الأزمة المركبة في تونس: بين بناء الوسط وانفلات التطرف

تمهيد: في مثل هذه الأيام من السنة الفارطة كانت تونس تستعد لانتخابات عامة بعد وصول منظومة الحكم التي أفرزتها انتخابات خريف 2014 إلى حالة متقدمة من الإنهاك ولم يعد بمقدورها تقديم شيء. وكان يُنظر للانتخابات باعتبارها فرصة لإحياء الأمل وتعديل المسار وإعطاء نفس جديد للثورة التونسية. وكانت مناسبة لإعداد القائمات وترتيب التحالفات وضبط الاستراتيجيات وحتى محاولة تغيير قواعد اللعبة في اللحظات الأخيرة. وبالفعل كانت المحطة الانتخابية بشقّيها الرئاسي والتشريعي فرصة للشارع لإعادة صياغة المؤسسة بهدف واضح هو استكمال استحقاقات الثورة وتغيير ألوان الفاعلين بما يتناسب مع هذا الهدف.

ومن المتعارف أن المنظومات الجديدة تحتاج بعض الوقت للوصول حالة من التوازن والاستقرار تسمح لها بالاشتغال الناجع والسلس، غير أنه لا يبدو أن الأوضاع بلغت هذه الحالة بعد تسعة أشهر من انطلاق عمل المؤسسات الجديدة، بل من المؤكد أن الأمور لا تتقدم في الاتجاه الصحيح، مع خيبة أمل مفتوحة على كل ردود الفعل الممكنة مع شكوك في قدرة العقل السياسي على إبداع مخارج وفي غياب موعد قريب يسمح بالتغيير عكس ما كان عليها الأمر في السنة الفارطة.

هذه الورقة تحاول تفكيك المشهد وترجيح الممكنات بين تدارك يتطلب عقلانية عالية من أهم الفاعلين، أو تغيير عبر انتخابات سابقة لأوانها، أو انفلات يسلم البلاد إلى حالة من الفوضى ويلحقها بصف الانتقالات المنهكة أو الفاشلة.

الوقائع

يتداول الشباب هذه الأيام مزحة مفادها أن التونسيين يقسمون سنتهم قسمين يتفرغون في الأول إلى التشكيل ثم يتفرغون في الثاني إلى التباري لإسقاط هذه الحكومة. هي مزحة تكشف روح الدعاية ولكن تكشف أيضا إحساسا عميقا بالمرارة.

فمنذ 1956 وحتى بداية 2011، أي خلال خمس وخمسين سنة كاملة تداولت على رئاسة الحكومة عشرة أسماء، وفي المقابل تداولت على نفس المنصب خلال سنوات الثورة.

 فقد نظم التونسيون ست انتخابات بين رئاسية وتشريعية ومحلية ساهمت في تجديد الطبقة السياسية وصعدت لمواقع المسؤولية الآلاف من القيادات السياسية الشبابية وعدلت نسبيا الخارطة التقليدية لتوزيع السلطة وهو نفس المنحى الذي حصل في المسؤوليات الوزارية التي تداولت عليها أكثر من ثلاثمائة شخصية، كما تمت صياغة عشرات القوانين الثورية وخاصة في مجالات الحقوق والحريات وتوزيع السلطة، لكن هذه الثورة التشريعية كانت أضعف في مجالات إعادة توزيع الثروة وفسح الباب أمام فاعلين اقتصاديين جدد رغم أهمية قوانين مثل الشراكة بين القطاعين العمومي والخاص، وقانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، والقوانين التحفيزية للباعثين الشبان، وهي قوانين تلامس باستحياء ما يتم الحديث عليه كثيرا بشان تغيير المنوال التنموي دون اشتغال عميق وحقيقي ومنهجي عليه ضمن رؤية كلية جامعة.

لقد تمنى التونسيون أن تقطع الانتخابات الأخيرة مع الحكومات الباهتة وغير المستقرة وقصيرة العمر التي لا يمكنها أن تتجاوز إدارة اليومي وتدوير الأزمة والعلاج بالمسكنات باتجاه حكومة تغيير تستقر وتستمر وتقدر على الإنجاز، غير أننا نقف هذه الأيام على حقيقة مرة، بين حكومة الجملي التي ماتت في المخاض وسقوط حكومة الفخفاخ أقصر الحكومات عمرا منذ الثورة، وكأن الزمن يراوح مكانه.

من المشروع الافتخار بالمسار الذي اتخذ في إجبار رئيس الحكومة على الاستقالة بعد انفجار فضيحة تتعلق بشبهات فساد وتضارب مصالح بما يدل على سلامة الآليات المؤسساتية وعلى قدرة الرأي العام على الضغط، وهي كلها شروط أساسية لأي حياة ديمقراطية، ولكن بالمقابل لا يمكن إغفال تعمق الأزمة وتشعب أبعادها بين السياسي والأخلاقي والاجتماعي الاقتصادي وربما الأمني، كما لا يمكن غض الطرف عن الأرقام الصلبة. فقد كانت البلاد تعاني من صعوبات كبرى في المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية تحولت إلى أزمة بنيوية لغياب الرؤية والإرادة والقيادة والروافع، وكان هذا معلوما قبل تسلم حكومة السيد الفخفاخ مهامها في السابع والعشرين من فبراير الماضي، ولكن هذه الأزمة تفاقمت بتداعيات الكوفيد 19 مما كنا أشرنا إليه بتفصيل في ورقاتنا السابقة، إذ تكشفت الجائحة على استتباعات اقتصادية واجتماعية ثقيلة مع توقعات بفقدان أكثر من 245 ألف مواطن وظائفهم، وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 20 ٪، وخاصة تفاقم العجز عن إدماج أصحاب الشهائد العليا في سوق الشغل، وتوقعات بنمو اقتصادي سلبي 7-%، مع احتمال شروع البلاد في استيراد الفوسفات، وهي المنتج الرابع لهذه المادة على المستوى العالمي بسبب تعطل الاستخراج في الحوض المنجمي والنقل إلى مواطن التصنيع وموانئ النقل نظرا للاعتصامات والاحتجاجات الاجتماعية المنفلتة من كل تأطير مؤسساتي بما يؤشر إلى تراجع أدوار الهيئات الوسيطة مثل النقابات.

كل هذا مع توقع إغلاق آلاف المؤسسات الصغرى والمتوسطة بسبب الكساد الاقتصادي وبسبب الركود في البلدان الشريكة، مع شكوك متزايدة بشأن قدرة البلاد على تحمل الديون ممّا قد يؤدّي إلى إعادة هيكلتها، ومن دلائل ذلك أن عرائس السياحة التونسية تبدو بمثابة مدن أشباح، ولذلك سيكون الخريف ساخنا وسيكون الشتاء أشد سخونة، بقطع النظر عن احتمال موجة ثانية من الكورونا.

 وفي حين كانت الحكومة تتهيأ للدخول في الإعداد لمرحلة ما بعد الكورونا بالاشتغال على المدى القريب حتى نهاية سنة 2020 من خلال إجراءات لإنقاذ الاقتصاد ومن خلال بلورة ميزانية تكميلية تعالج التقديرات الخاطئة في الميزانية الأصلية وكل الآثار غير المتوقعة، تفجرت فضيحة من الحجم الثقيل بشان تضارب مصالح وشبهات فساد طالت رئيس الحكومة نفسه في صفقات أعمال مع مؤسسات عمومية ترشحت لها مؤسسات هو مساهم فيها، اكتسحت القضية الفضاء البرلماني والإعلامي وشغلت الرأي العام ومواقع التواصل الاجتماعي خاصة أن الحكومة بنت شرعيتها على أساس الثقة ومقاومة الفساد وإقامة فرز مع معسكره الذي تم التأكيد أن رمزه هو حزب قلب تونس ورئيسه نبيل القروي. كان بالإمكان إدارة الأزمة بطريقة سلسلة لو قدم رئيس الحكومة اعتذارا علنيا وعبر عن استعداده للخضوع لأحكام لجان التحقيق البرلمانية والقضائية واعتمد خطابا سياسيا تجميعيا، ولكنه اعتمد خطابا متعاليا وفضل الهروب للأمام بما ضرب الحكومة في مقتل سياسي وأخلاقي مهما كانت نتائج التحقيق القضائي.

 وخلال ذلك أحرج الفخفاخ رئيس الجمهورية وشركاءه وخاصة حزب التيار الديموقراطي – الحزب الذي يحاول أكثر من غيره جعل شعار مقاومة الفساد أصلا تجاريا يحتكره – فيجد نفسه بين ضرورة التمايز عن رئيس الحكومة أو الالتصاق به، والدخول في سياسة الانضباط الشكلاني للقانون والإجراءات والسقوط في منطق تبريري مر به كل الذين انتقلوا من مواقع المعارضة إلى نوع من الواقعية الكسيحة التي كان التيار الديموقراطي المعارض يجعلها في مرمى سهامه. أخيرا أجبر رئيس الحكومة على الاستقالة بعد محاولته إنقاذ نفسه في الوقت بدل الضائع، وسقط سياسيا وأخلاقيا وفرط في فرصة جاءته على طبق من ذهب، وهذا السقوط بهذه الطريقة ليس مجرد نهاية تجربة محددة في الزمان والمكان، بل هو نهاية الحياة السياسية له، كما هي قصة فشل أخرى تضاف إلى سلسلة فشل ما أصبح يطلق عليه “الفتيان الذهبيون” القادمون إلى السياسة من عالم الجامعات الفرنسية وإدارة الشركات الاقتصادية الكبرى والتداخل بين البزنس والشأن العام على خلاف المسارات المعتادة القادمة من مراكمة خبرة إدارية وسياسية في منظومة ما قبل الثورة أو من مدارس النضال التنظيمي والنقابي والمدني في المنتظم المقاوم للاستبداد. الفتيان الذهبيون يملؤون المشهد بكثير من المظهرية والادعاء وقليل من التواضع، تعرفهم بسيماهم ويلوحون في الاتجاه المعاكس لما تتطلبه ثورة من مسلكية وقيادة، ولا يجب الخلط بينهم وبين الآلاف من الإطارات التونسية التي دخلت عالم السياسة من الإدارة أو البحث العلمي وأعطت للأفكار وحسن التواصل والتأطير وتوسيع العلاقات وخلق التواضع حقها. هل ستساهم استقالة الفخفاخ في تسريح الأزمة أم أنها لن تكون سوى حلقة من حلقاتها؟ وما هي المخارج الممكنة؟

تفكيك المشهد

 يخطئ من يظن أن الأزمة السياسية الحالية هي وليدة الفضيحة التي طالت رئيس الحكومة. لقد كان واضحا منذ البداية أن حكومة الفخفاخ هي حكومة اضطرار صوتت لها كتل عديدة لا اقتناعا برئيسها أو برنامجها أو تركيبتها، وإنما هروبا من احتمال انتخابات سابقة لأوانها لم يكن أي حزب من الاحزاب مهيئا لها أو مطمئنا لنتائجها المُحتملة.

 لقد وضع الرئيس قيس سعيد الحكومة على سكة المجازفة لما اعتمد اعتبارات ذاتية في اختيار مرشح لا يتوفر على أي عصبية انتخابية بعد فشله في الاستحقاق الرئاسي وبعد فشل حزبه في الحصول على أي مقعد في البرلمان، كما أن رئيس الحكومة لم يبذل ما يكفي من المجهود لاكتساب ثقة من شاركوه بل فعل ما يناقض ذلك تماما، كما لم تبذل مكونات الحكومة جهودا كافية لتجاوز الخلافات التاريخية والأيديولوجية القديمة وجراحات مفاوضات تشكيل حكومة الجملي التي قدمتها حركة النهضة وأسقطت يوم العاشر من يناير. لكل ذلك تراوحت التوقعات بين ألا يتجاوز عمر الحكومة الستة أشهر بسبب عدم وضوح نوايا أطراف مشاركة فيها وبين احتمال استكمال العهدة بشرط تجاوز بعض العوائق النفسية.

جائحة الكورونا أنقذت الحكومة وغطت نسبيا على صراع السلطة بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، كما غطت على التجاذب بين مكونات الحكومة، وعلى الصراع العبثي بين الكتل البرلمانية. ولقد نجحت الحكومة التونسية في إدارة أزمة الكورونا وفي التحكم فيها وكانت في طليعة الدول التي تحكمت في الانتشار الأفقي بتكلفة صحية محدودة مقارنة بما حصل في أغلب دول العالم وفي كثير من دول المنطقة. ولكن الفضيحة الأخلاقية أعادت للسطح المشكلات البنيوية للمشهد السياسي والحزبي، ومنها:

أولا: ثقافة الترتيبات التكتيكية وحرب المواقع، فلقد كانت مرحلة 2011-2014 فرصة لإدارة شؤون البلاد بمنهج مغاير للمنهج السابق بما يتساوق مع المناخ الثوري وتطلعات المواطنين وطبيعة النخبة الجديدة التي أفرزتها انتخابات أكتوبر 2011، وهي نخبة مناضلة اعتبرت الفرز السياسي هو الفرز الأصلي بعد الثورة فغلبت التنافس السياسي على غيره من محاور الصراع الممكنة قبلت البناء المشترك رغم اختلاف المرجعيات، ولكن فرصة الصراع والالتقاء حول البرامج على قاعدة الثورة والديمقراطية ضاعت ليعوض بمنهج يتكرر منذ انتخابات أواخر2014، ويرتكز على إدارة التعايش والتامين المتبادل لأطراف منظومة الحكم في لعبة مملة لأنها لا تنفذ إلى لب السياسة بما هي إدارة للشأن العام والتنافس على خدمة جمهور الناخبين من خلال صراع الرؤى والخيارات. واستمر نفس المنهج وإن تغيرت أطراف اللعبة ولذلك تكون النتائج متشابهة. ورغم أن الأمل كان معقودا على تغيير القواعد والطريقة بعد الانتخابات الأخيرة بما يعيد الاعتبار للسياسة والبرنامج والرؤى والأفكار والإنجاز إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل. وواهم من يتوقع نتائج جديدة بطريقة لعب قديمة أبطالها فاعلون مسكونون بصراع على السلطة بما هي نفوذ ومواقع ولم يستطيعوا الانتقال إلى مربع السياسة بما هو إدارة لشؤون المدينة وبحث في صيغ عيشهم المثلى. كل الأخطاء التي حدثت منذ الثورة هي أخطاء في التموقع وفي تحديد الخط الأساسي للفرز وللصراع. والخط الأساسي الموضوعي هو خط الديموقراطية والدستور ومكتسبات ما بعد 2011، ووفقا لهذا التحديد يوجد صراع أساسي بين معسكر الديموقراطية وخصومه، كما توجد صراعات داخل المعسكر الديموقراطي ذاته، وهي على أهميتها ثانوية أمام الصراع الرئيسي. غير أن ضياع البوصلة والالتباس بين الأساسي والثانوي لا يمكن إلا أن يقدم خدمة موضوعية لقوى التعصب ودعاة الاحتراب.

ولم تتطور الحياة الحزبية بأن تتحمل القيادات التي تسيء القراءة والتموقع والتقدير مسؤولياتها وتتأخر قليلا وتترك المجال أمام طريقة مغايرة في إدارة السياسة، إذ لا يمكن أن تتطور الحياة الحزبية والحياة السياسية بثقافة القبائل.

ثانيا: خطأ القراءة السياسية للأرقام، ذلك أن الانتخابات الأخيرة لم تعط شرعية كاسحة لأي طرف. فشرعية الرئيس مهمة جدا من حيث الرمزية ومن حيث عدد الأصوات، ولكنه يفتقد إلى سند مباشر في البرلمان، وهذه تمثل في نفس الوقت نقطة قوته ونقطة ضعفه، أما البرلمان فتشكيلته فسيفسائية، والحزب الأول فيه أي حركة النهضة هو الذي تجنب الخسائر أكثر من غيره فتحصل على اثنين وخمسين نائبا من أصل 217، دون ما كان له في المجلس الوطني التأسيسي عندما كان ممثلا بـ 89 نائبا ودون ثقله العددي في برلمان 2014 عندما كان ممثلا بـ 69 نائبا. إن القراءة الموضوعية للأرقام لم تكن لتفضي إلا إلى ضرورة تنازل الجميع للجميع وتناسي المعارك الانتخابية وبناء أوسع تحالف ممكن على أساس برنامج إصلاحي مع طاقم كفء ومتضامن، ولم يكن من خيار بديل سوى انتخابات سابقة لأوانها لا يمكن أن تعطي نتائج مغايرة نوعيا إلا بتغيير قواعد اللعبة، وهو خيار لم يكن أحد مستعدا له.

 ثالثا: العودة إلى محاور فرز فقدت قدرتها التفسيرية كما فقدت قدرتها على إنتاج السياسة، لكن خيار الحكومة واسعة التمثيل سقط بفعل خطأ العودة إلى تصنيفات حدية تعود إلى مرحلة 2011-2012 من مثل ثنائية الثورة في مقابل الثورة المضادة، أو القديم في مقابل الجديد، أو الفساد في مقابل الشفافية والطهرية. هذا التقسيم لم يكن ليفضي إلا إلى حكومة تدعي ثورية أو حكومة تصنف بأنها يمينية وتكون في كلتا الحالتين عاجزة عن الإنجاز في أوضاع كانت معقدة وزادتها الجائحة تعقيدا.

 رابعا: ينضاف إلى كل هذا مشكلة المشاكل في البلاد، وهي مشكلة الثقة بين الجمهور والطبقة السياسية، وبين مراكز السلطة، وبين الأحزاب، وحتى داخل الأحزاب بسبب غياب الشفافية وهيمنة ثقافة التذاكي وحرب التموقعات وغياب المضامين والرؤى وصراع البرامج. لم يكن من خيار سوى الاشتغال على الوسط وخوض الصراع السياسي بقواعد شفافة وعلى أساس المضامين.

 ولكن خلال الأشهر الماضية لم تشتغل السياسة بما هي بحث عن المشتركات وتلطيف للأجواء والابتعاد عن ساحات التنابز الإعلامي والتفاضح في وسائل التواصل الاجتماعي. لقد انتقلت البلاد من مقدمات تعايش يبشر بانتقال التنافس إلى المربع السياسي إلى عودة روح المغالبة والمواجهة بل دمرت الجسور الهشة التي سعى العقلانيون إلى بنائها لبنة لبنة.

 خامسا: إشكالات النظام السياسي الذي كان مسكونا عند صياغته بالخوف من العودة إلى نظام الاستبداد، فحرص على تقسيم السلطة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. ولكن الممارسة وخاصة منذ سنة 2016 كشفت إخلالات كبرى بما يهدد الدولة بالشلل مع إخلالات في مواطن أخرى بما يتطلب تقييما رصينا ومراجعة هادئة.

سادسا: مأزق النظام الانتخابي الذي لا يسمح بإفراز أغلبية قادرة على الحكم، ولكن مراجعة الدستور والقانون الانتخابي وقانون الأحزاب يتطلب تهدئة سياسية إذ أن هذا النمط من القوانين لا يمكن أن يحصل في أوضاع المغالبة والاحتراب التي تعرقل كل عمل منتج أو تفرز قوانين غير متماسكة لتكرر ثغرات سابقاتها.

حركة الفاعلين في المشهد الحالي

رئيس الجمهورية: هو فاعل رئيسي في المشهد ويستفيد من ترهل صورة البرلمان ومن أزمة الحكومة وصراعات الأحزاب .أداؤه الدبلوماسي ،لحد الآن، متوسط وبعض مواقفه أثارت تساؤلات والتباسات مثل بعض التلميحات حول وجود مؤامرات من داخل البلاد، وموقفه من الصراع في ليبيا، أو تصريحاته بشأن الاستعمار الفرنسي لتونس، أو إحجامه عن التدخل لاستباق الإضرار بالمصالح التونسية عند إثارة ملفات حساسة في البرلمان .يبدو الرئيس لحد الآن حريصا على تأكيد صلاحياته في تصريحات أو إشارات أو تلميحات أو تنبيهات إلى رئيس البرلمان وحركة النهضة لتترسخ صورة الرئيس “الدستوري” أكثر من صورة الرئيس السياسي الصانع للتوافقات والمنقذ للمناخات. دوره سيكون مطلوبا وحاسما في مآلات الأحداث في الأسابيع القريبة القادمة.

البرلمان: لقد غطت مناخات الصراع اليومي وتعطيل الأعمال واستهداف الرمزيات على المكاسب التشريعية المهمة التي أنجزها البرلمان، ونعتبر أن منهجية بناء الحكومة الجديدة ونوعيتها ستؤثر كثيرا في مستقبل المؤسسة صورة وأداء. وكل الخيارات التقسيمية في تشكيل الحكومة أيا كانت وجهتها لن تزيد البرلمان إلا ترذيلا، وصولا إلى احتمال شلله .

الحكومة: هي الآن في حالة تصريف أعمال، وبالتالي فهي ضعيفة بالأصل، غير أن صيغة الاستقالة والتصرفات الانفعالية لرئيسها حين سارع بإعفاء وزراء النهضة مع احتمال استهداف عدد من النهضويين في الإدارات سيزيدها ضعفا في وقت تحتاج فيه البلاد حكومة مستقرة وقوية .

 الاحزاب السياسية: تتجه البلاد إلى نوع من الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة والحزب الدستوري الحر. وكل استقطاب هو في جوهره فشل للوسط وللسياسي، فالدستوري الحر استطاع جر الجميع إلى مربعاته وإلى القضايا التي يثيرها بذكاء منه أو بنقص من نباهة القوى الوسطية الديموقراطية.

فدرس التاريخ يقول انه لا إمكانية لعزل التطرّف إلا بتقوية الوسط، والوسط السياسي هو وسط متنوع بالضرورة يلتقي على قيمة التعايش والتنافس السلمي، وقد يختلف ويتنافس في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمجتمعية ليصنف إلى وسط اجتماعي أو ليبرالي أو محافظ حسب تنوع وتعدد النسيج الاجتماعي. هو وسط القيم والأهداف الكبرى وقاعدة الاعتراف والتعايش.

ربما قلل كثيرون في البداية من خطورة الدستوري الحر من حيث عمق الانتشار والتوزيع الجغرافي والتمثيل المجتمعي، ولكن استطلاعات الرأي الأخيرة تشعل الضوء الأحمر أمام الديموقراطيين إذ يحتل هذا الحزب تقريبا مواقع النفوذ الجغرافي لنداء تونس سابقا كما أن انغراسه الاجتماعي الأهم هو عند الفئات الأكثر تأثيرا مثل الطبقة المرفهة والإطارات العليا وأصحاب المهن الحرة والتعليم العالي على خلاف الصورة الأقرب للشعبية لحركة النهضة وقلب تونس، وهكذا فالدستوري الحر يفرض نسقه وخطابه على فضاء الأحزاب المنتسبة إلى المنظومة القديمة كما يفرض أيضا نسقه على الأحزاب الحداثية من خلال التنافس عمن هو الأقدر في التصدي للإسلاميين.

في الجهة المقابلة، فإن حركة النهضة، التي تحافظ على تأثيرها، تعاني إشكالا حقيقيا في التموقع. فقد بذلت طيلة ما يقارب العشرية مجهودات فكرية مهمة جدا من أجل الانزياح سياسيا وثقافيا واجتماعياً نحو الوسط، ولكن حصل ارتباك في الرؤية خاصة بعد فشل الأستاذ عبد الفتاح مورو مرشحها في الرئاسيات في الوصول إلى الدور الثاني من خلال خطاب يستدرج إلى مجاراة خطاب الموجة الثورية الطاغية وسلوك نفذ صبره من مواصلة المراهنة على بناء الجسور مع عالم النخبة لتجد النهضة نفسها اليوم في التقاء موضوعي ومصلحي مع ائتلاف الكرامة وقلب تونس. وبقطع النظر عن الحكم القيمي أو السياسي لهذه الخيارات إلا أنها تعتبر مراجعة في نفس الوقت لخيارات ما قبل 2013 بل حتى لخيارات ما قبل صائفة 2019. ويعتبر المؤتمر القادم محطة مهمة لتقييم المسار وتدقيق التموقعات وفتح الباب أمام أجيال وقيادة جديدة تبني على المكتسبات وتعطي نفسا جديدا. ويخشى بعض المراقبين حصول تدافع بشأن موعد المؤتمر وبشأن التجديد القيادي بما يؤثر على الأوضاع الوطنية، كما هو شأن الأوضاع الداخلية في الأحزاب والمنظمات الكبرى.

كذلك يتوقع أن تتأثر صورة التيار الديموقراطي بزلزال الفضيحة التي طالت رئيس الحكومة إذ كان من أبرز المدافعين عن الشكليات القانونية وعن رئيس الحكومة، وإذ أن أمينه العام يحتل موقعا مركزيا في إدارة الملف، كما سيتأثر موقع حركة الشعب المدافع الرئيسي عن وصفة “حكومة الرئيس” التي بينت حدودها، أما ائتلاف الكرامة فهو يتغذى من مواجهة الحزب الدستوري الحر ومن موقف شديد النقد تجاه الاتحاد العام التونسي للشغل ومن علاقة تقارب وتنافس مع حركة النهضة يتبادلان فيها التأثير والتأثر. إن الإجابة على صعود الدستوري الحر هي سياسية بالأساس قبل أن تكون إعلامية أو قانونية، إذ أن الانجرار الإعلامي وراءه يقدم خدمة له كما أن المعالجة القانونية لا يمكن إلا أن تكون فرعا لمعالجة سياسية تقرب بين الديموقراطيين لتصليب الوسط وكل رخاوة في الوسط هي تهديد لمجمل المسار. وسيتواصل تأثير الاتحاد العام التونسي للشغل باعتباره إحدى القوى المهمة في البلاد، وهو يستعد لمواجهة الاستتباعات الاجتماعية للجائحة على مواطن التشغيل في القطاعين العمومي والخاص وعلى المقدرة الشرائية للشغالين، كما يستعد لمواجهة الخيارات الحكومية القادمة في علاقة بإصلاح القطاع العمومي .وهو أثناء ذلك يستعد لعقد مؤتمره مع تجاذبات شبيهة بما يحصل في النهضة بخصوص إمكانية التجرؤ وتغيير القانون للتمديد للقيادة المباشرة، مع ما يستتبعه ذلك من مزايدات يمكن أن تفضي إلى إضرابات وتوقيف للإنتاج لتحسين التموقع في المؤتمر والمؤسسات التي تنبثق عنه.

الأطراف الدولية والإقليمية تتابع بانشغال الأوضاع في تونس وتقديراتها ستكون محكومة بعلاقتها مع مسألة الديموقراطية والاستقرار في البلاد، وهو موقف أغلب الأطراف المؤثرة، وسيكون محكوما أيضا بإستراتيجية هذه الأطراف في الجزائر وخاصة في ليبيا. وقد يسعى الطرف الفرنسي الى محاولة التأثير في سير الأوضاع في تونس في علاقة بصراعاته ورهاناته في ليبيا.

وفي الخلاصة، نعتبر أن الأشهر القادمة ستكون محكومة بالعوامل التالية:

  • طبيعة العلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب
  •  طبيعة الحكومة التي سيدفع إليها رئيس الجمهورية
  • المناخات السابقة لمؤتمري النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل
  • طريقة تعامل القوى الديموقراطية مع الحزب الدستوري الحر
  • التموقع السياسي للاتحاد العام التونسي للشغل

الخيارات الممكنة

وجه رئيس الجمهورية بتاريخ 17 يوليو رسالة إلى الكتل والاحزاب البرلمانية يدعوها فيه إلى تقديم الأسماء التي ترشحها لرئاسة الحكومة، وهو نفس التمشي الذي اعتمده في الاستشارة الأولى دون توفير فرصة لحديث مباشر ثنائي أو جماعي مع الأحزاب. وفي نفس الوقت، لا تزال كتل النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس مصرة على سحب الثقة من الفخفاخ وتحديد جلسة برلمانية من أجل ذلك، وهي حركة لا معنى لها إلا من حيث زيادة منسوب التوتر مع رئيس الجمهورية. لا أحد يدري كيف سيختار الرئيس مرشحه ولا معاييره في هذا الاختيار الذي لن يكون منفصلا عن رؤية في بناء المشهد السياسي في المرحلة القادمة. ونرجح ألا يخرج الرئيس عن واحد من هذه الخيارات الثلاثة:

أ. الحكومة التمثيلية البرلمانية الواسعة على أساس برنامج إصلاحي تستفيد فيه من كل ما حصل في تجربتي الجملي والفخفاخ، وتضيف إليه المستجدات الجوهرية بعد جائحة الكوفيد 19، ويمكن أن يترأس هذه الحكومة شخصية من الحكومة الحالية أو شخصية مسيّسة ومستوعبة جيدا للملف الاقتصادي، وقادرة على إدارة فريق والتواصل مع الشعب، ويمكن أن تضم هذه الحكومة في تركيبتها مجموعة من الشخصيات الكفأة في الحكومة الحالية بما يضمن قدرا من المراكمة والقدرة على الإنجاز السريع.

 ب. الحكومة المحايدة: فللرئيس آراؤه المعلومة في الأحزاب وفي تقييم أدائها في البرلمان وفي الحكومة. ولعل هذه القناعات قد ازدادت رسوخا بعد تجربة السنة الأخيرة، لذلك قد يقترح شخصية مستقلة، قد تكون من الحكومة الحالية، لترؤس حكومة من الكفاءات غير الحزبية لإبعادها عن جو المشاحنات الحزبية. هذا النوع من الحكومات يمكن أن يمر أمام البرلمان بسبب رغبة البعض في إبعاد النهضة عن الحكومة، وبسبب خوف غالبية النواب من حل البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة إذا سقطت الحكومة المعروضة. ولكن مثل الحكومة لن تكون قادرة على إنجاز معقول بسبب افتقادها للسند وارتكازها فقط على عامل الخوف من الانتخابات.

 ج. حكومة دون نهضة: قد يدفع إلى اقتراحها حرص الرئيس على وجود مركز واحد للقيادة في البلاد، وهي فكرة جوهرية في تصوره، كما قد تدفع إليها الرواسب الأيديولوجية والتاريخية، وربما بعض النصائح الخارجية خاصة مع ما تتهم به الحركة في الأشهر الأخيرة من غرور وتعال. اقتراح مثل هذا التصور سيتأثر بموقف الاتحاد العام التونسي للشغل. مثل هذه الحكومة لديها حظوظ للمرور أمام البرلمان في استمرار لعقلية المغالبة والمحاصرة، وقد تتلوها جهود لإزاحة رئيس البرلمان الحالي. ولكنها لن تكون قادرة على الإنجاز بل ستتحول معها الأزمة إلى مأزق.

أفضل الخيارات هو الخيار الأول الذي يفترض قبل ذلك اشتغالا سياسيا في العمق للانطلاق في مصالحات بين المكونات الديموقراطية في البرلمان، والاتفاق على آليات عمل ناجعة وشفافة ومتوازنة. وقد يكون الخيار الثاني مقبولا مع ترجيح عدم قدرة حكومة من هذا النوع على إدارة أزمة عميقة، وبالتالي احتمال سقوطها مع تصاعد احتجاجات اجتماعية متوقع تزايدها في الخريف القادم. أما الخيار الثالث، فهو الأكثر سوء وسيزيد البرلمان تشرذما وضعفا لن يستطيع الصمود. أمام عبثية الصراع الحزبي وعدم القدرة على الإنجاز قد يدفع رئيس الجمهورية إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها، وإن حصلت ذلك، فالأرجح أن يدفع باتجاه تغيير النظام الانتخابي في اتجاه عكس ما تريده بعض الكتل المؤثرة الآن من تحسين القانون الحالي بإضافة عتبة تسمع بإفراز غالبية قادرة على الحكم. إذ أن وجهته هي باتجاه تذرير التمثيل.

الخلاصة

اقتراح اسم شخصية رئيس الحكومة ولا نوعيتها ولا منهجية تشكيلها لن يكون خيارا من ضمن خيارات متشابهة. سيكون خيارا لبناء المرحلة واختيارا لفلسفة تصليب الوسط وبناء الثقة وتدارك النقائص أو تشجيعا للعودة إلى منطق المغالبة والمواجهة والاصطفافات البدائية بما يؤثر على مجمل المسار. تعديل الأخطاء لا يزال ممكنا لإنقاذ الانتقال الديموقراطي المنهك من خلال التركيز على الاجتماعي والاقتصادي – القضية الجوهرية اليوم، وبالمقابل فإن الانفلات عن كل الفاعلين النظاميين محتمل أيضا، وبنفس الدرجة للوصول إلى انتقال فاشل آخر في تجارب البشرية. قد يستدعي الأمر تغييرات جوهرية في فلسفة البناء السياسي، لكن هذه الرؤية نفسها لا يمكن أن تحصل بالمغالبة. المسؤولية الكبرى لدى رئيس الجمهورية ولدى فاعلين حزبيين واجتماعيين مؤثرين. وأولى خطوات البناء تبدأ بالتهدئة والكف عن التجييش.