[1]

لم يعد الحراك الاجتماعي في شهري ديسمبر ويناير يفاجئ التونسيين، فقد أصبح من مقومات حياتهم “العادية”، وكلمة العادي هنا تحيل على المتكرر، مع التأكيد على ضرورة تقييمه سياسيا وأخلاقيا وضرورة تفكيكه وفهمه حتى لا تحصل عملية تطبيع معه.

فقد حصلت أهم الأحداث الاجتماعية خلال الخمسين السنة الماضية في أحد هذين الشهرين منذ أحداث يناير 1978 إلى أحداث الخبز سنة 1984 وصولا إلى انتفاضة الحوض المنجمي التي انطلقت في الرابع من يناير 2008 حتى الانتفاضة التي أدت إلى الثورة 17ديسمبر 2010، ويمكن ربط هذا التزامن بمناقشة الميزانية السنوية للدولة والتي تترافق عادة مع اتخاذ إجراءات تزيد من إثقال كاهل الفئات الشعبية.

لقد أصبحت التحركات منذ سنة 2016 عادة سنوية، فبفضل المناخ الديموقراطي انتقلت مناقشة الميزانية من حدث رتيب يشغل بعض المختصين إلى محطة وطنية تنتبه لها كل الفئات والقطاعات والجهات وتستوعب رهاناتها وتتخذ مواقفها، وقد يكون الشارع المحتج ساحة مكملة لهذا النقاش إذ أن الشارع المتحرك في إطار القانون هو من مكونات المنظومة الديموقراطية.

نلاحظ تزايد تمرد الحراك الاجتماعي على كل الأطر المنظمة بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يختار مجاراة النسق لمحاولة احتواء هذا النمط من الاحتجاج، ويمكن قراءة الإضرابات العامة التي حصلت خلال سنة 2020 في عدد من المحافظات في علاقة بهذا المعطى. وتعتبر محافظات الوسط الغربي والجنوب الغربي المراكز الأساسية للاحتجاج وهي مناطق التمرد التاريخي منذ القرن التاسع عشر والتي صنفها التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة[2] تحت باب “المناطق الضحية”، ولقد بدأ الاحتجاج يتخذ أشكالا أكثر عنفا في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ نهاية الحجر الشامل هذه السنة أواخر شهر مايو.

وحسب مصادر متعددة منها وزارة الداخلية والمعهد الوطني للإحصاء وتقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي جمعية مهتمة منذ سنوات بمتابعة الحراك الاجتماعي والانتهاكات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن مظاهر “القلق الاجتماعي” تتزايد ومنها ارتفاع نسبة الاحتجاجات العشوائية على حساب الاحتجاج المنظم الذي تؤطره “تنسيقيات” محلية أو جهوية أو وطنية يدعي بعضها الانتساب لرئيس الجمهورية، وهي تستلهم من فكرة البناء من أسفل بصيغ شبكية. ‎فقد سجلت سنة 2020عدد 8759 تحركا[3] احتجاجيا يمكن تصنيف ثلثيها ضمن التحركات العشوائية. كما سجلت ارتفاع أرقام الهجرة غير النظامية في سنة 2020 (12883) لتذكر بأرقامها في ربيع 2011 عندما انهارت الدولة، وارتفاع محاولات الانتحار واستهلاك المواد المخدرة وانتشارها خاصة في الأحياء الشعبية، وارتفاع نسب التسرب المدرسي المقدر بـ 100 ألف حالة انقطاع كمعدل سنوي في العقد الأخير وارتفاع حالات الطلاق (أكثر من 13 ألف حالة)، وارتفاع سن الزواج وتجاوزها الثلاثين سنة لدى الإناث والذكور، وتفشي مظاهر العنف اللفظي والمادي.

الملاحظة الأبرز هي توسع مظاهر التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخطر أن التوزيع الجغرافي لخارطة الفقر والحرمان ومظاهر القلق الاجتماعي تتبع نفس خارطة الحرمان القديمة وذلك أحد عناوين تعثر الثورة في تحقيق الإدماج الاجتماعي وبناء الوحدة الوطنية الحقيقية.

 بالنظر لهذه الصورة كان من المتوقع أن تكون نبرة الاحتجاج هذه السنة أعلى من المعتاد بسبب مرور عشر سنوات على انطلاقة الثورة مع تنامي الإحساس بضعف المنجز التنموي وفشل النخبة في التقاط رسائل انتخابات 2019 المطالبة بالتغيير .وبالفعل، فقد تصاعدت الاحتجاجات في عدد من المحافظات واسترجع البعض صورة الأعماق المنتفضة في أواخر سنة 2010، ونظم عدد من الهياكل الجهوية للاتحاد العام التونسي للشغل إضرابات عامة للمطالبة بالتنمية، لكن كل هذا المشهد لم يخرج عن المعتاد إلا من حيث الحجم ومن حيث انزلاق بعض الشخصيات المعارضة إلى التصعيد اللفظي والمناداة بإسقاط المنظومة وأحيانا باستدعاء مبطن لإجراءات خارجة عن التنافس الديموقراطي وعن المزاج السياسي التونسي .

الصوت الجديد:

بداية من يوم الخميس الرابع عشر من يناير 2021 شهد عدد من المدن التونسية تحركات من نوع جديد، إذ يتسلل مئات المحتجين ليلا إلى الشوارع ويستهدفون مغازات كبرى والمحلات التجارية ومكاتب البريد ويحرقون العجلات المطاطية. والغالب على محتلي الشوارع أنهم مراهقون بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة، وقد بلغت التحركات أوجها يومي السبت والأحد السادس عشر والسابع عشر من يناير حين أوقفت قوات الأمن 632 محتجا أغلبهم من القُصّر.

لقد تسببت التحركات في خسائر مادية كثيرة، وتباينت المواقف منها أشد التباين بين منحاز لحرية التحرك بل ومبشر بثورة ثانية يرى في الحراك استعادة لنفس المسار الذي انطلق من عشر سنوات وبين من يعتبر ما حصل تخريبا غير مبرر وتوظيفا سياسيا داعيا أجهزة الدولة للتحرك وتطبيق القانون. لقد وقعت التحركات في مربع النزاع السياسي والخلاف التأويلي. والأخطاء في القراءة في مثل هذه الحالات يتسبب فيها التعميم فالذين احتلوا الشوارع لم يكونوا كتلة متجانسة ولا كانت دوافعهم ولا مقاصدهم كتلة واحدة. فقد تسلل بين الجموع مجرمون ومستثمرون في السياسة، ومن الملفت للنظر أن نلاحظ استهداف الهجومات سلسلة مغازات تنسبها الإشاعة الكاذبة للسيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة والقيادي السابق في حركة النهضة. والفاعلين الأبرز في الحراك هم فتيان قُصَّر من رواد الثانويات أو من ضحايا الفشل المدرسي، ومن جمهور الفرق الرياضية وأهازيجها التي تدق أعتاب السياسة بطريقة أخرى، وهي الأصناف التي نجدها في محاولات الهجرة غير النظامية، حيث سجلت سنة 2020 هجرة [4]1431 قاصرا دون مرافقة أحد من أهاليهم.

هذا الشباب يقتحم الآن الشارع، وهذا هو المستجد النوعي وبه تزداد خارطة الاحتجاج والخروج على المنظومة تنوعا. ففي السياسي شهدت انتخابات 2019 ومن قبلها الانتخابات المحلية لمايو 2018 طلبا على عروض لا نمطية في العمل السياسي تقطع مع المشهد القائم، وفي الاقتصاد يكاد القطاع الموازي أن يتقاسم مناصفة إنتاج وتداول الثروة مع القطاع المنظم، وفي الاحتجاج الاجتماعي تتنوع صيغ الاحتجاج وتتمرد على التنميط.

لم يعد الاتحاد العام التونسي للشغل هو المعبر الوحيد عن الاحتجاج فقد برزت صيغ جديدة منظمة ومستقرة وأخرى مناسباتية تعبر عن قضايا (مثل البيئة أو الماء أو النقل) أو جهات أو فئات أو قطاعات، غير أن ما يجمعها تقريبا هو وضوح المطالَب وسبب الالتقاء.

الصوت الجديد مختلف، لم يعبر عن مطالب صريحة، غير أن حراكه لا يمكن أن يُقرأ خارج المربع السياسي.

بعد محطات الانتقال الكبرى تستهلك النخبة الجديدة الشعارات المؤسسة لها وتغفل عما يعتمل في المجتمع العميق ولدى الأجيال الجديدة، ومن هنا يحدث الشرخ وتنشأ الفجوة التي قد تتحول إلى قطيعة. كان هذا حال أحزاب التحرر الوطني مع مطالب الأجيال الجديدة بعد الاستقلال وفجوة التواصل وتباين طرق التفكير وغلبة خطاب المركزة المتعالي، وهي صياغة محلية للسلوك الاستعماري أدت إلى مواجهات أضاعت بها بلداننا الطريق نحو الديموقراطية والتنمية والتقدم.

هل تفهم النخبة درس التاريخ

إن الحراك الأخير يضع النخبة التونسية المستفيدة من الثورة برمتها أمام الامتحان، يستوي في ذلك من عمَّم في الإدانة مع من عمَّم في التبرئة، يستوي في ذلك من تصوّر إمكانية توظيف الغضب دون أن ينتبه أنه أحد المقصودين به مع من أوغل في الاقتراب من خطابات دولة كان أحد ضحاياها.

المعضلة الأساسية التي يجب أن يقف أمامها الجميع هي مدى نجاعة سردية مقاومة الاستبداد ومفتاح الانتقال الديموقراطي ومقولات من نوع المنظومة القديمة لدى الأجيال الجديدة؟ فهل تحتفظ هذه المقولات بقدرتها الإجرائية على التفكيك والتفسير وهل تحتفظ بقدرتها التعبوية للتقدم والبناء؟

إن مداخل الفهم متعددة، فلا يمكن الاستهانة بتأثير المخلفات النفسية لحالة الحصار المنزلي التي فرضتها الجائحة وثقلها على الأوساط الشعبية حيث يتحول الحجر سجنا في أماكن ضيقة دون وسائل ترفيه ترتد ضيقا يبحث عن متنفسات.

ولكننا نواجه في العمق أزمة انتماء وضبابية آفاق وفجوة وعي وتواصل.

إن الأجيال الجديدة، كما الفئات الشعبية، يستغرقها الآني وتبحث عن إجابات ملحة وسريعة وهي غير معنية بفهم المسارات الطويلة والصبر عليها.

إن الديموقراطية في وجهها الليبرالي يمكن أن تكون محل إجماع إذا تحولت إلى مناخ ورافعة لخلق الثروة وبناء الأمل وتحقيق العدالة. في غير ذلك، تصبح الديموقراطية الليبرالية فاكهة الفئات الضامنة للحد الأدنى من العيش الكريم دون أن تعني شيئا لغيرهم.

هل بالإمكان البحث عن تسوية تصبح بمقتضاها الديموقراطية أداة ناجعة؟ هل يمكن إبرام صفقة بين “العياش” المستغرق في تدبير الخبز اليومي والمثقفين والساسة؟

إن ذلك ممكن ولكن بشرط توفر الثقة والصدق، ولن يحدث ذلك دون اندراج الأعمال اليومية للساسة في رؤية طويلة الأمد، ودون سياسة تواصلية ناجعة، ودون القطع مع عقلية وتقاليد وردود فعل الدولة السلطانية. إن المعالجة المحكومة بعقلية التصدّي هي الوجه الآخر لعقلية التوظيف السطحي والانتهازي. لا معالجة ناجعة دون فهم وتفهم، يخطئ من يتصور في هذا الحراك فرصة لقلب الأوضاع كما يخطئ من يتصوره حدثا عابرا.

لقد كان علامة تنبيه بدخول فاعل جديد مربع التأثير السياسي بعد أن عبر عن نفسه بصيغ احتجاج متنوعة دون أن تقرأ سياسيا.

السياسة الأمنية يجب ألا تتجاوز مربعها. والخطاب التواصلي يجب أن يتجاوز التباسات خطابات الرئيس، ورتابة خطابات رئيس الحكومة وارتباكات خطابات مسؤولي الأحزاب.

إن أزمة الحكم المتفاقمة التي تعكسها استطلاعات الرأي حين تؤكد عدم قدرة ثلثي الناخبين على توضيح وجهة تصويتهم إن حصلت انتخابات قريبة، وحين تؤكد تآكل شعبية رئيس الجمهورية الذي ظل لحد الآن الملاذ الوحيد لجزء من الرأي العام، كما تؤكد الصعود الصاروخي للتيارات الشعبوية وغير الديموقراطية لا تتحمل المماطلة في الذهاب إلى حوار شامل أو هندسته ليكون عامل تقسيم إضافي أو إقرار تحوير حكومي يضم شخصيات تحوم حولها شبهات فساد.

إن حصل ذلك لا يعني شيئا أقل من إصابة النخبة الحاكمة بداء التوحد، وهو مؤشر خطير على تفاقم الفجوة بين السطح السياسي والمجتمع العميق.

 

[1] العياش: عبارة تونسية عن المواطن المنصرف لخاصة نفسه الذي قد يوصف أحيانا بالـ “خبزيست” ترد هذه العبارة في خطاب جزء من المثقفين في سياق تحقيري، نوردها هنا في سياق وصفي.

هيئة الحقيقة والكرامة: التقرير الختامي الشامل – الجزء الرابع: جبر الضرر ورد الاعتبار، ص 184 وما بعدها، نشر 2018. [2]

[3] المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمرصد الاجتماعي التونسي: نشرية شهر ديسمبر 2020حول الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف والهجرة.

[4] المصدر السابق.