، وقوتها الصاروخية التقليدية القادرة على ضرب جميع مراكز المدن في الدول العربية بمنطقة الخليج، وربما أنظمة الدفاع الجوي روسية الصنع. بيد أنَّ حزب الله سيبذل كلَّ ما في وسعه لتجنُّب حربٍ على جبهتين حتى إذا تعزَّزت ثقته بنفسه؛ فوفقًا للعقيدة الإيرانية، لا يمكن استخدام قوة الصواريخ التقليدية المنتشرة في منطقة الخليج إلا كملاذٍ أخير – ردًّا على هجومٍ ما مثلًا – فضلًا عن أنَّ أنظمة الدفاع الجوي تحتاج إلى مزيجٍ من معداتٍ روسية وأميركية لتغطية الأراضي الإيرانية الشاسعة. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ القوة الجوية الإيرانية الضعيفة الأميركية الصنع أضعفُ حتى من القوة الجوية لبعض الدول المجاورة الصغيرة مثل الإمارات العربية المتحدة. وكذلك تنفق الدول المجاورة لإيران أموالًا أكثر بكثير على المعدَّات العسكرية ممَّا تنفقه إيران. وبعبارةٍ أخرى، إن قدرة إيران على استعراض قوتها بالوسائل العسكرية التقليدية محدودةٌ.

لا شكَّ أنَّ صنَّاع القرار الإيرانيين على درايةٍ بالعوائق والعقبات التي تواجهها الجمهورية الإسلامية. وأحد الدروس التي استخلصوها من الحرب الطويلة مع العراق هو البراغماتية، أي عدم التضحية بجميع الخيارات السياسية والموارد لمصلحة الحماس الأيديولوجي. وأسفرت بعض “المصالح العملية” مثل بقاء النظام ووقاية إيران من التعرُّض لهجومٍ عسكري كما حدث في العراق وأفغانستان، عن تبنِّي إيران سياسة القيود الطوعية، أو الاستفزاز الحَذِر الذي يعتمد على وجهة نظرٍ واحدة: سعي إيران لتحقيق مصالحها بقوة مع تجنُّب المخاطرة بأيِّ تصعيدٍ لا يمكنها الفوز به، مثل مواجهةٍ عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة. لذا يجب النظر إلى الاتفاق النووي في هذا السياق، فقد أبدت إيران عنادًا في المفاوضات، ولكنَّها وافقت في النهاية على صيغةٍ تُرضي الطرفين (أو هكذا كان يُعتَقد) لحماية المصالح الوطنية الإيرانية مقابل التحقُّق من مخاوف المجتمع الدولي حيال احتمالية عسكرة برنامج إيران النووي (أو هذا ما كان مخططًا له).

يمكن قول الشيء نفسه عن موقف إيران الإقليمي؛ فصحيحٌ أنَّ اللغة السياسية لمحور المقاومة تشير إلى الديناميكية واستعراض القوة، لكنَّ الواقع السياسي يُظهر أنَّ إيران ليس لديها خيارٌ سوى دعم النظام السوري، الذي كان محصورًا بيأسٍ في موقفٍ دفاعيٍّ والمسؤول الأول عن الوضع الكارثي في سوريا. لكنَّ “المحور” بُنيَ على أساس قوة سوريا، التي كانت موافقتها ضروريةً لكي تصبح إيران عمقًا استراتيجيًّا لحزب الله اللبناني. ولا شكَّ أنَّ إرسال حزب الله بقواتٍ إلى سوريا لمنع النظام السوري من الانهيار له عواقبُ بعيدة المدى؛ ففي الوقت الحاضر، صار حزب الله أقرب إلى أن يكون طرفًا مؤثرًا من كونه مجرَّد وكيل، وأصبحت المسؤولية السياسية عن المجتمع الشيعي العربي – باستثناء العراق الذي يحظى فيه حزب الله ببعض النفوذ أيضًا – تتركَّز تركيزًا متزايدًا في يد حزب الله. وهذا صحيحٌ في اليمن على سبيل المثال، حيث ساعد حزب الله الحوثيين بالعديد من الوسائل، وإن كان المجال الذي أحدثت فيه خبرة حزب الله التأثير الأكبر هو الإعلام، وليس المجال العسكري. وتوجد اتصالاتٌ بين الحوثيين والسلطات الإيرانية، ولا تُنكَر عمومًا؛ بيد أنَّها أقلُّ جودةً وأهميةً بكثير من علاقات إيران بحزب الله. ومع ذلك، تستخف إيران بشدَّة بأهمية اليمن للمملكة العربية السعودية، وبينما يمكن للمرء أن يفهم الحجَّة القائلة بأنَّ الحرب الأهلية في اليمن لم تكن مسؤولية إيران – إذ إنَّها لم تغزُ اليمن كما فعلت السعودية – فيجب على المرء أيضًا أن يضع في اعتباره أنَّ إيران كذلك لن تقبل بالتأكيد تدخُّل قوةٍ إقليمية في جوارها المباشر (لكنَّها لا تستطيع منع قوةٍ عالمية من ذلك). ومن ثَمَّ، فحتى أدنى درجةٍ من الدعم غير المباشر للحوثيين لا بدَّ أن تثير ردَّ فعلٍ سعوديًّا قاسيًا، وإن كان ذلك فقط لأنَّ السعوديين لا يمكنهم السماح للمجتمع الدولي برؤية اليمن على أنَّها نكسةٌ أخرى لمكانة السعودية الإقليمية. وربما تكون ادِّعاءات السعودية في بعض الأحيان بأنَّ إيران تُكوِّن هلالًا شيعيًّا (أو ما يُسمَّى بمحور مقاومة) يشمل اليمن مُجرَّد مبالغاتٍ أكثر من كونها تحليلات. ومع ذلك، فإذا نظر المرء من المنظور السعودي إلى التطورات في العراق وسوريا – حيثُ الوجود الإيراني في كلِّ مكان – ستصبح هذه الادعاءات منطقيةً.

ورقة ضغط شيعية لطهران؟

يؤكِّد مؤيدو الجمهورية الإسلامية الإيرانية وخصومها على أنَّ قوة إيران الحقيقية تكْمُن في قدرتها على استخدام الشيعة في جميع أنحاء العالم، مما يحوِّلهم فعليًّا إلى طابورٍ خامس لإيران. فنظرًا إلى أنَّ إيران هي الدولة الشيعية القوية الوحيدة في العالم، ثمة علاقاتٌ خاصَّة بينها وبين الشيعة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فهذا تبسيطٌ مبالغٌ فيه.

تتَّسم علاقات إيران ببعض رجال الدين الشيعة البارزين بالتوتُّر والتعقيد بلا مبالغة، فالعراق موطنٌ لمذهبٍ شيعي سياسي خاص به، ويمكن اعتبار المجموعات القليلة التي تتعاون مع إيران وكلاءَ إيرانيين. وفي العراق، تُعَدُّ المنظمتان الأكثر ارتباطًا بإيران: المجلس الأعلى الإسلامي العراقي ومنظمة بدر، اللتين كانتا تتعاونان تعاونًا وثيقًا مع الولايات المتحدة. وهذا أمرٌ مثير جدًّا للسخرية؛ فمنظمة بدر كانت أحد عناصر الحرس الثوري الإيراني رسميًّا، بينما يُعَدُّ المجلس الأعلى الإسلامي العراقي – الذي كان مجلسًا أعلى للثورة الإسلامية في العراق – منشقًّا مؤيدًا للخميني عن حزب الدعوة الإسلامية العراقي المؤثر، الذي أُسِّس كمظلةٍ سياسية للعديد من الجماعات العراقية، وانتهى به المطاف كإقطاعيةٍ شخصية لعائلة عمَّار الحكيم الدينية في العراق، التي يُعَدُّ أفرادها أصدقاءً مُقرَّبين من المرشد الأعلى الإيراني. ومع ذلك، فليست كلُّ الجماعات العراقية – بما فيها التيار الصدري الذي يرأسه رجل الدين مقتدى الصدر – تقبل التوجيه الإيراني الأيديولوجي. وفي الواقع، ثمة قادة رئيسون ومجموعات مهمَّة على صلةٍ وثيقة بالمؤسسة الأمنية الإيرانية يتخذون قراراتهم بأنفسهم، ويحكمون على التطورات من وجهة نظرٍ شيعية عراقية. وبالنظر إلى الوضع الداخلي في العراق، الذي كان يشمل درجةً عالية من الاقتتال الشيعي، لم تكن هناك إرادةٌ ولا قدرة على دعم خطط إيران المتعلِّقة باستعراض القوة الإقليمية. لكنَّ صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) غيَّر كلَّ ذلك.

بادئ ذي بدء، تطوَّع عربٌ عراقيون من جميع الطوائف للانضمام إلى جماعاتٍ وميليشياتٍ مكوَّنة من إخوانهم في الدين بسوريا منذ عام 2011 فصاعدًا، ومن ثمَّ تداخلت الحربان الأهليتان. وبطبيعة الحال، انضمَّ الشيعة إلى مقام السيدة زينب في العاصمة السورية دمشق الذي يُعَدُّ الضريح الأهمَّ في البلاد. إذ تطوَّر هذا الضريح على مرِّ العقود القليلة الماضية إلى مركزٍ شيعي جديد يؤوي مجموعاتٍ شيعية عربية مختلفة تحت سيطرةٍ محكمة من النظام السوري. وفور بدء الأعمال العدائية في المنطقة المحيطة بدمشق، تبيَّنت القيمة الاستراتيجية لمقام السيدة زينب – الذي يُمكن منه تأمين الطريق المهم إلى المطار – واتضح أنَّه منشأةٌ مهمَّة. فحالما بدأ القتال، شكَّلت بعض المجموعات العراقية مع حزب الله لواء أبو الفضل العباس، الذي أمَّن في البداية المناطق المجاورة للمقام. وبالنسبة إلى الإيرانيين، كانت هذه أخبارًا سارَّة؛ فقد كان وجودهم العسكري في سوريا قبل ذلك يتكوَّن فقط من مستشارين عسكريين واستخباراتيين بارزين، وانتشار بعض قوات فيلق القدس الخاصَّة التابعة للحرس الثوري الإيراني لأغراض التدريب والاستطلاع. ومع استمرار القتال، تدفَّق متطوعون من جميع أنحاء إيران إلى البلاد، وكان العديد منهم ضباطًا سابقين في الحرس الثوري الإيراني. وكانت عمليات الانتشار قليلةً للغاية لتحقِّق أيَّ تأثير، لكنَّها كانت كثيرةً جدًّا إلى حدٍّ لا يمكن إنكاره. ومن ثَمَّ، قرَّرت إيران مع السوريين إعادة تنظيم الوجود العسكري الإيراني في البلاد؛ إذ قرَّرت منذ ذلك الحين فصاعدًا نشر لواءٍ عسكري محمول جوًّا في سوريا، وانضمام متطوعين إيرانيين إلى وحدتي “الفاتحين” و”الصابرين” التابعتين لقوات الباسيج وفيلق القدس في دمشق بتنسيقٍ من السوريين عبر فيلق القدس. وبالإضافة إلى ذلك، قرَّرت إيران التكفُّل بإرسال مجموعتين أخريين إلى سوريا: لواء “فاطميون” الأفغاني الذي ينحدر العديد من مقاتليه من إيران، ولواء “زينبيون” الهندي الباكستاني.

بيد أنَّ الجزء الأكبر من المقاتلين كان من العراق، حيثُ تطوَّرت طائفةٌ حقيقية حول مقام السيدة زينب. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ؛ إذ إنَّ الشيعة العراقيين رأوا الكثير من مساجدهم وأضرحتهم تتعرَّض لانفجارتٍ على مرِّ السنوات الماضية، وكانوا يعرفون أنَّ تنظيم داعش والجماعات ذات العقلية المشابهة له كانت نشطةً كذلك في سوريا. وعلى وجه التحديد، دخلت ثلاثُ مجموعاتٍ عراقية القتالَ لمحاربة داعش في سوريا: كتائب حزب الله، وحركة النجباء، وعصائب أهل الحق؛ وتُعَدُّ الجماعتان الأخيرتان فصيلين منشقين عن ميليشيا مقتدى الصدر التي حُلَّت، وأدَّت المجموعات الثلاث مع منظمة بدر دورًا رئيسًا في تأسيس قوات الحشد الشعبي في عام 2014 بعد هجوم داعش. وكان لواء أبو الفضل العباس هو المسؤول عن تنسيق جميع الميليشيات المذكورة أعلاه.

بالنسبة إلى إيران، كان لوجود المقاتلين العراقيين ثلاثُ مزايا: أولًا: كان هذا وما يزال هو الحل الوحيد لسدِّ الثغرات المأساوية في عدد أفراد الجيش السوري، ومن ثَمَّ جعل السوريين أكثر اعتمادًا على إيران. وثانيًا: عزَّز هذا موقف إيران، ليس فقط بالنسبة إلى سوريا بل في نظر روسيا كذلك. وثالثًا: كان من المفهوم على نطاقٍ واسع أنَّ محاربة تنظيم داعش تعني محاربته في سوريا والعراق في آنٍ واحد، وهكذا تحقَّق الهدف النهائي لإيران المتمثِّل في إبقاء تنظيم داعش بعيدًا عن حدود إيران قدر المستطاع. ومن الواضح كوضوح هذه المزايا أنَّ ذلك يعني أيضًا أنَّ إيران ربطت مصيرها بنتيجة الصراع السوري؛ فحتى لو فاز الرئيس السوري بشار الأسد، فإنَّ النتيجة قد لا تُرضي إيران؛ لأنَّها إمَّا أن تستمرَّ في رعاية الأسد سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، وإلَّا سيجد الأسد طريقةً للتصالح مع أعداءٍ سابقين مثل المملكة العربية السعودية أو دول الاتحاد الأوروبي، ما سيضرُّ بالنفوذ الإيراني بلا شكٍّ. وعلى أية حال، ستكون سوريا في مرحلة ما بعد الصراع دولةً فقيرةً جدًّا، ومن ثَمَّ فالعقود الاقتصادية المُبرَمة مع نظام الأسد قد لا تكون تجارةً جيدة، ولن تُنقذ الاقتصاد الإيراني بالتأكيد.

جلب المعركة إلى إيران: الاقتصاديون ضد الأيديولوجيين

أثار تدخُّل إيران في المنطقة نزاعًا شديدًا داخل المجتمع الإيراني باستثناء القطاع الإسلامي المعروف. إذ تندلع الاحتجاجات ضد تكاليف تدخُّل إيران في بلاد الشام بانتظام، وكان آخرها في أوائل العام الجاري 2018. ولا يبدو أنَّ حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني سعيدةٌ بذلك التدخُّل، مع أنَّ ضرورة محاربة تنظيم داعش أمرٌ بديهيٌّ. ومن ناحيةٍ أخرى، يعرف روحاني وأفراد حكومته التكنوقراطية جيدًا أنَّ ما تحتاج إليه إيران بشدَّة هو التنمية الاقتصادية التي تقوم على شرطين مسبقين: تعزيز سيادة القانون، والشفافية. وينبغي أن يسمح تطبيق الاتفاق النووي لروحاني عبر تخفيف العقوبات بالمضيِّ قدمًا في أجندته الإصلاحية. ولا تقتصر المشكلة الآن على التصرُّف غير المسؤول للحكومة الأميركية بمنع تخفيف العقوبات التي تمنع بدء علاقاتٍ اقتصادية دولية مع إيران، بل تشمل الصعيد المحلي الذي يجلب الجبهة السورية إلى الاقتصاد الإيراني والسياسة الداخلية.

وبالرغم من كلِّ الدعم الذي يحظى به روحاني من المرشد الأعلى الإيراني، فقد واجهت أجندته الإصلاحية مقاومةً قويةً منذ البداية. ويكْمُن أحد أسباب ذلك في أنَّه على درايةٍ ببواطن النظام ولديه خلفيةٌ أمنية قوية، ومن ثَمَّ فإنَّه يعرف كيف يُلاعب النظام إذا اقتضت الحاجة. ولذلك، فهو أقدر من أيِّ رئيسٍ إصلاحي أو شعبوي على الضغط على دوائر السلطة تلك التي خلقت واقعًا سياسيًّا اقتصاديًّا خاصًّا بها. فهذه شبكاتٌ شبه سريَّة تستفيد من المحسوبية المحلية من جهة، ولكنَّها مزدهرةٌ بسبب العقوبات والاقتصاد السري الذي خلقته من جهةٍ أخرى. وترتبط هذه الشبكات في معظم الحالات بواحدةٍ أو أكثر من المؤسسات الدينية (البُنياد) التي تشتهر بسمعةٍ سيئة لعدم شفافيتها، وكونها مرتعًا للمحسوبية أو الجريمة المنظَّمة. ويُطلَق عليها “المافيا الاقتصادية” في اللغة الشعبية الإيرانية. جديرٌ بالذكر أنَّ مؤسسة الإمام الرضا – التي تُعَدُّ واحدةً من أبرز هذه المؤسسات وتقع في مدينة مشهد الإيرانية – تُمثِّل إمبراطوريةً اقتصادية وقوةً سياسية مستقلَّة، أو بالأحرى دولةً داخل الدولة تتحكَّم في قطاعاتٍ عريضة من الاقتصاد الإيراني بطرقٍ مباشرة وغير مباشرة. وكان إبراهيم رئيسي أمين المؤسسة مُرشَّحًا منافسًا لروحاني في آخر انتخاباتٍ رئاسية إيرانية. وفي العَلَن، كان الفرق بين روحاني ورئيسي على مستوى الأفكار الاقتصادية أو الحريات الثقافية.

ومع ذلك، شدَّد رئيسي على محاربة تنظيم داعش في سوريا، ومثَّلها بأحد وجهي عملةٍ معدنية يُمثِّل وجهها الآخر محاربة إسرائيل. وعلاوةً على ذلك، أنشأ علاقاتٍ جيدة مع قادة بعض الميليشيات العراقية، مثل عصائب حزب الله وحركة النجباء اللتين التقى بقادتهما. جديرٌ بالذكر أنَّ عصائب أهل الحق وحركة النجباء يُعدان من أكثر الميليشيات تطرفًا، وينتمي قادتهما إلى الجيل الأصغر من الشيعة المتطرفين. ولا يُعرَف ما إذا كانت الحركتان تتلقيان أموالًا من مؤسسة الإمام الرضا أم لا، ولكن نظرًا إلى قربهما الأيديولوجي والشخصي من رئيسي، سيكون ذلك أمرًا منطقيًّا. وبالإضافة إلى ذلك، أطلق رئيسي مبادراتٍ لبناء منازل وتوفير خدماتٍ اجتماعية أساسية لمقاتلي لواء “فاطميون” الأفغاني العائدين من سوريا وعائلاتهم، ما أثار تساؤلاتٍ عن سبب إسكانه هؤلاء المقاتلين الذين صاروا أشدَّاء بسبب المعارك في منطقته، فهل يخطِّط للاستفادة من مهاراتهم في مكافحة التمرُّد حالما يصبح الوضع في إيران غير مستقرٍّ؟

وسواءٌ أكان ذلك صحيحًا أم لا، فإنَّ التزام رئيسي بالمسرح السوري جزءٌ من الدفاع عن مصالحه الاقتصادية الخاصَّة. فرئيسي يُدرك تمامًا أنَّه حالما يعود الاقتصاد الإيراني إلى مساره، ويشهد تحديثاتٍ بفضل مساعداتٍ دولية معظمها من أوروبا، ستصبح أيام ازدهار شركاته الاقتصادية وغيرها من الشركات الاقتصادية الضخمة معدودةً. ولكن ما لم يحدث ذلك، فسيكون ناجحًا في نشر القضية السورية محليًّا ودعم بعض الميليشيات إقليميًّا. وبطريقةٍ غامضة، تُعَدُّ هذه حلقةً تعود بنا إلى تاريخ الجمهورية الإيرانية. ففي بداية الثمانينيات من القرن العشرين، حدثت حالةٌ مماثلة عندما سيطرت شبكةٌ شبه سريَّة من ناشطين شيعة ذوي دهاءٍ اقتصادي تحت قيادة مهدي هاشمي على “مكتب الشؤون الدولية” التابع للحرس الثوري الإيراني، وكان هذا المكتب وسيلةً للترويج للإرهاب في جميع أنحاء العالم باستخدام حججٍ مشابهة جدًّا للحجج التي يستخدمها رئيسي حاليًا. واستغرق وقف الأنشطة المُغامِرة الإيرانية من الإيرانيين ستَّ سنواتٍ في مواجهةٍ دموية. ثم أعقبت ذلك عملية إضفاء الطابع المهني على السياسة الخارجية والاستراتيجية الإيرانية، لا سيما فيما يتعلَّق بالشرق الأوسط. وإذا أرادت أيُّ دولةٍ منعَ إيران من أداء دورٍ تدميريٍّ في المنطقة، فعليها أن تضمن أنَّ التركيز على التطورات المحلية – لا سيما الإصلاحات الاقتصادية والقانونية كما روَّج لها روحاني – سيحظى بالفرصة التي يستحقها عبر تنفيذ الاتفاق النووي. وإلا فإنَّ رئيسي وأمثاله هم الذين سيُشكِّلون السياسة الإيرانية في السنوات المقبلة، وستزداد احتمالية المواجهة بين إيران والغرب.