الموجة الثانية للثورات العربية: نجاحات وتجاذبات
شهد شهر أبريل/نيسان 2019 سقوطًا مدويًا لرأسيى النظام السياسيى في الجزائر والسودان بعد أسابيع من التظاهر والاحتجاجات، حيث كتب شعبا البلدين بداية الموجة الثانية من الربيع العربي بعد أكثر من ثماني سنواتٍ على انطلاق موجتة الأولى التي تم احتواؤها وتقويضها والالتفاف على استحقاقاتها في موجة مضادة قادتها أنظمةٌ استبداية برعايةٍ ودعم إقليميٍّ ورضًا وتشجيعٍ دوليٍّ، ولم ينجُ منها سوى ثورة “الياسمين” في تونس.
وقد اندلعت تلك الاحتجاجات في كلا البلدين لأسبابٍ مختلفة بعضها مشترك وبعضها خاصٌّ بكل تجربة، فقد كان سعي النظام السياسي في كلا البلدين نحو تأبيد السلطة، متجاهلًا إرادة الشعوب ورغبتها في التغيير الإيجابي الذي تستحقه، وكان هذا هو السبب المشترك في التجربتين لاندلاع التظاهرات، فقد بدأ الشعب الجزائري في التظاهر في 22 فبراير/شباط 2019 ضد ترشُّح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة رغم اختفائه طوال عهدته الرابعة التي بدأها متقاعدًا إثر إصابته بسكتة دماغية بينما تولَّت الدولة العميقة والجيش مقاليد السلطة باسم الرئيس بشكل عمليٍّ مع الحفاظ على اسمه ورسمه في الصدارة رغم غيابه.
وأما في السودان فقد مثلت التعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس السوداني عمر البشير ليتمكَّن من الترشُّح لرئاسة السودان من جديدٍ بعد ثلاثة عقودٍ من حكمه شرارةَ الثورة الفعلية رغم اندلاع الاحتجاجات قبل ذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها الشعب السوداني والتي عجز نظام البشير عن السيطرة عليها، ورفع الشعب السوداني شعارًا معبرًا: “تسقط بس”.
ويبدو أن النضج الثوري والوعي السياسي لدى الشعبين كان له عظيمُ الأثر في استمرار التظاهرات وعدم ترك ميادين التظاهر والانشغال بالاحتفالات بالنجاح النسبي الذي تحقَّق نتيجة ضغط الشارع متمثلًا في استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يوم 2 أبريل/ نيسان 2019 بعد نحو ستة أسابيع من الثورة عليه, وإقالة الجيش للرئيس السوداني عمر البشير يوم 12 أبريل/ نيسان 2019 بعد مرور أكثر من ستة عشر أسبوعًا على الثورة عليه.
لقد استوعبت الجماهير في الجزائر والسودان إخفاقات الموجة الأولى من الربيع العربي والانقلابات عليها، خاصةً التجربة المصرية التي كانت قاصمةَ الظهر للربيع العربي، والتي باتت نموذجًا مثاليًّا لنجاح الأنظمة القديمة في العودة للسلطة مرةً أخرى عبر موجةٍ مضادة، حتى أصبحت مادةَ حوارٍ بل وشعاراتٍ للجماهير الثائرة في الجزائر والسودان الذين رفعوا شعارًا معبرًا: “إمَّا النصر وإمَّا مصر”، وهم يتذاكرون في ميادينهم كيف قام النظام القديم في مصر عند عودته للسلطة عبر ثورة مضادة بالقضاء على استحققات الثورة ونجاحاتها التي تحقَّقت بدماء الثوار وتضحياتهم من مجالس تشريعية منتخبة بشكل حرٍّ مرورًا بأجواء الحرية ومناخها حتى الانقلاب على الرئيس المدني المنتخب من خارج المؤسسة العسكرية لأول مرة منذ أكثر من 60 عامًا.
ومن الدروس التي استلهمتها الشعوب من إخفاقات الموجة الأولى للثورات العربية عدمُ الانشغال بسكرة الانتصار النسبي الذي حقَّقته عن مواصلة المسيرة الثورية والمثابرة والاستمرار في الحشد الجماهيري في الشوارع والميادين رغم سقوط رأسَي النظام في كلا البلدين، وعدم التصديق المطلق لوعود الجنرالات ورفض أيِّ شكلٍ من أشكال تبريد الثورة وإطالة أمد التفاوض من أجل تسليم السلطة للمدنيين. كما أعلن المتظاهرون في السودان والجزائر رفضَهم الواضح للتدخلات الإقليمية التي تسعى لاحتواء المدِّ الثوري مستغلةً الأزمات الاقتصادية المصاحبة عبر تقديم الدعم ليس للشعوب ولكن للقوى التي يمكن أن تكون مخلبَ قطٍّ ورأسَ حربةٍ لتأمين عودة الأنظمة القديمة أو إيجاد أنظمة جديدة تحافظ على مصالح تلك الدول الإقليمية مستقبلًا؛ ولذلك عبَّر المتظاهرون في كلا البلدين عن رفضهم التدخل الإماراتي على الخط، بينما رفض الجزائريون التدخل الفرنسي ودعمه لرجاله، وكذلك رفض السودانيون التدخل المصري.
وتتَّسم هذه المرحلة من عمر الموجة الثانية للربيع العربي بالسيولة الشديدة، بل وتُعتبر أشبه بحرب عضِّ الأصابع بين طرفها العسكري من ناحية والقوى الثورية من ناحية ثانية، طرف يريد تبريد الثورة وإخراج قطارها عن مساره أسوةً بأخواتها في دول الجوار، أو الحيلولة دون بلوغ ثورات الربيع العربي إلى تحقيق أهدافها.
فرغم وجود سيناريوهاتٍ محتملة لمآلات هذه الموجة الثورية في الجزائر والسودان، فإن إطارًا عامًّا من الضبابية يُخفي وراءه صراعاتٍ محتدمةً ويجعل من الصعب على أيِّ مراقبٍ توقُّع أيِّ مسار تسلكه عواصف هذه الموجة الثورية.
ففي الجزائر وحتى وقتٍ قريب، كان سيناريو إتمام الانتخابات الرئاسية حاضرًا على الساحة السياسية والتي كان مقررًا لها الرابع من شهر يوليو/ تموز 2019، إلا أن انقضاء المهلة القانونية دون ترشُّح أحدٍ سيؤدي حتمًا إلى إلغائها بشكل آليٍّ والضغط على جميع الأطراف للبحث عن بدائل بعد دخول البلاد في حالة فراغٍ دستوريٍّ، حيث تنتهي ولاية الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح في 9 يوليو 2019 بانتهاء فترة الـ 90 يومًا التي حدَّدها الدستور الجزائري لاختيار رئيسٍ جديد، وبانقضاء هذا السيناريو فإن أمام الجزائر ثلاثة سيناريوهاتٍ بديلة:
الإعلان عن تمديدٍ آخر للمهلة الدستورية لاستجلاء مرشحين جدد للانتخابات وفقًا للمادة 103 من الدستور الجزائري التي تنصُّ على: “تمدد في هذه الحالة آجال تنظيم انتخابات جديدة لمدة أقصاها ستون يومًا، ويظل رئيس الجمهورية السارية عهدته أو من يتولى وظيفة رئيس الدولة، في منصبه حتى أداء رئيس الجمهورية الجديد اليمين” كما أوضح ذلك عبد الوهاب بن زعيم النائب عن جبهة التحرير الوطني بالبرلمان الجزائري.
صدور إعلان رسمي من المجلس الدستوري يُقضى بمقتضاه بإلغاء انتخابات يوليو القادم لعدم ترشُّح أحد وفتح حوار سياسي والإعلان عن موعدٍ جديد للانتخابات وفقًا لمخرجات الحوار الوطني كما توقَّع وزير الصناعة الأسبق عبد المجيد مناصرة، وربما يحقِّق ذلك مطالب الجماهير الثائرة والمصرَّة على ضرورة عدم مشاركة كل رموز النظام السابق تمامًا في أي عملية سياسية قادمة إذا تم الاتفاق على ذلك في الحوار أو في حالة إصدار المجلس الدستوري لإعلان دستوري يقضي بالعزل السياسي لكل رموز نظام بوتفليقة، وبالتالى يجنح الحال في الجزائر نحو الاستقرار النسبي كالنموذج التونسي.
القيام بانقلاب عسكريٍّ للإطاحة بقايد صالح ورجاله من المشهد، ومن ثمَّ – في حدِّه الآمن – الرضوخ لمطالب الجماهير أو – في حدِّه العنيف – التعامل بدموية وعنفٍ مع الجماهير لتكريس حكمٍ تسلُّطيٍّ يفرض إرادتَه أسوةً بالنموذج المصري.
وبافتراض استمرار الحشد الجماهيرى المتنوِّع وتناميه في ربوع البلاد والحفاظ على وحدة الصف الثوري ووضوح الهدف وعدم تشتُّته وممارسة الضغوط على المجلس العسكري والقيادة المؤقتة للبلاد ويقظة الوعي الجمعي للحشود والنخب، فإن السيناريو الثاني هو الأرجح؛ إذ ربما – وفقًا لهذا السيناريو – تنجح هذه النسخة الثانية من الربيع العربي في الجزائر وتتجاوز معوقات أخواتها وتحول دون عودة عجلة النظام السابق للخلف.
أما في السودان فيبدو أن الثورة السودانية هذه المرة تختلف كثيرًا عن سابقاتها وربما كانت الأطول وجماهيرها أكثر إصرارًا وأعمق وعيًا نحو رفض المسكنات السياسية والترغيب والترهيب من ناحية ثانية، ويبدو أن النجاح الذي حقَّقه العصيان المدني الذي دعت إليه قوى الحرية والتغيير سيفتح شهية الحشود الجماهيرية لممارسة المزيد من الضغوط من أجل الانتقال السلمي للسلطة، ويلوح في أفق الثورة السودانية ثلاثة سيناريوهات:
- استمرار تعنُّت المجلس العسكري مع الثوار ورفض منحهم أي تنازلات، بل والتعامل معهم بعنفٍ وخشونة، ووفقًا لهذا السيناريو فقد تكون الفرصة سانحةً لبعض دول الإقليم لتغذية حركات التمرُّد المسلَّحة وإثارة النزعة الانفصالية لديها لتدخل على الخطِّ وتسعى لحسم ملف التقسيم من جديد، ويساعد على ذلك انشغال المجلس العسكري بالحالة السياسية عن حماية الدولة وأطرافها، وربما أدى ذلك إلى تفكُّك السودان.
- استغلال المجلس العسكري حالة الاستقطاب بين القوى الإسلامية وباقي القوى الثورية لاستمرار المراوغة لإطالة أمد الفترة الانتقالية، ومتابعة حملة الاستهداف السياسي والأمني للقوى السياسية.
- نجاح الضغوط التي تمارسها القوى السياسية على المجلس العسكري وإجباره على الاستجابة لتطلُّعات الجماهير الثائرة والقيام بنقل السلطة وَفْقَ عملية سياسية شاملة مع الحفاظ للمجلس العسكري على أفضلية دستورية وسياسية باعتباره حارسًا لانتقال السلطة.
ووفقًا لحالة التقارب بين المجلس العسكري السوداني والدول الإقليمية المناوئة للربيع العربي (السعودية والإمارات ومصر)، فإن السيناريو الثاني هو الأقرب للوقوع خاصةً مع ظهور بعض علامات النموذج المصري في الوسط السوداني من تعمُّد تطويل الفترة الانتقالية، وحضور الطرف الثالث في الاعتداءات على المتظاهرين، واللعب على التناقضات بين القوى الوطنية لتوسيع الهوَّة بينها وغيره.
وعلى أية حال، يتوقَّف حسم تلك الموجة الثورية لصالح الشعوب على وعي الجماهير الثائرة وقدرتها على الصمود والحشد؛ إذ تستفيد القوى المناوئة للثورة – غالبًا – من طول الفترة الانتقالية مع عدم حسم ملفاتها، بينما يزيد طول تلك الفترة من الضغط الشعبي على قوى الثورة للقبول بسقفٍ منخفضٍ من المطالب خاصةً إذا ما تأثرت حياتهم اليومية، وكذلك الاختلافات الإيديولوجية بين مكونات الثورة واتفاقها على أجندة وطنية تُعلي من مصلحة الوطن والسعي للاتفاق على أهدافٍ مشتركة وعدم الانفراد بالاتفاق مع العسكر دون اتفاق كل القوى الثورية، مع ضرورة الإدراك التام للمخاطر الخارجية المحدقة بالثورة والتي تقوم بها الدول الداعمة لعودة الأنظمة القديمة.