تونس ما بعد الكورونا

تمهيد : قد يبدو العنوان موغلا في التفاؤل، ولكن یتوقع أن تسیطر تونس في ظرف الأسبوعین القادمین على جائحة كورونا على أراضیھا، وستفتح المطارات في أواخر یونیو الحالي، وستعود الحركیة الاقتصادیة بعد أن تجمدت لشھرین كاملین. وبھذا تكون البلاد في كوكبة الدول التي تحقق ھذا المنجز بفضل صرامة الإجراءات والتفھم الغالب للناس وكفاءة وإخلاص الطاقم الصحي، إضافة أن النخبة السیاسیة راعت نسبيا الأوضاع فقلصت شيئا ما من صراعاتها ومناكفاتها.

هذا الجانب المشرق من الصورة، لكن الستارة ستتكشف على وضع جديد شديد التعقيد، يتجاوز ما كان حاصلا عندما تسلمت الحكومة مھامھا أواخر فبرایر الماضي.

كان الجمیع یدرك حينها أن البلاد تمر بأزمة مالیة حادة ستكون لھا انعكاساتھا الاقتصادیة والاجتماعیة الكبرى قد يصل حد تهديد قدرة الدولة على الإیفاء بالتزاماتھا مع المؤسسات المالية الدولیة ومع المؤسسات المقدمة للخدمات في البلاد بل تنبأ البعض باحتمال وصول الأوضاع إلى عجز الدولة عن سداد أجور الموظفین.

الأزمة الآن، وبعد التحكم الموضعي في الجائحة، تدخل منعرجا جديدا. فالقطاع السیاحي، أحد متنفسات البلاد وروافع التشغيل فيها بما يوفره من وظائف مباشرة وغير مباشرة یمكن اعتباره قطاعا منكوبا، وأن كانت له من عودة فلن تكون قبل سنة من الآن، كما أن النسیج المؤسساتي المشكل من حوالي سبعمائة ألف مؤسسة – أغلبها من صنف المؤسسات  الصغرى والمتوسطة – مھدد بصعوبات كبرى قد تؤدي إلى الإفلاس ثم الإغلاق وبالتالي الارتفاع الجنوني لنسبة البطالة المتراوحة عادة بين 15% و15.5% لتقفز إلى حدود 20%، أي الانتقال من حوالي 650 ألف معطل إلى ما يتراوح بين 800 ألف في أكثر التقديرات تفاؤلا والمليون معطل في تقديرات معقولة وخاصة في أوساط أصحاب الشھادات الجامعیة  والمسرحين من المؤسسات و القطاعات المنكوبة مع ما قد ينضاف إليها من عمالة مسرحة من دول أوروبية وخليجية.

هذا الوضع الجدید یتطلب إعادة قراءة للتحدیات وللفرص أیضا، واستثمارا لنقاط القوة، ومنھا ھذا السبق الزمني.

 ھل ستنجح النخبة التونسية في التوحد لتجتاز منطقة الزوابع التي ستستمر طالما لم یتم التحكم في الجائحة على مستوى العالم، أم أنھا ستفوت الفرصة وستعود إلى خصوماتھا التي حاولت التحكم فیھا نسبیا خلال الحرب على الجائحة؟

ھذا ھو السؤال المر كزي الذي ستحاول ھذه الورقة الإجابة عنه.

الصورة

المتابع لأوضاع البلاد منذ ثلاثة أسابيع يلاحظ أنها تعيش على وقع توتر متعدد المستويات والدوافع، ساحاته مؤسسات الدولة ومنابر الإعلام والشارع وخاصة منصات التواصل الاجتماعي الحافلة بكل أصناف الحروب والتحاليل والإشاعات، وكأن أطرافا كثيرة كانت تستعجل انتهاء الحجر لاستئناف للعودة إلى معاركها السابقة وتصفية حساباتها، واستباق السياسات، والتموقع، والاستثمار السياسي.

غابت لحد الآن فكرة تتويج انتصار وطني مشترك، يتّخذ منصة لخطة وطنية تعبّأ فيها كل الطاقات والأفكار والإرادات. ففي سنة 1994، اتخذ الرئيس الأسبق مناسبة رياضية كبرى انتظمت في جنوب إفريقيا منصة لدعم الوحدة الوطنية وتسجيل نقاط إضافية ضد ثقافة الميز العنصري.

نحتاج قليلا من الجهد لتفكيك الصورة والتمييز بين أصناف ودوافع وأرضيات الاحتقان، فالتفاصيل والألوان هي التي تعطي الصورة هويتها، وتضاريسها، وجمالها، وهي التي تسمح بإصدار حكم على ما يحدث، واستقراء ممكنات تطوره.

نجد في المستوى الأول حملات من شخصيات تعتمد الإثارة، دون ثقل اجتماعي، أو رافعة سياسية، تستهدف رئيس الجمهورية والبرلمان ورئيسه، ومن الأحزاب تركز على حركة النهضة.

 تُفسح لها فضاءات في وسائل إعلام تونسية وتحتفي بها قنوات تلفزية سعودية وإماراتية، تنشر خطاب الصّدام والكراهية وتخلق من أجل ذلك مناخات شحن وتعبئة وتضبط مواعيد للتحرك في الميدان.  تريد أن تغازل ذاكرة ورمزيات القوى التي تحركت وتعبأت في صائفة 2013 ضدّ حكومة الترويكا. تسرق العناوين والأماكن والاهداف، فتحيل إلى اعتصام الرحيل وإلى جبهة الإنقاذ وإلى رمزية ساحة باردو وإلى رمزية استهداف المجلس التأسيسي وتعويضها الآن باستهداف البرلمان. كان موعدها الأول بتاريخ 1 يونيو فضيحة، وهي تستعد للتهيئة في مواعيد قادمة منتصف الشهر، ولن يكون مآلها مختلفا.

 ونجد في المستوى الثاني قوى منظمة، موجودة في المؤسسات، وتمثل ديمقراطيا شريحة من الرأي العام، ولكنها تناهض مجمل مسار ما بعد الثورة ومكاسبه من دستور ومؤسسات، وتعتمد خطاب الكراهية والتحريض، ولا تخفي نواياها التقويضية، وتسعى أن تكون الناطقة باسم دوائر نفوذ كانت مستفيدة من الأوضاع قبل الثورة، وأن تستفيد من إحباط شرائح لا يقنعها إبراز المنجز السياسي الديموقراطي.

الحزب الدستوري الحر هو الممثل الأساسي لهذه القوى وهو يستهدف حركة النهضة ويندرج بوضوح ضمن إستراتيجية في المنطقة تجاهر بمعاداة ما يسمى بالإسلام السياسي، ولكنها في الحقيقة تعادي كل مسارات التغيير والديموقراطية والتحرر الوطني وتحظى بدعم سياسي وغطاء إعلامي كثيف ومباشر.

خطة هذا الحزب لم تتغير منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات، وتمثل في خوض معركة حدية ودفعها للأقصى، ووضع القوى الوسطية والعقلانية في الزاوية لمجاراة خطابها ونسقها إن أرادت الحفاظ على حضورها السياسي في المستقبل والهدف هو ملء الفراغ الذي تركه الباجي قائد السبسي لكن بمضمون مختلف، بل متناقض.

فالرئيس الباجي شخصية سياسية لها قناعاتها الديموقراطية القديمة، وإن بمفهوم خاص، وهو شخصية ذكية، جمّع القوى التي لا ترى نفسها في حركة النهضة من اجل إزاحتها من المشهد، ثم انتبه بحدسه القويّ، وربما بنصائح بعض أصدقائه الكثر في البلاد وخارجها أن هذا الرهان غير ممكن، فعوّل على الاحتواء من خلال الشراكة.

عبير موسي تقود الآن إستراتيجية المواجهة من داخل المؤسسات، وهي لا تستقطب فقط من الشرائح الدنيا كما يتصور ويروج البعض، ولا من الفئات التي كانت مستفيدة من الأوضاع ما قبل الثورة. إنها تستقطب أيضا من أوساط نخبة تنتسب  إلى الحداثة والتقدمية فقدت بغياب الحبهة الشعبية غطاءها الايديولوجي و السياسي وتسعى إلى إعادة البلاد إلى مربع التطاحن الأيديولوجي، و إلى أوضاع ما قبل صائفة 2013.

استطلاعات الرأي تبرز اتجاها ثابتا في تقدم هذا الحزب منذ أشهر بما قد يدفع البلاد إلى استقطاب ثنائي نهضة -الحزب الدستوري الحر، ويغيب الوسط.

ونجد في المستوى الثالث توترات مجالها المؤسسات والفضاء الإعلامي وأحيانا الشارع، ولكن على قاعدة الانتساب للثورة أو الإقرار بمكاسبها ومنجزاتها وخاصة الالتزام بالدستور والتدافع السلمي والتغيير عبر آلية الانتخابات.

وتتخذ شكل الصراعات السياسية أحيانا حول الصلاحيات والأدوار وتأويل طبيعة النظام السياسي حتى فيما كان يظن انه بديهي، وساحاتها البرلمان بتركيبة الفسيفسائية القلقة، والحكومة التي تجني أخطاء ومناخات إدارة مرحلة ما بعد الانتخابات، كما أن من ساحاتها العلاقة ما بين الأحزاب، بل وداخل عدد من الأحزاب المؤثرة.

كما تتخذ شكل الصراعات الاجتماعية أحيانا أخرى تعبر عنها إضرابات حصلت وأخرى برمجت للأسابيع القريبة القادمة لأسباب نقابية أحيانا وغير نقابية أحيانا أخرى استباقا لاستفاقة البلاد من خدر الإغلاق.

ونجد في المستوى الرابع توترات مرتبطة بالمواقف من الاصطفافات التي تبلورت في الإقليم خلال العشر سنوات الأخيرة أو مما يحدث في ليبيا من تطورات في الأسابيع الأخيرة.

منذ الثورة تتقاطع المواقف الإستراتيجية للقوى السياسية والاجتماعية التونسية مع ما يحدث في المنطقة، كان هناك فرز أصلي بين القوى الداعمة للثورة والديموقراطية والقوى المناهضة لها، غير أنه حصل أيضا فرز آخر داخل القوى المنتسبة للثورة، في علاقة بالمسارين الليبي و السوري، بين إسلاميين وليبيراليين ويساريين ديموقراطيين يعتبرون أن البوصلة المركزية للفرز يجب أن تكون حول الديموقراطية ومناهضة الاستبداد وحقّ الشعوب كلّها في تقرير مصيرها، و قوى أخرى ماركسية وقومية ونقابية تميّز في حراك الشعوب بين الثورات المقبولة و الثورات غير المقبولة من خلال تصنيف الأنظمة القائمة.

وانعكس الفرز في المنطقة بين: تركيا وقطر من جهة في مقابل السعودية والإمارات ومصر على خارطة مجلس نواب الشعب لتجد قوى تقدمية وثورية نفسها في نفس الموقف مع أنظمة تصنفها بالرجعية ومع قوى تونسية تصمها بمناهضة الثورة.

خلاصة الصورة

  تتمثل في عودة الاحتداد بطريقة غير مسبوقة، وعودة الاصطفافات حول محاور القديم والجديد، والثورة والثورة المضادة، والإسلام والعلمانية، والاصطفافات المعلومة في المنطقة، وعودة الحديث عن الاستهداف للتجربة والبلاد، والحديث حتى عن انقلابات أو انفلاتات، وعودة خطاب التنافي ومحاولة إعادة معسكرات ومناخات 2013.

وخلال كل ذلك غاب السجال والمضمون السياسي بما يعنيه من تقديم أطروحات حول استعادة العافية الاقتصادية واستثمار السبق المعنوي والوقوف صفا واحدا لحماية النسيج الاقتصادي وصياغة خطاب أمل عقلاني للشباب.

والتخويف هي إستراتيجية فترات الاضطراب والحيرة، حينها تقفز القوى المتطرفة لتملأ الفراغ فتشكك في كل شيء وتضع نفسها موقع المنقذ.

في انتخابات 2019، تقدمت قوى تبشيرية بديلا عن مشهد أثبت محدوديته، الآن القوى التقويضية هي التي تحاول تصدر المشهد.

الملفت للنظر أن التخويف قد يصبح كذلك في مثل هذه الأوضاع أداة من أدوات الضبط والتوظيف داخل الأحزاب ذاتها، ويظهر ذلك من خلال غياب التأطير السياسي ومحاولة توجيه سيولة الفضاء الافتراضي التي تصنع في النهاية واقعا.

الفجوة بين الصورة والحقيقة

لكن هذه الصورة ليست هي الحقيقة، ولذلك حرصنا على تفكيك مكوناتها.

فالأزمات تخرج عن السيطرة إذا تداخل فيها الدوافع المبررة مع جهود التوظيف وحتى الاختلاق والاصطناع مع غياب جهة تملك لوحة القيادة قادرة على التصنيف في الفهم وعلى التصنيف في التعاطي. وهذا يتطلب قدرة كبيرة على التجرد و الفرز .

سياسيا، إن الحليف الفعلي لقوى التقويض والحنين إلى الماضي هي النزعات الفوضوية، ولذلك لا يمكن ولا يجب التسوية بينها وبين القوى التي تقف ولو من مواقع مختلفة على أرضية الدستور والمكاسب الدستورية، كما لا يجب أن يتحول الاختلاف في تقدير الموقف من بعض القضايا الخلافية في الإقليم إلى تهديد للالتقاء الأوسع حول المسار الديموقراطي في البلاد.

كما أن الحراك النقابي يقف على أرضية الحقوق الدستورية والقانونية ولا يجب التسوية بينه وبين استراتيجيات الفوضى أو دفعه ليخدم في النهاية استراتيجيات إقليمية مناهضة للديموقراطية.

وبالمقابل، مطلوب أن يراعي هذا الحراك الاجتماعي الزمن السياسي، وكذلك الانتباه إلى إمكانية الالتقاء بين النزعات الفوضوية ومتنفذين نقابيين كانت لهم علاقاتهم التاريخية مع دوائر الفساد المالي والسياسي، ويتخذون المظلة النقابية ستارا للتوقي من المحاسبة، وقد يورطون القيادة النقابية في معارك ليست معاركها في خضم سياق انتخابي قبل مؤتمر ساخن للمنظمة النقابية.

ومن جهة أخرى، وارتباطا بالسياق الإقليمي، فتقديرنا أن تونس ليست في مرمى القصف للقوى المناهضة للديموقراطية في المنطقة التي لم تعد بنفس قوة سنة 2013، وهي المستغرقة في ملفات أكثر حيوية بالنسبة لها. أن التعويل على القصف الإعلامي الكثيف للنزعات الفوضوية لن يكون له كبير تأثير، وهو سيتقلص تبعا لتواضع المردود السياسي ولتقليص الموارد المالية نتيجة التداعيات الكبرى لجائحة كورونا وللتكلفة المالية التي سترتفع في ساحات مرشحة لاحتدام الصراع فيها (اليمن وسوريا وليبيا).

نرجح أن تتجه الأوضاع إلى بسط الاستقرار في أغلب مناطق الغرب الليبي، لتتركز النزاعات في المناطق الأقرب إلى الحدود المصرية. وسيكون لذلك أثار إيجابية على الحالة الليبية وعلى المنطقة المغاربية وأساسا على تونس.

 كما يتوقع أن تنطلق إعادة الإعمار في ليبيا، في المناطق التي يتوفر الاستقرار، وهذا يعني في المآل تخفيف الضغوط الأمنية على تونس، وتوفير فرص للتعامل الاقتصادي الثنائي.

 كما أن القوى الكبرى لم يتغير موقفها من التجربة التونسية بل ربما تكسب تونس مكاسب أكبر في الأوضاع الجديدة من حيث هي قوة وساطة وتعديل.

الأزمة القادمة في تونس، كما في غالب بلدان العالم وكل دول المنطقة، ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية بالأساس، وقد بدأت النذر من خلال تجميد كثير من البرامج الوزارية التي كانت مبرمجة بسبب غياب الاعتمادات التي وجهت خلال الجائحة إلى مصارف أخرى.

ستكون البلاد في عين العاصفة إلى نهاية سنة 2021 في أكثر المشاهد تفاؤلا، والأمر موكول إلى الإدارة السياسية في حسن التعاطي مع الأوضاع، إذ نعتبر أن المشكلات في السياسة مهما كانت طبيعتها مرتبطة بنوعية القيادة، وقد جرب التونسيون هذه الحقيقية في العهدة ما بين 2014 و2019.

وإدارة الشأن العام هي في العمق تعاقد سياسي غايته المادية المحسوسة هي الإنجاز، ومحتواه الأخلاقي هو بناء جسور الثقة مع جمهور الناخبين وتحسيسهم أن الهيئات التي انتخبوها ليس لها من أولويات سوى أولوياتهم.

المؤشرات الحالية تدل على فجوة جوهرية بين مشاغل الطبقة السياسية وصراعات البرلمان وبين الأوضاع المحسوسة، وأخطرها إمكانية وصول نسبة البطالة إلى 20%، وهو الذي يجب أن يقود كل اللعبة السياسية وما فيها من صراعات وتنافس وتحالف.

المشاهد الثلاثة الممكنة 

تونس اليوم في مفترق بين طريقين يؤدي أولهما إلى استثمار السبق المعنوي للتحكم في الجائحة، على الأقل في الظرف الراهن، وضبط لوحة الصعوبات والفرص، وترتيب أوضاع قاطرة القيادة الوطنية بناء على ذلك، ومن مقتضيات ذلك، ترتيب العلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، وبين الكتل الديموقراطية في البرلمان، وبين مكونات الفريق الحكومي، بل وترتيب الأوضاع داخل بعض الأحزاب المؤثرة على قاعدة الالتزام الديموقراطي إذ يخشي أن تتفجر الأوضاع داخل بعض الأحزاب فتؤثر في مجمل البناء الوطني مثلما حصل  مع نداء تونس في العهدة السياسية السابقة .

أما الطريق الثانية إذا استمرت وتفاقمت المناكفات بين المؤسسات وداخل المؤسسات وداخل الأحزاب فإنها تؤدي إلى تفاقم الفجوة بين المنتظم السياسي وعالم المواطنين وإلى تغذية اتجاهات الإحباط التي قد تعبر عن نفسها باللجوء إلى الشارع، وحينها قد يتدخل رئيس الجمهورية، الذي لا يزال يتمتع رغم كل شيء بسمعة جيدة لاجتراح حل من خلال المسالك الدستورية والمؤسساتية، وقد يسبق خصوم الديموقراطية في المنطقة ونزعات الفوضى والعودة إلى الوراء في البلاد إلى توظيفها.

تقوية الوسط الوطني، وعزل قوى التطرّف، وبناء الثقة بين مكونات الحد الأدنى الدستوري والديموقراطي بمختلف مرجعياتها، وردم الفجوة مع جمهور الناخبين بالتأكيد على الالتزام بقواعد الحوكمة الرشيدة والحد من خسائر النسيج الاقتصادي الوطني وتقليص خسائر سوق الشغل والبحث عن مسالك جديدة هي الخيار الثوري أو الديموقراطي، سيان.

وقد انتبه كثير من الديموقراطيين إلى احتمال اندلاع أزمة وضرورة وجود شخصيات وطنية وسطية وعقلانية تقوم بأدوار التهدئة وفك الاشتباكات التاريخية والأيديولوجية، كما بادر البعض مثل السياسي نجيب الشابي بتقديم عرض سياسي يحاول أن يكون بديلا، ولكن مقوماته لا تعدو أن تكون تكرارا لعناوين كانت من مكونات الأزمة السياسية في البلاد.

على الفاعلين الأساسيين أن يختاروا بين مسار من ثلاثة: فإما البناء على المكسب الصحي والاقتراب من وعود ورسائل انتخابات خريف 2019، أو تفويت الفرصة ودفع الأوضاع إلى انتخابات سابقة لأوانها، أو انفلات الأمور من الجميع في حالة فوضى لا يعلم مآلها أحد.

ما سيرجح أحد الخيارات على غيره هو معالجة غياب الثقة، وتلك هي المعضلة الأساسية للسياسة التونسية، ولن يحدث ذلك إلا ببذل جهود للتخلص من الثقافة السياسية القائمة على التذاكي والتكتيكات الصغيرة واعتبار الحكم مجرد حرب تموقعات.

رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في وضعية عجيبة، إذ يمكنه أن يتحوّل إلى أضعف شخصية إذا قبل ألاعيب مختلف الفاعلين ليكرّر التجربة الفاشلة لسلفه. ولكن يمكنه أن يتحوّل إلى أقوى شخصية إذا ضغط على كل الفاعلين ووضع في اعتباره إمكانية التلويح بأهم ورقة يملكها وهي الاستقالة إذا اصطدم باستمرار التكتيكات العبثيّة الصغيرة.