لئن شكل ظهور تنظيم الدولة تهديدا للسياسات الكردية الطامحة في منطقة الشرق الأوسط، فإنه مثّل أحيانا فرصة لدعم هذه السياسات، حيث لم تهدد هجمات التنظيم ضد الأكراد في المنطقة مطالبهم بالاستقلال في العراق فقط، بل عطلت مساعيهم للمطالبة بالحكم الذاتي في سوريا والمساومات السياسية في تركيا على حد السواء. فالوضع الراهن أضرّ بمعنويات قوات البشمركة الكردية العراقية وزعزع ثقة النخبة السياسية الكردية وطموحات الأكراد في المنطقة. ومن ناحية أخرى، ساهم تهديد تنظيم الدولة للوجود المشترك للأكراد في توحيد المجهودات السياسية للأكراد الذين لاقوا دعما كبيرا في العالم، خاصة بعدما  اعتُبرت قوات حزب العمال الكردستاني قادرة على التصدي لهجمات تنظيم الدولة في المنطقة.

نتيجة للصراع القائم بين الأكراد وتنظيم الدولة، نشأت اتجاهات جديدة للسياسات الكردية في الشرق الأدنى والتي سيكون لها تأثير هام في إعادة تشكيل هذه السياسات في المنطقة خلال السنوات القادمة، ويمكن تصنيف الاتجاهات الجديدة تحت العناوين التالية:

  • ظهور مجال كُردي موحد
  • بروز هشاشة السياسات الكُردية الموحدة
  • نشأة كيانات غير دولية في المنطقة من بينها تنظيم الدولة
  • التأكيد المتزايد على الطبيعة العلمانية للسياسات الكُردية
  • الحاجة لإصلاح القطاع الأمني في حكومة إقليم كردستان

ظهور مجال كردي موحد

كان من الصعب الحديث عن مجال كردي موحد من الناحية التاريخية، وذلك بسبب انقسام الأكراد إلى أربع أقاليم مختلفة بعد تسوية الحرب العالمية الأولى. شكلت أجندات هذه الأقاليم اتجاهاتهم السياسية. حيث صار إطلاق مصطلح “كُردي سوري، كُردي تركي، كُردي عراقي وكُردي إيراني” يلاقي رواجاً أكثر من مصطلح الأكراد. وقد خاض الأكراد في الدول الأربعة كفاحهم السياسي ضد الدولة التي ينتمون إليها.

إن قتال الأكراد ضد تنظيم الدولة قد أضاف معطيات جديدة على المعادلة السياسية في المنطقة. إذ اجتمع الأكراد جميعهم لأول مرة في تاريخهم على مواجهة تنظيم الدولة،حيث تم الحديث في كافة الوسائل الإعلامية الكردية عن العدو ذاته، أما على الساحة السياسية الكردية فقد تجنّدت كل الأحزاب في معارضة التنظيم، الذي عارضه الأكراد في دول الشتات بنفس القوة.

لعب الجانب العاطفي من خلال الشعور بالانتماء القومي دورا هاما في تحفيز العمل السياسي، وكان لمشاهد الموت والحزن دور هام في تغذية شعورهم بالتهديد، مما رسخ لديهم حتمية قتال تنظيم الدولة، وكان وصول جثامين الشباب الأكراد من سوريا والعراق إلى تركيا أو من سوريا إلى إقليم كردستان مشهداً أليما على الأكراد وكاستعارة لما قاله (بيندكت اندرسون): “ان مشاهدة الجثث التي تعبر الحدود يجعل الحلم الكردي حقيقة لكنه يترك أسى عميقا داخل المجتمع”

بروز هشاشة السياسات الكُردية الموحدة

ساهم ظهور مجال كردي موحد ومواجهة تنظيم الدولة في تشكيل مشهد سياسي هش. تجلت هذه الهشاشة في أشكال مختلفة منذ اندلاع المواجهة ضد تنظيم الدولة. في هذا الإطار، ترك أهم قطبين سياسيين كرديين صراعاتهما جانبا ليتحالفا في مواجهة تنظيم الدولة. حيث تحالف الحزب الكردي الديمقراطي بقيادة البرزاني مع حزب العمال الكردستاني بقيادة اوغلان، فحزب العمال الكردستاني مثلا دفع بقواته للمشاركة مع الحكومة الإقليمية في كردستان العراق للدفاع عن جبال سنجار، مخمور وكركوك. أما بالنسبة للحزب الكردي الديمقراطي فقد ساهم في دعم الحزب الديمقراطي الموحد في الدفاع عن مدينة كوباني، أدى هذا الدعم بمساهمة الذراع العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها في منع سقوط المدينة في أيدي قوات تنظيم الدولة. وفي هذا الإطار يتنزل اعتراف حكومة إقليم كردستان العراق بإدارة حزب الاتحاد الديمقراطي للأقاليم الكردية الثلاثة في شمال سوريا أو ما يعرف ب’روجانا’ لدى الأكراد.

ظهر هذا الانفراج في العلاقات الكردية خلال اجتماع الحزب الديمقراطي الكردستاني والذي ضم مختلف الفصائل الكردية من سوريا في دهوك، وهي مدينة تقع في إقليم كردستان قرب الحدود التركية، وبلغ هذا الانفراج ذروته في اتفاق دهوك. وفقا لاتفاق دهوك، وافق الأحزاب الموالية للحزب الديمقراطي الكردستاني والمؤتمر الوطني الكردي وحزب العمال الكردستاني الموالي لـحزب الاتحاد الديمقراطي على إنشاء إدارة سياسية وعسكرية مشتركة. فيما يتم إبقاء إدارة الأقاليم بشكل منفصل والتي تتكون من ثلاثة أقاليم، وهي كوباني، عفرين، والجزيرة. وهكذا، يبدو أن هذا الاتفاق قد وضع حدا لبعض أصعب نقاط الخلافات والادعاءات بين الجانبين.

لنجعل الأمور أكثر وضوحا، رغم الاختلافات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني من ناحية، والخلافات الجانبية التي حكمت العلاقة بين الحزبين في سوريا، فان الاتفاق الحاصل يشكل خطوة هامة  لتحقيق المصالحة بين الأحزاب الكردية ولدعم دور الأكراد في المنطقة، خصوصا منذ أن أصبحت الأحزاب الكردية في سوريا فاعلا رئيسيا في منطقة الشرق الأوسط. لقد ساهم تحسن العلاقات بين الأحزاب الكردية في تهيئة الظروف الملائمة لانعقاد المؤتمر الوطني الكردي لصياغة السياسة الكردية القومية، في حين تسببت الخلافات السياسية بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردي في تأجيل انعقاده أكثر من مرة.

علمانية ملتبسة بخطاب إسلامي أو علمانية كردية

أغلب المجموعات التي يواجهها الأكراد ينتهجون سياسات ذات خلفية إسلامية، معظمها ذات توجه إسلامي متطرف. مما جعل الأكراد يتبنون سياسات ذات توجّه علماني حدد سياساتهم الاجتماعية في المنطقة. وأكد الأكراد على توجهاتهم العلمانية بصراعهم الحالي مع تنظيم الدولة. وكان الاعتماد الواضح على النساء واستقطاب المتدينين وغير المتدينين على حد السواء في العمل الحزبي، واستبعاد الخطاب الديني في العقد الاجتماعي لأكراد سوريا، إضافة إلى المتواصل للإسلام، كلها شكلت إستراتيجية كردية لصياغة السياسات الإقليمية دون الخضوع للأطراف الإسلامية المهيمنة في سوريا، العراق، تركيا وإيران. ساهمت هذه التوجهات مجتمعة في إكساب الطموحات الكردية أكثر شرعية في الساحة الدولية وتأكيد التوجه العلماني للسياسات الحزبية.

جنبا إلى جنب مع هذه التطورات، عمدت السياسة الكردية إلى تعبئة جمهور الناخبين اعتمادا على الخطاب الإسلامي باعتباره آلية تعبئة قوية في المنطقة تساهم في بلورة الميول السياسية لمعتنقيه، حيث لم يعد من الممكن تجاهل دوره في هذا المجال. في النهاية، يمكن القول أن الخطاب الإسلامي الذي اعتمده المعارضون للسياسات الكردية لقي رواجا بين جمهور الأكراد، لذلك سعت الجماعات السياسية الكردية إلى إثبات استعدادها للعب ورقة الإسلام جيدا واستغلاله كدرع دفاعية في التصدي لهجمات المعارضين، وقد تجلت هذه النزعة في مبادرة منظمة مؤتمر المجتمع الديمقراطي التي تنتمي إلى حزب العمال الكردستاني، لتنظيم المؤتمر الإسلامي الديمقراطي في ديار بكر إضافة إلى توظيف الاستعارات الإسلامية في خطابات البرزاني.

الحاجة لإصلاح القطاع الأمني في حكومة إقليم كردستان

خيبت القوات الكردية آمال الكثيرين، خلافا لما كان متوقعا، عجز الأكراد عن الصمود في وجه هجمات تنظيم الدولة في أول مراحل المعركة حيث لم تستطع وقف تقدم قوات التنظيم. إذ ظهرت قوات البشمركة على شكل بيادق مهزومة في مواجهة تنظيم الدولة، لذلك حاول جمهور الأكراد والمسؤولون تحديد أسباب هذه النكسة العسكرية، فطرحت عديد التفسيرات الممكنة وتعددت العوامل المسببة لها.

إذا كانت العوامل المسببة للنكسة قد تعددت، فانه يمكن ردها أساسا إلى؛ الأمن النسبي الذي ساد الجزء الكردي من العراق، مشاركة قوات البشمركة في أعمال غير قتالية، الافتقار إلى المعدات العسكرية المناسبة، غياب الانضباط، الحماسة والكفاءة في صفوف المقاتلين، ساهمت كلها مجتمعة الآداء المهتز لقوات البشمركة الذي تجلى في مواجهة تنظيم الدولة.  إلى جانب هذه العوامل، هناك عوامل أخرى تسببت في الهزيمة المرعبة للبشمركة من بينها قيام هيكل القيادة على أساس الولاءات الحزبية وانقسامها بين أطراف مختلفة، إضافة إلى غياب الحس الوطني لأفرادها، هذا الأخير يعتبر السبب الرئيسي الذي منع قوات البشمركة أن تصبح قوة قتالية هائلة.

لئن اختلفت أسباب النكسة العسكرية لقوات البشمركة فان النتيجة تبقى واحدة؛ ألا وهي الحاجة الملحة لإصلاح القطاع الأمني، فهجمات تنظيم الدولة أظهرت الحاجة العاجلة لإصلاح القطاع الأمني في إقليم كردستان العراق، وهو دفع بحكومة إقليم كردستان العراق لاتخاذ خطوات عديدة من بينها تشكيل لجنة برلمانية تشرف على عملية انتقال قوات البشمركة من ميليشيات حزبية إلى قوات وطنية لذلك يتم العمل أيضا على توحيد قوات البشمركة، كما تمكنت البشمركة من دعم قواتها بالمعدات الثقيلة والتدريب العسكري. إذا تم تفعيل هذه الخطوات بنجاح، فإنها ستساعد قوات البشمركة في الانتقال من ميليشيات حزبية قائمة على ولاءات فردية إلى جيش وطني يتركز ولاءه للوطن. ان الحكمة السياسية تقتضي أننقر بأنه إذا سبق بناء الجيش الوطني عملية بناء الأمة، فان مواجهة إقليم كردستان العراق لقوات تنظيم الدولة  سيكون حافزا لبناء الأمة الكردية على المدى المتوسط والبعيد.

في الختام، ساهمت المعركة بين الحركات القومية الكردية وتنظيم الدولة في ظهور بعض الاتجاهات الجديدة في السياسة الكردية في الشرق الأدنى، ومن المرجح أن تساهم معظم هذه الاتجاهات في تحقيق التطلعات القومية الكردية ودعم سياساتها على المدى المتوسط ​​والطويل. ومع ذلك، ينبغي على المرء ألا يفرط في التفاؤل في هذا التوجه، فقد أدخلت نفس الاتجاهات أيضا أسباب جديدة مقلقة في المجال السياسي الكردي في المنطقة، حيث تزايدت مظاهر التنافس بين الجماعات الكردية المختلفة في إطار إقليمي. إذا تحقق هذا السيناريو السلبي، فانه يثبت المصير المشؤوم للأكراد في الشرق الأوسط. لذلك، ينبغي القيام بحساب دقيق للتطورات الإيجابية التي بشرت بها المعركة بين الأكراد وتنظيم الدولة في مواجهة التطورات السلبية التي اكتسبت القدرة على فرض نفسها. أما السؤال عن طبيعة السيناريو الذي سيحكم الواقع الكردي، فان السياق الإقليمي للأحداث وبُعد نظر القيادة السياسية الكردية أو قَصره، وحده قادر على تشكيل ملامحه.