إن التوتر بين تركيا وروسيا لا يمكن أن يقتصر على البلدين فحسب؛ فتركيا الآن هي عضو في حلف الناتو، وبذلك، يصبح المجال الجوي التركيُّ مجالاً  جوياًّ لحلف الناتو أيضاً، وعندما تخترق روسيا المجال الجويَّ التركي، فإنها تعلم تماماً أنه اختراق للمجال الجويِّ لحلف الناتو.

ويدحض سجل الانتهاكات الروسي باختراق المجالين الجوي والبحري لحلف الناتو محاولات الولايات المتحدة المبدئية لتأطير النزاع ليكون نزاعاً ثنائياً. وليكون الحديث أكثر دقة، قامت شبكة القيادة الأوروبية، مؤسسة أبحاث مقرها لندن، بتوثيق 39 حالة اختراق روسي للمجالين الجوي والبحري لحلف الناتو منذ شهر آذار عام 2014.

ومن الواضح أن هذه الانتهاكات لم تحدث محض صدفة أو عن طريق الخطأ، نظراً إلى حجمها، لكن بدلاً من ذلك، يبدو أن روسيا تحاول اختبار الدفاع الغربي وقدرة حلف الناتو على الدفاع عن سيادة أعضائه في مجالاته الجوية والبحرية والبرية. وحتى حادثة إسقاط الطائرة الروسية مؤخراً، لم تحصل روسيا على أي ردٍّ جادٍّ على انتهاكاتها السابقة.

وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار الأزمة الأخيرة على أنها اختبار حاسم لتماسك حلف الناتو وعزمه في مواجهة اعتداءات غير مبررة من هذا النوع.

وإلى جانب الدفاع والأمن، فإن تحركات روسيا تعتبر أيضا مدفوعة برفضها التام لنموذج سياسي معين، حيث أن البوادر الأولى لنشوء نظام سياسي تشاركي جعلتها تخشى أن يهدد ذلك نفوذها التقليدي في المستوى الجغراسياسي. هذا بلا شك هو حال روسيا في الشأن السوري، وفي هذا الخصوص أيضاً، سيكشف مسار الإجراءات التي يتخذها حلف الناتو والغرب في سوريا، على إثر تزايد الحضور العسكري الروسي فيها، عن طبيعة الخيارات السياسية لحلف الناتو، والنموذج الأمني الذي يعتمده الغرب.

بعد الحرب الباردة، كان على حلف الناتو أن يدرك أن صراعاً جديداً قد بدأ، وسوريا هي أرض المعركة حيث يقوم هذا الصراع. وعلى خلاف الحرب الباردة، حيث كانت الصراعات تأخذ شكلاً اقتصادياً-  النظام الرأسمالي في السوق الحرة مقابل خطوط الاقتصاد الموجه، يتجذر الصراع الجديد في الفلسفة السياسية أكثر من الحكم الاقتصادي.

إن أحد الأسئلة المهمة التي يجب طرحها هنا على جميع الجهات الفاعلة في الصراع السوري، والتي تعبر عن دعمها للاستقرار في سوريا ومعارضتها للتيارات الإرهابية الممتدة، هو؛ ما طبيعة وأساس الاستقرار الذي تريدونه؟ وإضافة إلى ذلك، ماذا سيكون مصدر شرعية أيِّ نظام؟

إن مفهوم الاستقرار ليس حيادياً، والإرهاب كذلك أيضاً، فكلاهما يتمتعان بطبيعة سياسية بحتة. هنالك الكثير من أشكال وأنماط الاستقرار؛ فالاستقرار الذي يقوم على استخدام القبضة الحديدية، والاستقرار الاستبدادي، والاستقرار الديمقراطي هي ثلاثة أنماط فقط للاستقرار، ويوجد كثير غيرها، وإن الاختيار بناءً على هذه الأنماط يوضح صورة اختيار النموذج السياسي الأفضل.

وقد ألقت روسيا بِثِقَلِها وقوتها تجاه الاستقرار الذي يقوم على استخدام القبضة الحديدية في سوريا، كما كان الحال في غيرها، وبهذا، يبدو أن روسيا ترسم حاضراً مستلهماً من تاريخها السياسي.

ووفقاً لهذه الرؤية، فإن من يستطيع تحقيق الاستقرار والنظام هم فقط القادة الأقوياء إلى جانب البنية والثقافة للسياسة الاستبدادية. ومن هذا المنطلق، تنشأ خيارات بديلة، والتي تخضع لموافقة العامة، وهي إما اتباع الأكذوبة السياسية أو الانتماء إلى مجال ثقافي معين، كما هو الحال في غرب أوروبا وشمال أمريكا.

هذا هو مصدر الفكر العدائي تجاه ثورة الشعب، سواء كانت بعيدة (شرق أوروبا، البلقان، دول البلطيق) أو في العالم العربي. وقد قيل في الطبقة السياسية والطبقة العامة الروسية على مدىً واسع أن الربيع العربي قائمُ على تحريض من الولايات المتحدة، وليس عملاً من الشعوب أنفسها.

استمرت روسيا بدعم إصرار السلطة الاستبدادية بشكل قوي وثابت، مستندة إلى فلسفتها السياسية ومؤسستها الفكرية الخاصة. وفي المقابل، قام الغرب بدعم ثورات الشعوب ونظمها السياسية الموعودة في العالم العربي بشكل متفاوت. وقد عرض ستيفن فول، الذي كان المفوض الأوروبي لسياسة التوسيع والجوار، آنذاك، هذه الملاحظات:

“يبدو أن أظهرنا تواضعاً بالغاً في الماضي، حيث لم يكن صوت أوروبا مسموعاً بشكل كافٍ في الدفاع عن حقوق الإنسان والقوى الديمقراطية المحلية في المنطقة، وقد وقع الكثيرون منا فريسة افتراض أن الأنظمة الاستبدادية تشكِّلُ ضماناً للاستقرار في المنطقة.  لم يكن هذا الموقف سياسة واقعيةً حتى؛ بل كان الحل الأسرع لتقليل مدة الصراع- وهذا النوع من الحلول هو الذي يجعل الحل الصراعات أكثر صعوبة على المدى البعيد.”

الحالة السورية والمصرية

ومع ذلك، فقد استمر الفجوة بين أفعال الاتحاد الأوروبي ولغة خطابه بالاتساع، حيث تزعزع دعمها للعملية الديمقراطية في العالم العربي، وإن أفعاله الحالية تعطي انطباعاً يوحي بارتكابه ثانيةً لذات الخطأ الاستراتيجي الجسيم بدعم الاستقرار الاستبدادي بدلاً من دعم الاستقرار الديمقراطي الذي سيكون أثره على المدى الطويل. ولكن هذا المنطق المتبع لم يعد ينتمي إلى الحقبة الزمنية حيث مستقبل دول المنطقة، بل أصبح جزءاً من الماضي.

في الماضي، تمكن الغرب من تحقيق الاستقرار والبنية السياسية الإقليمية لفترة محددة باستخدام الاستقرار الاستبدادي الذي كان يسعى إليه. ولكننا الآن نعيش واقعاً مختلفاً. صحيح أن الثورات العربية لم تنجح بعد بتحقيق أهدافها المنشودة؛ من نظام سياسي تمثيلي وتقدم اقتصادي، ولكنها نجحت في شيء آخر، فقد استطاعت طرح أسلوب جديد في المنطقة، حيث لم تعد الشعوب تقبل بالاستقرار الاستبدادي والقائم على استخدام القبضة الحديدية، وبذلك، فقد أضحت فكرة الاستقرار الاستبدادي جزءاً من الماضي.

وتوضح الحالتين السورية والمصرية بشكل كبير أن الحكام الاستبداديين هم مصدر عدم الاستقرار، وهم أيضاً العامل الأساسي في إيجاد الإرهاب بجميع أشكاله وأنواعه، وبالتالي؛ فإن قراءة المنطقة بناءً على الفكر والعقلية القديمة إلى جانب فرضيات الحقبة السابقة لم تعد ذات فاعلية الآن. فعدم الاستقرار الاستبدادي يؤدي إلى ظهور مخاطر وتهديداتٍ وتحديات بكافة الأشكال أمام الغرب أيضاً. وإلى جانب سوريا، أصبحت سيناء الآن أرضاً غير مأهولة، فبعد تحطم طائرة الركاب الروسية على إثر عمل إرهابي في مصر، ظهر أن حكم القبضة الحديدية يمهد الطريق أمام التطرف والإرهاب.

إن هذا لا يعني أن التحولات الديمقراطية تخلو من الأزمات والتحديات. في الواقع، تعد عمليات التحول الديمقراطي عمليات فوضوية، وخاصة في ظل غياب مُوجِّهٍ يخفف آثار هذه العملية، كما تصرف الاتحاد الأوروبي تجاه الدول التي كانت تخضع لنظام الشيوعية في وسط وشرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكما تصرفت الولايات المتحدة تجاه دول غرب أوروبا وتركيا واليونان مع صندوق تمويل مارشال في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وحتى هذه التصرفات والتوجيه لم تستطع جعل عمليات التحول هذه سلسة وسهلة للبلدان المعنية.

إن صراع نماذج الأنظمة السياسية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط لن يكون قصير الأمد أو سهلاً على حد سواء، فليس هناك طريقة سهلة وسريعة لإصلاح علل المنطقة، وسيكون التغلب على البنية السياسية المترسخة والمصالح الخاصة بكثير من النخب السياسية والاقتصادية والعسكرية صعباً ومُرهِقاً.  ومع ذلك، فإن المنطقة تواجه لحظاتٍ حرجة، فالافتراض السابق بإمكانية مرونة الأنظمة الاستبدادية يتصادم الآن مع الطبيعة السارية لفكرة التشارك السياسي.

إن هذه الصورة الجديدة السارية للفكر السياسي تُجبر الغرب وحلف الناتو على الاختيار، على فرض أن الناتو هو في الأساس البنية الأمنية، ولكن، لا يجب لهذا أن يحجب رؤيتنا عن اعتماده على البنية الأساسية. في الحقيقة، إن عدم وجود هيكل سياسي واضح لا يسمح للهيكل الأمني أن يكون مستمراً أو ذو فاعلية، ولكنه بدلاً من ذلك سيكون آلية مؤقتة لإدارة الأزمات.

وبالتالي، فإن حلف الناتو يحتاج لتوضيح هيكله وأهدافه السياسيين تجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبناء بنيته الأمنية تجاه المنطقة بناءً على هذه المبادئ السياسية. ويتطلب هذا من الناتو أن يهدف إلى الوصول إلى أو تحديد دائرته في المنطقة، ومع من يجب أن يسعى لبناء مستقبل جديد للمنطقة.

وبعد أن يقوم بذلك، يستطيع أن ينتقل من مرحلة تجميع ردود غير محسوبة العواقب على التحديات الأمنية والسياسية المتزايدة في المنطقة إلى وضع استراتيجية أمنية/سياسية متقدمة وراسخة الهيكلية للمنطقة. ودون أدنى شك، يحتاج تحقيق ذلك إلى تخصيص جزء كبير من الميزانية المالية، إلى جانب الالتزامات الراسخة غير المتزعزعة، واختيار خيارات واضحة.