إن المؤشرات التي تدل على انحسار التوتر بين تركيا وروسيا على خلفية إسقاط الطائرة الروسية على الحدود التركية، تبدو منعدمة.

بينما تتشبث تركيا بحماية حدودها من خلال تبرير عملية إسقاط الطائرة الروسية باختراق هذه الطائرة للمجال الجوي التركي، أثبت القادة الأتراك سعيهم للتهدئة مع روسيا من خلال تراجع حدة الخطاب السياسي الرسمي.

أكد رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أغلو، على ضرورة المحافظة على قنوات الاتصال مع روسيا، التي اعتبرها صديقة هامة لتركيا. أما الرئيس التركي، أردوغان فقد عبر عن رغبته في الحوار مع روسيا لتجاوز المشاكل العالقة. إلا أن روسيا، تجاهلت دعوة الطرف التركي عندما رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرد على الاتصال الهاتفي لاردوغان، تماما كما رفض مقابلة شخصية معه خلال القمة المناخية في باريس. رد موسكو على دعوات دول حلف الناتو، الولايات المتحدة وأوروبا للتهدئة، لم يختلف كثيرا عن ردها على دعوة تركيا في نفس السياق، حيث تجاهلتها روسيا تماما.

في المقابل، يبدو أن التوتر في العلاقات بين الطرفين يزداد حدة يوما بعد يوم مع الإجراءات العقابية التي أعلنت عنها روسيا على خلفية إسقاط الطائرة الروسية، حيث أعلنت روسيا يوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر عن مزيد من العقوبات الاقتصادية ضد أنقرة. شملت هذه العقوبات فرض حظر على استيراد المواد الغذائية التركية، إيقاف الرحلات الجوية المنظمة إلى تركيا، منع الترويج للوجهة السياحية التركية في وكالات الأسفار الروسية، منع رجال الأعمال الروسيين من انتداب موظفين أتراك وفرض التأشيرة على السفر بين البلدين بداية من 1 يناير/جانفي 2016.

روسيا وحلف الناتو

رغم أن النزاع يتعلق في الظاهر بالطرفين التركي والروسي، إلا أنه يمكن أن يتجاوز هذه العلاقة إلى أبعاد أخرى. إن تركيا هي عضو في حلف الناتو، لذلك فان أي تعد على المجال الجوي التركي هو بمثابة تعد على المجال الجوي لحلف الناتو. إن الصراع في هذه الحالة يتعلق بروسيا وحلف الناتو، أكثر مما يتعلق بتوتر ثنائي بين البلدين. وبما أن الأزمة السورية هي السبب الرئيسي لهذا التوتر، فان النتائج المحتملة سيكون لها تأثير عميق على مسار الصراع السوري المعقد.

إن طبيعة العلاقات الاقتصادية بين البلدين تدعم قدرة روسيا على تهديد الاقتصاد التركي على ثلاثة مستويات. تتمثل هذه المجالات في الطاقة، السياحة وسوريا. بالرغم من أن العلاقات الاقتصادية الثنائية تتجاوز هذه المجالات الثلاثة إلى مجالات الصناعة والبناء، إلا أن تأثير الأزمة عليها يبقى هامشيا.

الطاقة

أولا، لقد امتنعت روسيا عن تهديد تركيا بقطع إمدادات الغاز لسببين رئيسيين. يتعلق السبب الأول بالطبيعة الإلزامية للاتفاقيات الدولية في مجال الطاقة، حيث أن إخلال روسيا بالتزاماتها تجاه تركيا في مجال الطاقة يمكن أن يعرضها لعقوبات صارمة. أما السبب الثاني، فيتمثل في هشاشة الاقتصاد الروسي بسبب تراجع أسعار النفط في العالم، بالإضافة إلى العقوبات الدولية المسلطة على موسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية.

إن تبعية تركيا لروسيا فيما يتعلق بصادرات الغاز التي بلغت 55 بالمائة، أضعفت موقف الجانب التركي. إلا أن أهمية هذا القطاع الحيوي بالنسبة لروسيا يؤكد أن التبعية بين الطرفين تبقى متبادلة. لذلك يبدو أن فرضية استغلال روسيا لهذا الخيار في مواجهة تركيا تبقى مستبعدة. إن أبرز ما يمكن أن تتخذه موسكو في هذا المجال هو رفض إبرام اتفاقيات إضافية مع أنقرة في مجال الطاقة أو إلغاء وتأجيل مشروع بناء محطة الطاقة النووية في اكويو الذي تعهدت روسيا ببنائه، إلا أن هذه الإجراءات لا يمكن أن تهدد الاقتصاد التركي.

السياحة

ثانيا، إن دعوة المسؤولين الروس لمقاطعة الوجهة السياحية التركية يمكن أن تضر بالاقتصاد التركي. إن القطاع السياحي، يمثل إلى جانب صناعة السيارات والبناء أنشطة حيوية في الاقتصاد التركي، حيث توفر جميعها عائدات هامة وتساهم في تشغيل نسبة مرتفعة من الأتراك. يأتي الروس ثانيا بعد الألمان في اعتبار تركيا الوجهة المفضلة، حيث يتوافد أكثر من أربعة ملايين سائح روسي على تركيا سنويا. إذا تجاوب الروس مع دعوات المسؤولين لمقاطعة الوجهة السياحية التركية، فان ذلك سيؤثر سلبيا على القطاع السياحي في تركيا. إلا هذا التأثير لن يكون له نفس العواقب التي تتوقعها موسكو. إن تزايد التهديدات الأمنية في مصر، يسمح لتركيا باستقطاب نسبة هامة من هؤلاء السياح، حيث تحتوي تركيا على نفس الخصائص التي توفرها مصر للسياح والتي تشمل الطقس المعتدل، الشواطئ والمواقع الأثرية.

سوريا

ثالثا، يبدو أن روسيا تسعى إلى الانتقام من خلال تعقيد الحسابات السياسية لتركيا في المنطقة. قامت روسيا في الفترة الأخيرة بتعزيز حضورها العسكري في سوريا من خلال تركيز منظومة اس-400 المضادة للطائرات، بالإضافة إلى الحضور المكثف للقوات الروسية على الحدود السورية التركية. يمكن تنزيل هذه التطورات في إطار سعي موسكو لاجهاض دعوة تركيا لفرض منطقة حظر جوي في المنطقة، خاصة بعد أن لاقى هذا المطلب دعما أقل في الفترة الأخيرة من طرف الولايات المتحدة. مما يعني أن موسكو نجحت في فرض قوانينها في المجال الجوي السوري، لذلك فان مشاركة هذا المجال مع الولايات المتحدة وحلف الناتو تبقى مستبعدة في الوقت الحالي.

من ناحية أخرى، تسعى روسيا إلى استمالة الأكراد السوريين الموالين لحزب الديمقراطيين الموحد بهدف إفشال السياسة التركية في المنطقة من خلال دفع وحدات حماية الشعب لاستهداف جماعات الجيش السوري الحر في مرحلة أولى. وتعمل هذه القوات في مرحلة ثانية على دفع جماعات الجيش السوري الحر للتراجع إلى الضفة الغربية لنهر الفرات الذي تعتبره تركيا خطا أحمر يفصلها عن التدخل في سوريا. إذا تجاوزت وحدات حماية الشعب هذا المجال وسيطرت على المنطقة الممتدة بين جرابلوس وعزاز، ستقوم بإعلان منطقة حكم ذاتي تشمل عفران وكوباني على طول الحدود التركية السورية، وهو ما تعتبره تركيا تهديدا واضحا لأمنها القومي.

تواصل خطاب المصالحة

رغم إمكانية تزايد التوتر بين تركيا وروسيا، سوف تعمل أنقرة على تفادي أي تعقيدات إضافية. يبدو أن تركيا ستسعى إلى مواصلة الدعوة للمصالحة من خلال الخطاب السياسي دون أن تلجئ للاعتذار من موسكو، كما لن تخاطر باتخاذ إجراءات اقتصادية ردعية مماثلة باعتبار تبعيتها لروسيا على مستوى صادرات الغاز. رغم كل هذه الاعتبارات فان تركيا لا يمكن أن تلتزم الصمت فيما يتعلق بتدخل روسيا في الأراضي السورية، خاصة بالنسبة لمحاولات موسكو تهديد الأمن الوطني في تركيا أو ضرب سياسات هذه الأخيرة في سوريا.