دبلوماسية المياه: الامتحان الصعب في الامن الغذائي في الحرب الروسية-الأوكرانية
تجلت تجارة المياه الافتراضية (المُعرفة بأنها كمية المياه المستخدمة لإنتاج السلع الزراعية التي سيتم تبادلها فيما بين الدول، Allan, 2003) كحلًا بديلا لتجاوز سياسة الاكتفاء الذاتي الغذائي وما سببته من استنزاف الموارد المائية وانخفاض في منسوب المياه الجوفية وجفاف مصادر المياه وتلوثها وخاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة. إلا أن هذه التجارة صُدمت في الحرب الروسية – الأوكرانية فكلا الدولتين تشكلان مصدرا مهما للمنتجات الغذائية من القمح والزيوت واللحوم لا غنى عنه لتأمين احتياجات الملايين من سكان دول العالم. إذ مع استمرارية هذه الحرب تعطلت سلسلة امدادات الأغذية وطفى هاجس الازمة الغذائية الذي بدأ يؤرق بعض الدول وظهر تغلغل بوادر نذر المجاعة في أعتاب دول أخرى.
انطلق نشاط دبلوماسي من الدول الأكثر تضررا، تمثلت بزيارة رئيس الاتحاد الافريقي – رئيس السنغال الى روسيا لطلب تحييد تجارة المنتجات الغذائية من الحرب. تبعتها زيارة وزير الخارجية الروسي لتركيا لمناقشة مسألة عبور المنتجات الأوكرانية. إلا أن المخرجات العلنية لتلك الزيارة اقتصرت بتصريحات هي أقرب منها لان تكون تبرير من قبل وزير الخارجية الروسي موقف بلاده أمام دول العالم المهددة بالأزمة مًلقيًا اللوم على الاخرين، وفتح نافذة دبلوماسية من قبل وزير الخارجية التركي لإعادة النظر في سياسة الحصار، تمثلت بتصريح عن ضرورة السماح للمنتجات الغذائية لكلا البلدين في الوصول للأسواق العالمية سواء بالسماح في عبور المنتجات الغذائية الأوكرانية او برفع الحصار الاقتصادي عن المنتجات الزراعية الروسية. إلا أن الطريق ما زال ضبابيا أن لم نقل ما زال مسدودً حتى بعد الاجتماع الثلاثي الذي ضم رؤساء كل من تركيا وإيران وروسيا.
يتبادر هنا التساؤل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه دبلوماسية المياه للمساهمة في إعداد الية تساهم في إيجاد مخرجًا للأزمة لتجنب تدهور الوضع الغذائي وما ينجم عنه من مجاعات تكون سببا في نشوب الاضطرابات الاجتماعية والسياسية وتهميش النظام العالمي القائم على الدولة الوطنية لصالح نسق دولي يكون للمجموعات الغير حكومية وخاصة المسلحة دورا مستقبليا بغض النظر عن أيدولوجيتها. يُشتق مفهوم الدبلوماسية المائية مباشرة من الاتفاقات المتعددة الأطراف المطبقة على إدارة المياه العابرة للحدود لتعبئة التآزر بين المجالات السياسية والدبلوماسية والمالية وكذلك جهود جميع البلدان المتشاطئة (Bastien Richard, 2020)
الامن الغذائي بين التحديات الطبيعية والقنوات الدبلوماسية؟
يجسد تأمين الغذاء للسكان أحد أهم مقومات الدولة ومصداقية السلطة السياسية. لتحقيق ذلك، تعتمد الدول على انتاجها المحلي أو / والاستيراد لسد احتياجات السكان من الغذاء المطلوب وبأسعار متناسبة مع مستوى دخل الفرد.
في ثمانينات القرن الماضي، تبنت العديد من هذه الدول سياسية الاكتفاء الذاتي الغذائي هادفة من ذلك التخلص من التبعية الاقتصادية من خلال تأمين كافة احتياجات سكانها من المواد الغذائية الضرورية والتخلي عن الاستيراد معتمدة بذلك على الموارد المتاحة فيها. فقد خصصت قسمًا كبيرًا من استثماراتها لتحقيق ذلك. فقد شيدت السدود وأنشئت شبكات الري التي تعتمد على المياه السطحية وأحيانا المياه الجوفية. بالإضافة لذلك فقد تبنت سياسة اقتصادية توفر الدعم المالي للإنتاج الزراعي لكل من شراء المدخلات الزراعية من بذار واسمدة ومبيدات والاعلاف والأدوية البيطرية والمازوت. لم يتوقف الدعم المالي على مدخلات الإنتاج الزراعي بل شمل أيضًا المنتجات الزراعية. فقد تم شراء المحاصيل وخاصة الاستراتيجية كالقمح والقطن من المزارعون بأسعار تفوق السعر العالمي. بالإضافة لذلك فقد تم دعم سعر المستهلك. فعلى سبيل المثال، أصبح المستهلك يشتري الخبز بأقل من سعر تكلفة انتاجه. كذلك تبنت سياسة ائتمانية تسهل الحصول على القروض بفوائد محدودة للتحول من الزراعات البعلية للزراعات المروية ومكننة الزراعة.
على الرغم من النجاحات التي حققتها هذه السياسات في تأمين احتياجات السكان من الغذاء وتحقيق فائض في الكثير من الأحيان. إلا ان مؤشرات فشل هذا النموذج الاستراتيجي لم يتأخر ظهوره. فإن الاستخدام الكثيف واللاعقلاني للمياه أدى لانخفاض المنسوب المائي ولجفاف العديد من المصادر المائية. بالإضافة لتلوث المياه وارتفاع نسبة ملوحتها. كذلك فقد فُقدت مساحات كبيرة من الأراضي القابلة للزراعة سواء بسبب البحيرات التي شكلت خلف السدود او من خلال تملح التربة. أضف لذلك، التزايد المضطرد لتكلفة الدعم الذي تسبب في إنهاك الميزانية العامة للدولة التي لم تعد تتحمل تكاليف الدعم المالي للقطاع الزراعي.
هذه النتائج الكارثية على الموارد المائية والتربة والعبء المالي على ميزانية الدولة ساهما بظهور مفهوم المياه الافتراضية المُعَرفة بأنها كمية المياه المطلوبة لإنتاج سلعة (جون أنتوني آلان John Anthony Allan). في تسعينيات القرن الماضي، فعلى سبيل المثال، يتطلب إنتاج طن واحد من الحبوب الى 800 متر مكعب من الماء. بالنسبة لبلد يتميز بمناخ جاف أو شبه جاف، يكون شراء طن من الحبوب من بلد غني بالموارد المائية أسهل وأفضل من استخدام هذه المياه اللازمة لإنتاجه. من خلال تجارة المواد الغذائية، يتم نقل المياه الافتراضية “المياه التي اُستخدمت لإنتاج المواد الغذائية” من البلدان الغنية بالمياه إلى البلدان التي تعاني من ندرة المياه (John Anthony Allan). هذه المعطيات والمفاهيم ساهمت في التحول الى تبني سياسة الامن الغذائي النسبي حيث تعتمد الدول على تامين السلع الغذائية بشكل مستمر وبأسعار مناسبة للمستهلك من الإنتاج المحلي للبلد وباستيرادها من بلدان أخرى. تزايد، بشكل ملحوظ، عدد المدافعين عن تجارة المياه الافتراضية كمخرج للتحديات التي أعاقت سياسة الاكتفاء الغذائي الذاتي. إلا أن فشل هذا النموذج بدأ يلوح بالأفق في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فقد دعا الدكتور عدلي سعداوي، عميد معهد البحوث والدراسات الإستراتيجية لدول حوض النيل وعضو المجلس المصري للشئون المصرية من خلال مقابلة مع قناة مصر الزراعية الى العودة للاكتفاء الذاتي (الامن المائي والمشروعات القومية، قناة مصر الزراعية، 12 تموز 2022).
إذ أظهرت هذه الحرب التي تدور رحها على الأراضي الأوكرانية هشاشة هذا النموذج في تأمين استقرار في سوق المنتجات الزراعية الغذائية في غياب دبلوماسية راعية له. لا يقتصر ذلك على انخفاض الإنتاج في أوكرانيا بسبب الحرب الذي امتص اليد العاملة وأدى الى صعوبة الوصول الى بعض الحقول وانما الى الالية التي افرزتها هذه الحرب في انتاج المعوقات التالية:
- صعوبة تصدير المنتجات الغذائية الأوكرانية بسبب الحصار الروسي على تصديرها.
- تلغيم ميناء اوديسا من قبل الأوكرانيين.
- فرض الحصار الاقتصادي على المنتجات الزراعية الروسية.
- في هذه الأجواء الضبابية لمستقبل الغذاء قامت بعض الدول باتباع استراتيجية الحماية من خلال تخزين ومنع تصدير المنتجات الغذائية.
- ارتفاع أسعار الاسمدة والمبيدات ومنع تصديرها من بعض الدول المنتجة لها.
لن تقتصر أثار الازمة الغذائية والمجاعة التي تهدد العديد من الدول وبالأخص الدول الفقيرة في المناطق الجافة وشبه الجافة على العوز الغذائي وما ينجم عنه من امراض وخسائر بشرية على مستوى محلي وإنما يتعدى ذلك الى زعزعة استقرار هذه الدول وفشلها وفقدان شرعية حكوماتها أمام شعوبها لصالح المجموعات الغير الحكومية المتواجدة، مسبقًا، بشكل علني او كامن في تلك المناطق. مما يشكل عاملًا إضافيا في تهديد النظام الدولي لصالح نسق دولي جديد تكون فيه هذه المجموعات على اختلاف ايدولوجيتها لاعبا دوليا لا مفر منها يتمتع بمشروعيةٍ من القواعد الشعبية.
إن فشل استراتيجية الاكتفاء الذاتي مرتبطة بشكل رئيسي بمحددات طبيعية من الصعب تجاوزها مثل ندرة المياه وتملح التربة. لكن إن تفاقمت الازمة الحالية فإن استدامة وفعالية استراتيجية تجارة المياه الافتراضية ستكون موضع تشكيك. إن تجاوز ذلك مرتبط بقدرة دبلوماسية المياه الخروج من نطاقها الضيق المحصور في تقاسم الأنهار الدولية والتعاون مع الدبلوماسية التقليدية على إيجاد الية للخروج من الازمة الحالية وتطوير الأعراف دبلوماسية المياه بما يؤمن الحماية الكافية لتجارة المياه الافتراضية للحفاظ على استقرار سلسلة التوريد الغذائي العالمي وتجنيبها الاضطرابات السياسية والعسكرية والاثار التي ستنجم عن الاحتباس الحراري والتغير المناخي .
المصادر:
لقاء مع الدكتور عدلي السعدواي، الامن المائي والمشروعات القومية، قناة مصر الزراعية، 12 تموز 2022 https://www.youtube.com/watch?v=RR5ml5gMmFY&t=291s
Bastien Richard, 2020, « Les eaux transfrontalières fédératrices d’une hydro-diplomatie environnementale ? Analyse comparée du Danube et du Jourdain », VertigO – la revue électronique en sciences de l’environnement [En ligne], V. 20 n° 3,
J.A. Allan (2003) Virtual Water – the Water, Food, and Trade Nexus. Useful Concept or Misleading Metaphor?, Water International, 28:1, 106-113,