ملخص
إن تكالب الروس على سوريا، تزامناً مع قرب انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي، إضافة إلى صعود نجم إيران بعد تطبيق الصفقة النووية مع الغرب، كلها تعني أن “التحالف الإسلامي” الذي شكلته السعودية في عجالة دون تروٍ يحتاج المزيد من التفكير المعمق، فالضرورات الجيوسياسية المتزايدة قد تجبر السعودية والأردن وتركيا وقطر ومصر وإسرائيل على تجاوز خلافات آرائها في مسائل محددة والعمل على إيجاد نظام شامل ووضع خطة استقرار للمنطقة.

 

أما بخصوص طريق الحرب السورية المسدود، فتلوح في الأفق ثلاث سيناريوهات لنهاية هذه الحرب.

السيناريو الأول: يرى بعض المراقبين تقسيم سوريا (أو حتى العراق أيضاً) نموذجاً لإنهاء الحرب، وبمقتضى هذه الخطة يُترك النطاق الجنوبي والجنوب غربي في سوريا بغالبيته العلوية في يد النظام.أما الجزء الشمالي فيكون من نصيب أكراد سوريا، في حين يبقى المسلمون السنة واقعين في مكان ما في الوسط.

وطبعاً لكي ينجح ويثمر هذا السيناريو فعلى جميع الأطراف عقد اتفاق رئيسي حول تشارك الموارد، كما سيكون من الضروري التفاهم حول تبادل مواقع السكان. لكن “النموذج” الذي يحمله هذا السيناريو في طياته لمستقبل سوريا لا يبشر المنطقة بالخير، فالشكوك كثيرة بالقدرة على تطبيق واستدامة هذه الخطة، وبالتالي تكتنفها شكوك أكبر، خاصةً إزاء قدرتها على تهدئة واستقرار المنطقة المشتعلة بالصراع.

والأمر لا ينطبق على سوريا والعراق فحسب، بل على اليمن وليبيا أيضاً. فلو أعطي لأكراد سوريا أي صفة وجود سياسي على شاكلة “حكم ذاتي أو ما شابه”، فبالتأكيد سيلقى ذلك مقاومة شرسة من إيران وتركيا بشكل رئيسي، لأنه قد يصبح نموذجاً “خاطئاً” يُحتذى به مستقبلاً.

السيناريو الثاني: الذي طُرح أكثر من غيره، هو المفاوضات على إنهاء الحرب، وفي هذا الإطار تستمر الحكومة الوطنية المركزية في دمشق بحكم البلاد، لكن بالتأكيد لن يكون لها نفس درجة التحكم والسيطرة السابقة على كافة المناطق؛ هذه هي الفكرة التي لطالما طرِحت في كل مؤتمرات جنيف واللقاءات الدولية حتى الآن وحتى في قرار مجلس الأمن الأخير 2254 أيضاً.

لكن القرار نفسه يبرز جميع المثالب والعيوب الكامنة في الفكرة، ففي ظل ظروف الحرب الدائرة في سوريا تبقى المفاوضات على الحل بعيدة المنال؛ حتى أن قرار مجلس الأمن نفسه لا يمس أياً من قضاياها الحقيقية؛ فالملاحظ أنه لا يعين ولا يحدد أي المجموعات ستدخل في جملة المعارضة السورية في المفاوضات، كما يُغفل القرارُ مصيرَ الرئيس الأسد.

والأسوأ أن محور روسيا-سوريا-إيران بدأ تواً بالسيطرة على الاتفاق بدليل اغتيالهم لزهران علوش قائد “جيش الإسلام”، أحد أكبر وأقوى المجموعات المعارضة لنظام الأسد. السباق على تكوين بنية المعارضة السورية التي ستجلس على طاولة المفاوضات ما زال أمراً شائكاً يُقوّض مصداقية خارطة الطريق، حيث كان مزمعاً أن تبدأ المفاوضات في 25 يناير/كانون الثاني.

لكنها أرجئت بسبب التخبط والخلافات بين مؤيدي النظام ومعارضيه حول تكوين الأخير وقوامه وممثلي طرفه. ولحفظ ماء الوجه في حال عدم عقد الاجتماع، فإن التوقعات الأمريكية لمؤتمر جنيف 3 هبطت لدرجة باتوا فيها لا ينظرون إليه على أنه “مفاوضات” بل مجرد محادثات تقاربية دون أي شروط مسبقة كهدنة أو تسهيل عبور مساعدات إنسانية للمدن والقرى المحاصرة.

السيناريو الثالث: فهو النصر العسكري لأحد الأطراف المتحاربة، وهو الحل الأفضل لتحقيق استقرار على المدى الطويل حسبما تفيدنا به نظرة على كل تاريخ الحروب الأهلية في العالم. لكن إذا كان النصر من نصيب نظام الأسد، فليس لدى أحد تصورٌ حول كيفية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من دون دفع سنة العراق وسوريا إلى منزلق التطرف؛ وكما أشار مؤخراً الجنرال المتقاعد جون آلان نائب القائد السابق في القيادة المركزية الأمريكية، فإنه ليس من السهل أن تطلب من القبائل السنية في العراق أن تثق بالحكومة العراقية وجيشها لمحاربة داعش، كما أنه ليس مرجحاً أن تختلف عنها في هذا الأمر القوات الديموقراطية السورية المكونة إلى حد كبير من القوات الكردية (وحدات حماية الشعب و حزب الاتحاد الديموقراطي YPG/PYD).وفي الوقت ذاته فإن هذه المهمة لو نجحت فرضاً في العراق، فإن الأمر ذاته لن يسهم في سوريا سوى بتعميق الشكوك وضعضعة الثقة بالقوى الأخرى في المنطقة، بدءاً من تركيا والسعودية ومروراً بالأردن وباقي دول مجلس التعاون الخليجي.

ولذلك فإن انتصاراً عسكرياً على الأسد وداعش هو المطلوب. لكن بدلاً من محاولة هزم داعش أولاً ثم الشروع في عملية سياسية لمناقشة مصير الأسد (كما اقترح كل من أوباما وروسيا وإيران مع دعم صامت من الصين والاتحاد الأوروبي) فالمطلوب هزم الأسد أولاً، ومن بعدها يتم التفرغ لاستهداف داعش، وما من سبيل ليتسنى ذلك لأي لاعب في المنطقة بغطاء شرعي ودقة وحنكة أكثر من دول المنطقة ككل ذات الغالبية السنية.

الولايات المتحدة تعي أن داعش لا يمكن مقاتلتها على الأرض من دون تدخل من الدول ذات الغالبية السنية في المنطقة. ولهذا قال رئيس الأركان المشتركة الأمريكية الحالي الجنرال جو دنفورد أنه “يريد أن يرى الدول السنية بالذات في المنطقة -دول مجلس التعاون الخليجي- تسهم بشكل أكبر على الأرض” لأن قواتها لن يكون عليها “بعض أعباء القوى الغربية”، كما صرح وزير الدفاع آشتون كارتر في تصريحات مماثلة.

فكرة أعلنت على عجل، ثم صرف النظر عنها دون تمهل في ظل الأوضاع الحالية فإن اقتراح “التحالف الإسلامي” الذي قدمته السعودية ينبغي تمحيصه وإعطاؤه القسط الذي لم ينله من التدبر والتفكر، فقد نُحيَ هذا المقترح جانباً بسرعة من قِبل القوى الإقليمية المدرجة أسماؤها، لكن بتغيير بسيط في اسمه وتكوينه فمن الممكن جداً استعماله ليحمل دولاً أخرى في المنطقة على الدخول فيه، مثل تركيا والسعودية والأردن وقطر ومصر.

لكن لكي يتم ذلك فعلى كل الأطراف المهتمة به أن تكون مستعدة لمساومات كبيرة تتخلى فيها عن بعض التزاماتها وشروطها السابقة وتكون لديها الرغبة في حل خلافاتها لتحقيق الهدف المشترك. ينبغي أن تكون مصر أولى مواضيع النقاش، أما السعودية التي هي أكثر المتضررين من طموحات إيران التوسعية في المنطقة، لأن نظامها السياسي لا يساعد على “الانفتاح الديموقراطي”، فعليها الكف عن رؤية ارتباط الإسلام السياسي بالديموقراطية- كما في حال حزب العدالة والتنمية وحزب الإخوان المسلمين -على أنه تهديد.

عليها أيضاً أن تفهم أن مصر أصبحت عبئاً ومسؤولية عليها (السعودية) اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً وأن ذلك لا يمكن أن يدوم. إن الكف عن تجريم الإخوان المسلمين سيسهم كثيراً في هذا الصدد، كما أن إعادة توطيد العلاقات التركية-المصرية سيكون خطوة على طريق بناء الثقة التركية التي هي بحاجة لها في المنطقة. وفي المقابل، على كل من تركيا والإخوان المسلمين إعادة التفكير بنظرتهما تجاه المملكة العربية السعودية، ومن بعدها فليحفظ كل منهما هذه العلاقات كما يحافظ على بؤبؤ عينيه.

ليس غريباً أن يكون لدى باكستان تحفظات على الدخول في مجموعة كهذه نظراً لتصاعد ونمو علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الصين، كما أن لديها أقلية شيعية، بالإضافة إلى أن إيران هي جارتها اللصيقة. وعلى الرغم من أن النخبة الباكستانية المدنية والسياسية أنذرت “بردٍّ قوي” في حال المساس بسيادة الأراضي السعودية، إلا أن باكستان لن تتمكن من تقديم جنود مشاة للتحالف، اللهم إلا لحماية المملكة العربية السعودية، كما فعلت في حرب الخليج الأولى. لكن ينبغي تذكير باكستان أن اشتداد عود إيران في المنطقة سيؤدي إلى تقوية شوكتها في الداخل الباكستاني، وهو ما قد ينذر بزعزعة استقرارها الداخلي.

لكن ذلك لن يكفي لأن روسيا التي ظهرت قواتها على الأرض السورية لن يكون هناك غنى عنها لجرِّ اسرائيل كي تضغط على أوروبا -بريطانيا بالأخص- وعلى إدارة ما بعد أوباما في ذلك الاتجاه. ورغم أن اسرائيل ليست متضررة كثيراً من حروب العراق وسوريا، إلا أنها لطالما كانت تخشى من مد القوة الإيرانية ودعم أمريكا للهيمنة الإيرانية في المنطقة. النقاد والمحافظون الجدد الأمريكيون الموالون لاسرائيل حانقون أساساً على الصفقة الإيرانية النووية. واسرائيل تعرف جيداً أن إيران تتأهب كي تصل بنفوذها إلى العراق وسوريا ولبنان في المستقبل القريب، وأن تبادل الأسلحة ونقلها بين إيران وسوريا وحزب الله ستشتد وتيرته لا ريب- هذا إن لم يكن قد بدأ أصلاً.

والبعض يذهب إلى أن روسيا ستنقل خبرتها العسكرية إلى حزب الله. وزير الدفاع الاسرائيلي موشيه يعالون قال مؤخراً أن “إيران تحدد مستقبل سوريا، فإن دامت السيطرة الإيرانية في سوريا فسيشكل ذلك تحدياً كبيراً لاسرائيل” وأضاف أن “اللاعب الإيراني الأساسي ضدنا هو حزب الله” فإسرائيل متأكدة من أن استهدافها شفهياً أولاً ومن ثم عسكرياً عبر حزب الله بعد ذلك هو أسهل شيء على إيران وأول ما ستقوم به كي تستولي على ما يتبقى لها حينئذ من شرعيتها في العالم الإسلامي ككل.

إن هذا أيضاً يعني أن على تركيا واسرائيل حل مشاكلهما العالقة التي منها رفع الحصار عن غزة؛ وفي الوقت الذي تعيد فيه تركيا ومصر تصحيح مسار علاقاتهما، ينبغي إرسال رسالة خاصة وواضحة لإسرائيل تطمئنها أن مصر ماضية في التزامها باتفاقية كامب ديفيد – والتي لم تتأثر أو تتوقف ولا حتى أثناء حكم مرسي. يبدو أن كلاً من تركيا واسرائيل فهمتا لتوِّهما أهمية تجديد علاقاتهما بأسرع ما يمكن في ظل الظروف الجيوسياسية الراهنة.

آمال معلقة على ما بعد أوباما عندما تتفهم الولايات المتحدة أن علينا ضرب الأسد أو إجباره على الرحيل أولاً ومن ثم التفرغ لضرب داعش، فعندها ستضطر بطريقة أو بأخرى لمواجهة روسيا؛ وبالرغم من أن لا أحد يتوقع خوض أمريكا حرباً ضد روسيا في سبيل استقرار وأمن الشرق الأوسط، إلا أنها تملك وسائل لتجرح روسيا وتدميها حتى الموت، فروسيا دولة ترامت أطرافها إلى البعيد مع حروبها في أوكرانيا والقرم وسوريا.

لكن للأسف لن يكون أوباما صانع الحدث، فهو الذي غدا خاملاً لا يحرك أنملة ليس بسبب تحكم الجمهوريين بمجلس الشيوخ، بل كما يبدو بسبب المؤسسة العسكرية والاستخباراتية التي ثنته وأقعدته وقيدت جناحيه منذ اشتعال الثورة ضد الأسد، إضافة إلى أن إدارته أنهكتها انقساماتها الداخلية كذلك. ففي حال لم تطبق الخطة البديلة المفصلة هنا للفوز ضد كل من الأسد وداعش، فإن الخطة الحالية التي تعوزها الحكمة -والقائمة على محاربة داعش فقط مع الاستمرار بمحادثات جنيف العقيمة والمحكومة بالفشل- سوف تخلق متاعب حقيقية لأوروبا أيضاً.

إن وهنت قوات حفظ ومراقبة الحدود التركية (أمرٌ مؤكد إن استمرت الهجمة الروسية الإيرانية السورية على حلب وصاعدت من موجة اللاجئين) بينما تحارب الإرهاب في عقر دارها جرّاء المتاهة السورية، فلا مفر حينئذ من تسرب المزيد من اللاجئين وعودة المقاتلين المتطرفين الذين أفرزتهم الحرب التي طال أمدها أو أنتجتهم ثارات السنة في العراق وسوريا، ومحققٌ أن هذا سيضرب أوروبا في مقتل. على الاتحاد الأوروبي أن يدرك أنه “نظراً لقرب الشرق الأوسط (خاصة الشام وليبيا) من أوروبا ونظراً لكارثة اللاجئين وغيرهم من المهاجرين التي حلت بأوروبا والمنطقة، فإن هذه مشكلة أوروبية بقدر ما هي مشكلة أمريكية أو روسية.”

لعل تعمق وتوسع المسارات الروسية والصينية داخل الشرق الأوسط ستحفز الرئيس الأمريكي المقبل على إيجاد بدائل عن الاكتفاء بالدبلوماسية والتقارب والحوار مع روسيا والصين وإيران. فأعضاء التحالف آنف الذكر عليهم حل خلافاتهم في أوسع طيف من القضايا قدر الإمكان (بما فيها النظام السياسي المستقبلي السوري وحقوق الأكراد هناك) كما عليهم عقد صفقة كبرى طويلة الأمد فيما بينهم قبل يناير| كانون الثاني 2017 كي يتسنى لهم طرق باب البيت الأبيض وفي جعبتهم هذا المقترح المحكم الجديد. وبهذه الطريقة يكون هناك على الأقل خطة عمل واحدة محكمة ومعقولة ليتبناها الرئيس الأمريكي المقبل عندما تفشل الخطة الحالية المتمحورة حول إيران وتعلن إفلاسها عاجلاً غير آجل.