“كلن يعني كلن” و”يسقط حكم المصرف”

في ١٧ تشرين أول/أكتوبر الماضي، خرجت جماهير الشعب اللبناني على اختلاف طوائفه في مظاهراتٍ لامركزية ملأت مختلف الساحات، رافعةً شعار “كلن يعني كلن”، ومندِّدة بالسياسات الاقتصادية للدولة. وبالإضافة إلى دعوات إعلان العصيان المدني في بعض المناطق، فقد اشتملت التحركات على اعتصاماتٍ وإقفالٍ للمدارس والمؤسسات الرسمية والمرافق الحيوية، إضافةً إلى منع المصارف التجارية من العمل حتى أعلنت جمعية المصارف إقفال أبوابها خوفًا من انهيار القطاع حتى إشعارٍ آخر.  

ليست انتفاضة اللبنانيين ضد نظامٍ “استبداديٍّ” كما كان الحال في انتفاضات موجة 2011 التي رأت في الديمقراطية حلًّا لمآسيها. فقد جاءت مطالب هذه الانتفاضة مستكملةً لروح “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، ولكنَّها أكثر تحديدًا وشموليةً في آنٍ معًا؛ إذ أدركت أنَّ مشكلتها ليست مع رأس النظام، وإنما مع صيغة سياسية-اجتماعية وسياسية-اقتصادية لا ينفكُّ فيها السياسي عن الاجتماعي عن الاقتصادي. ولذا فهي تحاول صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديد يفكِّك الاجتماع السياسي القائم (كلن يعني كلن)، ويصوِّب الاحتجاج صراحةً على السياسات النيوليبرالية للحكومات المتعاقبة، ويضع المصرف المركزي في قلب الاستهداف الصريح (يسقط حكم المصرف). لقد جاءت انتفاضة لبنان لتؤكِّد أنَّ الحكم الرشيد (good governance) يتعدَّى بالضرورة ديمقراطية الصندوق. ولعلَّ فهم حمولة هذه الشعارات يستدعي أولًا أن نفهم التاريخ والواقع الاجتماعي-السياسي والسياسي-الاقتصادي في لبنان.

يعتبر النظام السياسي في دولة “لبنان الكبير” نظامًا ديمقراطيًّا توافقيًّا قائمًا على مبدأ المحاصصة الطائفية وتقسيم السلطات فيما بين الطوائف. وقد نشأ هذا النظام في عهد “المتصرفية” في جبل لبنان الذي أعطت بموجبه السلطنة العثمانية الحكم الذاتي لجبل لبنان برعايةٍ ودعمٍ أوروبيَّيْن عندما أُدمج في خطِّ طريق الحرير. ومن ثمَّ تمأسس في الميثاق الوطني (1943) والدستور مع انتهاء الانتداب الفرنسي وولادة دولة “لبنان الكبير”، ولاحقًا في اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عامًا (1975-1990). وعلى الرغم من أنَّ هذه النصوص اعتبرت هذا النظام “مرحلة انتقالية” وحدَّدت آليات الانتقال منه، فإنَّ هذه الموادَّ عطَّلت ونحت القوى السياسية إلى مزيدٍ من الانغماس والتكريس للطائفية.  وبموجب هذا التقاسم الطائفي للسلطة، فإنَّ منصب رئاسة الجمهورية يشغله المسيحيون الموارنة، ومنصب رئاسة الوزراء يشغله عرفًا المسلمون السُّنة، فيما تكون رئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة. ولا يتوقف التقسيم عند هذا الحدِّ، فالمقاعد البرلمانية أيضًا قُسمت نسبيًّا بين الطوائف بدءًا من عام 1992، وكذلك جميع وظائف الدولة وقيادة الجيش والبنك المركزي والجامعة اللبنانية هي كلها خاضعة لمبدأ المحاصصة.

جرى التسويق لهذا النظام على اعتبار أنَّه يرعى العيش المشترك بين الطوائف، التي يبلغ تعدادها 18 طائفةً؛ وذلك لأنَّه يشكِّل ضمانًا لحقوق كل طائفةٍ ضمن التركيبة اللبنانية، ويحفظها من طغيان إحدى هذه الطوائف على غيرها طغيانًا مطلقًا. وكذلك، سُوِّق هذا النظام في العراق بعد الاحتلال الأمريكي كحلٍّ للمجتمعات المركَّبة: فقُسمت السلطة بين الشيعة والسُّنة والأكراد؛ حيث تكون رئاسة الجمهورية للأكراد، ورئاسة الوزراء للشيعة، ورئاسة البرلمان للسُّنة.  

وعلى خلاف الأنظمة الاستبدادية في دول الربيع العربي، فإن النظام في لبنان هو برلمانيٌّ ديمقراطيٌّ، أي إنَّ الشعب ينتخب النواب، والنواب ينتخبون رئيس الجمهورية ورئيس المجلس، فيما يكلِّف رئيس الجمهورية رئيسًا للحكومة تبعًا لاستشاراتٍ نيابية ملزمة. وبالفعل، يمكننا القول إنَّ هذه الانتخابات تتمُّ دون تزوير نسبيًّا.

إذن، ما المشكلة؟

كثيرة هي الدراسات التي تتحدَّث عن فشل الأنظمة التوافقية في إنتاج حكمٍ رشيد. ورغم ذلك، فإنها ظلَّت تُقدَّم على أنها “حلول” وخياراتٌ منطقية في عدَّة ساحاتٍ عربية (العراق، وسوريا، واليمن، وغيرها). وعلى الرغم من تمكُّن النموذج اللبناني من الحفاظ على التوازنات بين مختلف الطوائف، فإنَّه منذ تأسيسه ما برح يتقلَّب بين العجز والأزمات والحروب والتدخلات الخارجية، حتى اعتُبر نموذجًا لـ”الدولة الفاشلة”. ويمكن فهم أسباب فشل هذا النظام في الحالة اللبنانية بالتحديد من خلال القيام بمقاربة اجتماعية (الاجتماع السياسي) لهذا النظام، وربطها بما يمكن أن نسميه بالاقتصاد السياسي للنظام الطائفي القائم. 

فبعد خمسة عشر عامًا من الاقتتال، اقتنعت الميليشيات الطائفية أن إلغاء الآخر غير ممكنٍ، وتمَّ توقيع اتفاق الطائف معلنين انتهاء الحرب. وقد سُنَّ قانون عفوٍ عامٍّ يعفي كلَّ من تورَّط في جرائم حربٍ، وتكرَّست شرعية الزعماء على أنّهم حماةٌ لوجود طوائفهم ومصيرها والمدافعون عن حقوقها. وضِع لبنان تحت الوصاية السورية التي استمرت حتى عام 2005، وكان النظام السوري هو المسؤول عن إدارة الانقسامات في تلك المرحلة. بدأ الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار، ورُوِّج لفكرة أنَّ الدولة لا تستطيع تقديم الخدمات أو رعاية مشاريع الإعمار؛ ولذا كانت الخصخصة هي “حبل الإنقاذ” للبنان ومقدمةً للمحاصصة الطائفية وتوزيع مكاسب مشاريع ما بعد الحرب الأهليَّة بين الفرقاء. وكان رفيق الحريري العائد من الرياض هو رجل مرحلة الإعمار ما بعد الحرب، والراعي الأساسي لسياسات الخصخصة.   

 وإضافة إلى الخصخصة، اقتضت السياسة الاقتصادية التي أرساها الحريري منذ عام 1992 وتمَّ اتباعها حتى الآن، إعلاءَ شأن السوق العقارية وقطاع الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية. وباختصار، تقوم الدولة بتمويل عجز الميزانية عبر بيع سندات الخزينة والاقتراض من البنوك المحليَّة والمؤسسات المانحة بفوائد عالية جدًّا، وهو ما أدَّى إلى ارتفاع الدَّين العام مثلًا من3.39  مليارات دولار إلى 18.56 مليار دولار خلال خمس سنوات فقط (1993-1998). وتعتبر البنوك المحليَّة هي المموِّل الأساسي للدَّين (أكثر من نصف الدَّين العام)، وهي تابعةٌ بأغلبيتها إلى الطبقة السياسية الحاكمة وشبكاتها. أي بطريقة ما، يحدِّد السياسيون الميزانية العاجزة، ومن ثمَّ يقومون بطريقة غير مباشرة بإقراض الدولة بفائدة عالية جدًّا لتمويل ميزانية (عليها علامات استفهام كثيرة)، وجلُّها إنفاق على وظائف القطاع العام المنتفخة بوظائف بعضها وهميٌّ يوزِّعها السياسيون على شبكاتهم. فكان ذلك عاملًا أساسيًّا في ارتفاع نسبة الدَّين العام من الإنتاج المحلي (مثلًا من 51% إلى 165% عام 2014). لقد كانت المتاجرة بالدَّين – وما زالت – مسؤولةً عن ابتلاع الديون للدولة.

كان وَأْدُ القطاع العام على نهجِ النيوليبرالية ضروريًّا حتى يستطيع الزعماء نسجَ شبكات مصالحهم وتمكين جلوسهم بين المواطنين والدولة. إذن، يحصد السياسيون (ومقربوهم) الناتج الاقتصادي، ومن ثمَّ يوزِّعونه عبر شبكات الزبائنية التي أسَّسوها. ومع غياب الخدمات والفرص (طبابة، وتعليم، وفرص عمل) إلا بما يؤمِّنه الزعيم وشركاؤه، تشكَّلت شبكات الأمان الاجتماعي والاقتصادي ضمن الطائفة، فانمحى وجود المواطن إلا بهويته الطائفية التي لا يمكنه تأمين أبسط حقوقه إلا من خلالها.

لقد رسَّخ هذا النظامُ الفسادَ قانونًا سائدًا، ورعى الزبائنية شرطًا للوجود؛ فهو من جهةٍ شرعن المحاصصة بما هي “تقاسم سلطة الدولة أشلاءً بين المنتفعين”؛ ومن جهةٍ ثانية، حمى الفاسدين من المحاسبة بسبب نزوع كل طائفة إلى حماية رجالها.

يعتبر الخوف والتهديد الوجودي روحَ هذا النظام المجدِّدة والمتجدِّدة ومنطقَه؛ فهي تفرز هذا النظام، وتضمن بقاءه، وتعيد إنتاج نفسها من خلاله. فهذا المنطق يحوِّل “كلَّ تغيير واقعيٍّ في موازين المجتمع (الديمغرافية، والاقتصادية، والتعليمية… إلخ) إلى بعبعٍ مثارِ ذعر”، كما يقول الدكتور أحمد بيضون.

ولمَّا كانت الطوائف تنتخب من مواقعها الطائفية، فإنَّ الشحن الطائفي القائم على الشعور بالخطر الدائم على وجود الطائفة ومصالحها من الآخر يُعتبر السلاح الأساسي الضامن للزعامات الطائفية في إحكام قبضتها على طوائفها. ولذلك، عمد الزعماء إلى تغذية هذا الخوف الوجودي على الطائفة وحقوقها، فيعيش اللبنانيون كلٌّ في منطقته، يصنع أسوارها الوهميَّة (مثلاً:لا يُستأجر مسلم في منطقة مسيحية)، ويتحصَّن في داخلها، ولا يختلط بالآخر إلا في حدود المصلحة التجارية.

وقد تُرجم انعدام الشعور بالأمن في ترسيخ مظاهر التمايز: فكلُّ طائفة تسمِّي أبناءها أسماءً خاصَّة، وترتدي نساؤها زيًّا مميزًا (مثلًا: الحجاب السُّني مختلف في اللون والقماش وطريقة الوضع عن الحجاب الشيعي)، ويأتي سؤال: من أي منطقة أنت؟ أساسيًّا لتحديد طائفة الغريب الذي هو أمامك (فكلُّ منطقة هي رمز) لتعلم أتخاف منه أم لا.

وقد ساهم هذا الخوف الوجودي من الآخر في تكريس نظام تبعيَّة كلِّ زعيم لراعٍ دوليٍّ وإقليميٍّ يضمن قوَّته، ليتحوَّل إلى وكيلٍ للمصالح الإقليمية والدولية التي تتنازع وتصفِّي حساباتها على الساحة اللبنانية. فغلبت سياسة المحاور على الإرادة الوطنية، وأصبح الحديث عن سيادة لبنان روايةً تاريخيةً تقتصر على ذكرى انتهاء الانتداب الفرنسي. ويعتبر هذا الأمر من أخطر ما تحمله الطائفية السياسية على لبنان. 

كيف نفهم هذه الشعارات إذن؟

يحمل شعار “كلن يعني كلن” سيميائيةً مهمَّةً. فهو بادئ ذي بدء: يجعل الصراع الطبقي واضحًا. فعوضًا عن العلاقة العمودية التي تربط كل طائفة بزعمائها في مواجهة العواميد الأخرى، يحاول الهتاف بناءَ علاقةٍ أفقية ندِّية، حيث يصبح الشعب كلُّه واحدًا، في مواجهة حاكميه كلِّهم. ومن خلاله يتعلَّم كلُّ شارعٍ (بمعناه المادي ورمزيته الطائفية) أن يثق بالشارع الآخر، ليخلق شعورًا بشبكةِ أمانٍ جديدةٍ مخالفة لما عرفه وتشربه منذ عقود.

وفي وجهٍ آخر، تأتي صيغة الهتاف (كلن يعني كلن، وفلان واحد منهن) إعلانًا من كل طائفةٍ عن خلع الولاء للزعامة، وحجبًا للثقة والغطاء عنها. فقد كان من السهل على كل شارعٍ أن يتهم زعماء طوائف أخرى بالفساد ويستثني زعيم طائفته. ولكن الشعار وضع الجميعَ في زمرةٍ واحدة.

ويؤدي الشعار وظيفةً أخرى مهمَّة: فهو يؤكِّد أنَّه لا زعيم طائفة وحده هو المستهدف، وإنما الجميع كطبقةٍ واحدة مسؤولة عن وأدِ الدولة وسياسات الإفقار. وتكْمُن أهمية ذلك في أنَّ استهداف أي زعيمٍ دون غيره يُشعر الطائفة بانكشاف ظهرها وضربها في شبكة الأمان الاجتماعي والاقتصادي التي اعتادت عليها، وهو ما احتمى به الزعماء طويلًا ضد المحاسبة.

لقد أثبت الشعار فعاليته أمام أحد أهم التكتيكات التي حاولت السلطة من خلالها الدفاعَ عن نفسها ككيانٍ واحدٍ مشترك المصالح رغم الخلافات الحادَّة فيما بينها: وهو توجيه تُهم فساد للزعماء السُّنة تحديدًا دون غيرهم (ميقاتي والسنيورة)، وإشاعة أن المراد هو إسقاط الموقع السُّني الأعلى المتمثِّل في رئاسة الحكومة (التي شغلها الحريري قبل استقالته) لاستثارة الشارع السُّني، حيث تشعر الطائفة السُّنية أنها مستهدفة دون غيرها، وتستدعي شعورها الدائم بالمظلومية، فتفقد ثقتها في الانتفاضة وشركائها الآخرين على الساحة. وبالفعل، تمكَّن هذا التكتيك لحظيًّا من تحقيق ذلك، حيث بدأت تعلو بعض الأصوات محذِّرة من استهداف السُّنة. وحينها، جاء الشعار ليرصَّ الصفوف من جديد.  

ترافق مع هذا الشعارِ شعارٌ آخر أساسيٌّ: يسقط حكم المصرف. وبهذا الشعار يصوِّب الثوار احتجاجهم على هذه العلاقة المركزية المتشابكة بين السياسة والاقتصاد، محتجِّين على سياسات حاكم مصرف لبنان الخادمة للطبقة الحاكمة والمسؤولة بطريقة مباشرة عن تقويض الدولة كما ذكرت سابقًا. ولمَّا كانت المصارف مرتبطةً بالسياسيين أولًا، وإحدى أدواتهم لتمويل شبكات الزبائنية المرسِّخة لزعامتهم، كونها المدين الأوَّل الذي يموِّل عجز ميزانية الدولة ويبتلعها بالديون ثانيًا؛ فإنَّ التحركات ضد المصارف شكَّلت جزءًا أساسيًّا من تحركات المتظاهرين، حيث لم يتوقف المتظاهرون يومًا عن التوجُّه للمصارف وإجبارها على الإقفال حتى أعلنت المصارف نفسها عن الإضراب للحفاظ على القطاع من الانهيار.

وبذلك تشترك الانتفاضة اللبنانية مع غيرها حول العالم (تشيلي، والإكوادور، وهايتي، وحراك السترات الصفراء في فرنسا…) في تكريس الجبهة الرافضة للسياسة النيوليبرالية المنتشرة عالميًّا والمدعومة من البنك الدولي. ولكنها تأتي أيضًا في سياق ما بات يُعرف بالموجة الثانية من الربيع العربي، وتشترك مع نظيرتها في الجزائر والعراق في ظاهرة اللامركزية وغياب القيادة على خلاف الموجة الأولى. وكذلك، هي تتجاوز شعار “الديمقراطية هي الحل” لتطرح إشكاليةً أكثر عمقًا وتعقيدًا حول أشكال النظام السياسي والحكم الرشيد المناسبة في المنطقة بعد أن انفجرت صيغ الحكم الاستبدادي الأكثري والأقلي (كما في سوريا والعراق قبل الغزو)، واستفحال أزمة الديمقراطية التوافقية في لبنان بالتزامن مع طرح البعض للنموذج اللبناني كحلٍّ سياسيٍّ لإدارة النزاعات (سوريا واليمن وسابقًا العراق).       

 تزامن المشهد اللبناني مع المشهد العراقي الساخن، وهو ما دفع بعض المثقفين والمحلِّلين السياسيين للتقليل من أهمية المشهد اللبناني، متحفِّظين عن تسميته بـ”الثورة” (ربما لغياب العنف نسبيًّا)، ومكتفين بأن يعتبروه حراكًا، أو يقصروا النظر إليه ضمن الموازين الإقليمية، فيعتبروه “إزعاجًا” لإيران في المنطقة. ولكن انتفاضة لبنان على التزامها بسلميتها، تمتاز بكونها جذريةً في أهدافها ومطالبها: فهي إذ تعي تشابك البنى السياسية بالاقتصادية وتصوِّب احتجاجها على السياسة الاقتصادية، فإنها تحاول صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديد مختلف عن العقد السائد ما قبل 17 تشرين. وهي بذلك تضحِّي بشبكات الأمان الوحيدة التي تعرفها وتنخلع عنها، متحديةً خوفها الوجودي بحثًا عن وطنٍ ومواطنة. فقد ساهمت المنظومة القائمة بتغريب اللبنانيين وتهجيرهم الممنهج، حيث لم يترك السياسيون مكانًا أو شيئًا لمن سواهم على أرض الوطن، حتى أصبح العرف العام السائد هو أن ينتهي الشاب من تعليمه (العالي الكلفة) ليتوجَّه إلى المطار. إن هذه الغربة المفروضة على أغلب الشباب اللبناني هي أيضًا ضريبةٌ معنويةٌ تدفعها الأُسر في المجتمع، مما يفسِّر حنقَ الطلاب والأمهات الذي كان واضحًا في التظاهرات.

ما الذي يمكن أن تقدِّمه سلمية المظاهرات (رغم دخول الانتفاضة في مرحلة الترهيب من الدولة)؟ إنَّ سلمية الانتفاضة في لبنان قد أعطتها غطاءً مؤقتًا ونسبيًّا ضد عنف الدولة، مما سمح بانتشار ظاهرة خِيَم النقاش وحلقاته في جميع الساحات، حيث يتمُّ نقاش المطالب، وخلق وعيٍ جامعٍ بالمشاكل البنوية في النظام، وتحديد مكامن الخلل في الممارسة السياسية والاقتصادية.

لقد أظهرت الانتفاضة إبداعًا بيِّنًا حتى الآن في ظلِّ الأدوات السلمية المتاحة. كثيرة هي المواضيع التي يناقشها المتظاهرون ولكن يبقى السؤال قائمًا: ما هي آليات التصعيد الممكنة؟ وكيف يصمد الشعب في ظلِّ التضييق الاقتصادي والمعيشي الذي تمارسه السلطة للضغط على الشارع؟