سلط الإعلام العالمي الضوء على العراق خلال العقود الماضية، ويستمر هذا الاهتمام إلى يومنا هذا ومن السهل علينا القول بأن الصحافيين والإعلاميين والباحثين والدبلوماسيين سيستمرون بالاهتمام والتحدث عن الوضع العراقي إلى مستقبل بعيد ليس بقريب لعدة أسباب مُختلفة.

اتبع الرئيس العراقي السابق “صدام حسين” فيما يتعلق بقضية النفط في المنطقة وحرب العراق مع جارتها إيران بالإضافة إلى القضية الكُردية منهجيات وسياسات أثارت اهتمام المجتمع الدولي ووسائل الإعلام الخاصة به.

التركيز الإعلامي على العراق يعزز وجود ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام، وهذا الوجود كان أشبه بقضية “حياة أو موت” لحكومة “العبادي”، مما دفع رئيس الوزراء “العبادي” لاتخاذ قرارات تجلت مؤخرا بإقالة نائب الرئيس ونائب رئيس الوزراء بالإضافة إلى إصلاحات في المسارات الاقتصادية والإدارية.

بعد الغزو الذي اجتاح الدولة لم تحقق العراق الاستقرار المتوقع، وشهدت البلاد موجة أُخرى من الاضطرابات تزامناً مع انسحاب القوات العسكرية الأمريكية في عام 2011. أظهرت هذه الاضطرابات ضعفا ملحوظاً في قدرات القوى الأمنية المحلية في العراق. كل هذه التحديات تضاف إليها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية؛ كانت سبباً كافياً للتساؤل حول مستقبل العراق في خضم القيود الجغرافية السياسية الحالية.

يعتبر استمرار الاحتجاجات في مناطق مختلفة من الدولة من أخطر التحديات الأمنية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها العراق.

أدى ظهور دولة العراق والشام (داعش) إلى خسارة الحكومة المركزية لسيطرتها على أغلبية المناطق.

كان سقوط الموصل السريع في يد “داعش” والتداعيات المتلاحقة للحرب عليها إلى يومنا هذا؛ دليلاً على ضعف الجيش العراقي وبرهاناً على وجود مشكلة في الانتماءات الطائفية والولاءات السياسية.

بقيت الموصل تحت سيطرة “داعش” بالرغم من تدخل قوى التحالف الدولي، وقيام خبرائها بإجراء تدريبات مُكثفة لعناصر الجيش العراقي.

جاء سد الثغرات في الجيش الوطني بالاعتماد على ميلشيات مختلفة لمواجهة الخطر الأمني كحل مناسب في الوقت الراهن، ولكن على المدى الطويل سيؤثر بشكل حتمي على الثقة في المؤسسات الحكومية، وقد يعمل كمُحفز لأي فكرة انقسام.

شهدت العراق صورة مجزأة من حيث التحديات السياسية بعد الانتخابات العامة الأخيرة، حيث منعت المعارضة رئيس الوزراء السابق المالكي من تشكيل الحكومة، وعُينَ العبادي رئيس الوزراء العراقي الجديد.

زادت التوقعات من حكومة العبادي بسبب فشل الحكومات العراقية السابقة في توفير الأمن والخدمات الأساسية.

في فترة ما بعد عام 2003، كانت الأحزاب السياسية العراقية غير قادرة على إنشاء برامج للرد على مشاكل كبيرة في البلاد. وكانت هذه الأحزاب ضعيفة في الهيكل المؤسسي وبدلا من انتهاج سياسات تقوم على تخطيط طويل الأمد لحل المشاكل، فإنها لجأت إلى خيار أسهل ولكن أخطر: اتباع سياسات عرقية أو طائفية.

تتطلب المشاكل الصعبة التي خلفتها سنوات من القمع والحروب والعقوبات ونقص المشاركة السياسية جهدا طويل الأمد. ولكن بدلا من ذلك، لجأت الأحزاب والشخصيات السياسية إلى استخدام الانقسامات العرقية والطائفية لأغراض سياسية، من أجل تحقيق مكاسب على المدى القصير والسهل.

تحتاج العراق بشكلٍ عاجل إلى مؤسسات فاعلة للرد على مطالب السكان وخلق جو من الثقة في المجتمع، حيث تفتقر العراق اليوم إلى ولاء المجتمع للحكومة، كما ينبغي توحيد الأفكار من أجل ضمان الاستمرار والوجود السياسي، وسوف يؤدي عدم وجود الشعور المشترك بالانتماء إلى فشل العراق الحتمي.

تعتبر التحديات الأمنية والسياسية في العراق، والآفاق الاقتصادية للبلاد في ظل انخفاض أسعار النفط وزيادة النفقات من أجل قتال تنظيم الدولة “داعش”؛ عبئا إضافيا على الحكومة العراقية، كدولة تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط.

وتظهر أرقام الصادرات مستويات قياسية “3.2 مليون برميل بشكل يومي”، وهذا تطور مرحب به للغاية نظرا لاحتياجات البلد، ومع ذلك، فإن الانخفاض في أسعار النفط وإنفاق ما يقرب عن 20٪ من الميزانية على مصاريف الحرب يؤثر على الميزانية المخصصة من أجل استثمارات البنية التحتية.

يعتبر الفساد المستشري، وانعدام الأمن والخدمات الأساسية مثل الكهرباء والتمييز في فرص العمل، من أهم أسباب السخط الاقتصادي التي أدت إلى احتجاجات واسعة النطاق في العديد من المدن في الشهرين الماضيين. يعتبر عدم الوصول إلى تسوية بين حكومتي بغداد واربيل من حيث المسائل المتعلقة بالميزانية وبيع النفط بالكامل من أخطر التحديات التي تواجه المنطقة.

ما زال الشعب العراقي بتركيبته الاجتماعية يعاني من الانقسامات العرقية والطائفية التي ظهرت بشدة بعد عام 2003، حيث أن الجماعات المقموعة من حزب البعث والحشد الشعبي (ذات الأغلبية الشيعية) والأكراد رحبوا بهذه التغييرات التي حصلت للمجتمع العراقي، بينما شعر العرب السنة من العراقيين بالتهميش وهذا أدى إلى خلق حاضنة اجتماعية لتنظيم داعش.

عاد الحلم الكردي بتشكيل دولة مستقلة، وبدأت أحزاب الحشد الشعبي (ذات الأغلبية الشيعية) بالسيطرة على المواقع الحكومية، وهو ما جعل السنة يحتجون ضد التمييز في التوظيف في الدوائر الحكومية.

تقاعس الدولة عن توفير الأمن وتكافؤ فرص العمل في ظل هذه الظروف، أدى إلى ضعف الروابط بين مواطني العراق. وقد أدى الخلاف بين التركيبة السكانية عن تركيبة أطياف الحكومة، والمسائل المتعلقة بالميزانية، والتمثيل في مؤسسات الدولة، وتوزيع المنافع الاقتصادية؛ إلى انخفاض الثقة بين مواطني العراق، وإلى فشل السلطة المركزية في تلبية معايير الدولة الفاعلة، وهو ما كان سبباً كافياً إلى جعل شريحة كبيرة من المجتمع العراقي تربط هوياتها حسب أعراقها وطوائفها، مظهرة الولاء إلى جماعات طائفية من أجل ضمان البقاء المادي والاقتصادي.

الحاجة إلى الإصلاح:

التحديات المذكورة آنفا جعلت حياة العراقيين أكثر صعوبة، فانقطاع التيار الكهربائي خلال فصل الصيف الحار في المنطقة تبعا لظروفها المناخية وانعدام وجود الخدمات الأساسية مع انتشار الفساد، أدى إلى انتشار الاحتجاجات في عدة مدن عراقية، وإلى جانب هذه الاحتجاجات جاءت دعوة الرئيس الديني الشيعي “السيستاني” نظير “العبادي” لتلبية مطالب الشعب وإبراز شجاعته في خضم هذه الأحداث مما ساعد العبادي على إعلان برنامج حكومي من أجل محاربة الفساد ووضع حد له وتلاف بعض الملفات السياسية واستبدال ممارسات التوظيف الحزبية والطائفية وتعويضها بالنهج التوظيفي المتساوي بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والحزبية.

وتضمن البرنامج الإصلاحي إصلاحات إدارية وإعادة نظم مالية وإصلاحات اقتصادية وتحسين الخدمات ومكافحة الفساد. ومن أهم نقاط هذا البرنامج إلغاء منصبي نائب الرئيس ونائب رئيس مجلس الوزراء، وخفض عدد من موظفي الدوائر الحكومية وإرسالها إلى وزارة الدفاع العراقية من أجل تعزيز الأمن والأمان، وتمكين رئيس الوزراء من إقالة المحافظين في حال سوء أدائهم المهني. وعلى أي حال، بعض من هذه الخطط لا يمكن تنفيذها في الوقت الحالي بسبب الظروف الراهنة.

يأتي الحديث هنا عن الإصلاحات المالية، حيث يتم التلاعب بالضرائب والتهرب منها من قبل موظفي الدولة، ومن المرجح أن يسهم العمل مع شركات عالمية في نجاح هذه المبادرات الإصلاحية.

بالنسبة لإعادة الهيكلة الاقتصادية وتماشيا مع الظروف الاقتصادية الراهنة التي تواجه البلاد، هناك مزاعم بالعمل على تطوير النمو الاقتصادي عن طريق التعامل مع الشركات الخاصة.

كما يتضمن برنامج الإصلاحات تحسين الخدمات العامة ومحاولة محاربة الفساد المتفشي والذي كان من أهم أسباب الاحتجاجات في البلاد. ووفقا للبرنامج الإصلاحي هناك ضغوط كبيرة من أجل توفير الكهرباء والعمل المستمر على تقديم خدمات أخرى من أجل تفادي أي أخطاء قد تحدث.

وأما بالنسبة لمحاربة الفساد، سيتم تعيين لجنة مساءلة وتحقيق تحت عنوان (من أين لك هذا) سيتم إطلاقها تزامنا مع فتح ملفات فساد سابقة تحت إشراف لجنة عليا من القضاة الخبراء في المجال الاقتصادي والمالي.

وخدمت الاحتجاجات مصلحة رئيس الوزراء العبادي الذي استغل هذه الفرصة للقضاء على خصومه السياسيين والحد من ترجيح فشله عبر تنفيذ برنامجه الإصلاحي وتلبية متطلبات مواطنيه خلال سنة من تشكيل حكومته. ومن أجل تفادي الفشل عمل العبادي على استغلال الوضع الحالي قدر الإمكان للحد من صلاحيات خصومه المتأملين بتغيير شامل وإعادة تنصيب رئيس وزراء جديد للعراق.

بدأ بعض النواب في البرلمان بالتعبير عن مخاوفهم على الرغم من  قبول حزمة الإصلاحات في البرلمان العراقي، بحجة الحاجة إلى مزيد من الوقت لمناقشة المعضلات الأساسية ومنها محاولة “العبادي الانفراد” بالسيادة والقرار، هذا وإن دل على شيء فهو يدل على أن الطريق إلى الإصلاحات سيكون شبه خال من العقبات. وخاصة فيما يتعلق بالفساد والعمالة.

ثقة المجتمع بنجاح حكومة “العبادي” بدأت بالانخفاض فيما يتعلق ببرنامجها الإصلاحي وخطة العمل به.

بغض النظر عن نجاح أو فشل هذا البرنامج الإصلاحي. يبقى مستقبل العراق بحاجة إلى إعادة الهيكلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية جنبا إلى جنب مع إجراء إصلاح شامل لقوات الدفاع.

وبالنظر إلى التجارب السابقة والظروف على أرض الواقع، ونحن لا نتوقع المعجزات، سوف تتأثر حياة “العبادي” السياسية بشدة من نجاح أو فشل هذه الإصلاحات. فبعد استبدال حكومة “المالكي” منذ أكثر من عام، أصبحت حكومة “العبادي” تشكل أملاً جديداً للعراق وسط تزايد التحديات الأمنية التي يشكلها تنظيم الدولة “داعش” والتي كانت أحد أبرز الانتقادات التي تم توجيهها إلى حكومته، حيث فشلت حكومة “العبادي” إحراز تقدم يذكر على حساب “داعش” من جهة، أو تقدم على المستوى الاقتصادي من جهةٍ أُخرى.

ويبقى أمل العبادي قائماً في حال نجحت حزمة الإصلاحات التي طرحها في تحقيق المطلوب منها.