العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا: تحليل للتشابه الجيوسياسي والعسكري بين المسرَحَين الأوكراني والسوري»

في‭ ‬ظل‭ ‬إصرار‭ ‬القيادة‭ ‬الروسية‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭ ‬في‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭ ‬تبرز‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬التشابه‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬والعسكري‭ ‬بين‭ ‬المسرحين‭ ‬الأوكراني‭ ‬والسوري‭ ‬لدى‭ ‬القيادة‭ ‬الروسية،‭ ‬هذا‭ ‬التشابه‭ ‬ساعد‭ ‬القيادة‭ ‬الروسية‭ ‬على‭ ‬اختبار‭ ‬نجاعة‭ ‬الخبرة‭ ‬العسكرية‭ ‬المُكتَسَبَة‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا

مقدمة‭:‬ بعد‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬ونصف‭ ‬على‭ ‬بدء‭ ‬العملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تندرج‭ ‬ضمن‭ ‬المحاولات‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬مناطق‭ ‬النفوذ‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬جورجيا‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬ثم‭ ‬حرب‭ ‬القرم‭ ‬2014‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬العملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوكراني،‭ ‬تبرز‭ ‬ضرورة‭ ‬دراسة‭ ‬الأداء‭ ‬العملياتي‭ ‬والتكتيكي‭ ‬العسكري‭ ‬الروسي‭ ‬على‭ ‬مسارح‭ ‬العمليات‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الأوكرانية‭ ‬التي‭ ‬تتطابق‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬نواحي‭ ‬مع‭ ‬الساحة‭ ‬السورية‭ ‬التي‭ ‬انخرطت‭ ‬فيها‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬منذ‭ ‬سبعة‭ ‬سنوات‭.‬‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬تُخاض‭ ‬على‭ ‬جغرافيا‭ ‬تشبه‭ ‬إلى‭ ‬حدٍّ‭ ‬كبير‭ ‬الجغرافية‭ ‬السورية‭ ‬جَعَلَ‭ ‬الاستلهام‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬أمراً‭ ‬ممكن‭ ‬التطبيق‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬الأوكراني‭ ‬وخاصة‭ ‬بعد‭ ‬التغييرات‭ ‬التي‭ ‬أجرتها‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬على‭ ‬هياكلها‭ ‬التنظيمية‭ ‬وعلى‭ ‬الأداء‭ ‬الفني‭ ‬لأسلحتها‭.‬

تهدف‭ ‬الورقة‭ ‬إلى‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬تطبيق‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬لخبرتها‭ ‬العسكرية‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬السورية‭ ‬على‭ ‬مسارح‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬إضافة‭ ‬للتكتيكات‭ ‬المتبّعة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسارح،‭ ‬وتنبع‭ ‬أهمية‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تمكين‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬واختبار‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬هذه‭ ‬الخبرات‭ ‬الروسية‭ ‬المكتسبة‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الهدف‭ ‬السياسي‭ ‬الروسي‭ ‬المنشود‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬ضمن‭ ‬معطيات‭ ‬جغرافية‭ ‬وعسكرية‭ ‬متقاربة‭ ‬مع‭ ‬المعطيات‭ ‬الجغرافية‭ ‬والعسكرية‭ ‬السورية‭.‬

تناولت‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والمقالات‭ ‬العملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬ضمن‭ ‬سياقات‭ ‬محددة‭ ‬تكتيكية‭ ‬أو‭ ‬عملياتية‭ ‬لكنها‭ ‬غير‭ ‬مُجمِلةَ‭ ‬للسياق‭ ‬العام‭ ‬للحرب،‭ ‬مثل‭ ‬أداء‭ ‬سلاح‭ ‬الجو‭ ‬الروسي‭ ‬أو‭ ‬تكتيكات‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬أو‭ ‬الفروق‭ ‬في‭ ‬ديناميات‭ ‬القيادة‭ ‬والسيطرة‭ ‬بين‭ ‬القوتين‭ ‬المتصارعتين‭. ‬يعوز‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬عدم‭ ‬ربط‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬إضافة‭ ‬لعدم‭ ‬تناولها‭ ‬لعوامل‭ ‬أخرى‭ ‬كالعامل‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬الدافع‭ ‬لهذه‭ ‬الحرب‭ ‬وتطابقه‭ ‬مع‭ ‬العامل‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬السوري‭ ‬وكذلك‭ ‬الاستلهام‭ ‬الروسي‭ ‬من‭ ‬الأداء‭ ‬العسكري‭ ‬والسياسي‭ ‬لهُ‭ ‬في‭ ‬سوريا‭.‬

انطلاقاً‭ ‬مما‭ ‬سبق‭ ‬تجيب‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬كيف‭ ‬استخدمت‭ ‬القيادة‭ ‬الروسية‭ ‬العسكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬خبراتها‭ ‬وأساليبها‭ ‬العسكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬اكتسبتها‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬غزوها‭ ‬لأوكرانيا؟‭ ‬وكيف‭ ‬استطاعت‭ ‬تحقيق‭ ‬بعض‭ ‬النجاح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الخبرات‭ ‬مقابل‭ ‬عدم‭ ‬نجاحها‭ ‬بسبب‭ ‬فقدان‭ ‬القراءة‭ ‬الدقيقة‭ ‬لجغرافيا‭ ‬الحرب‭ ‬الأوكرانية‭ ‬واعتمادها‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الاستنساخ‭ ‬لبعض‭ ‬الخبرات‭ ‬المكتسبة‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الأوكرانية‭ ‬ظنّاً‭ ‬منها‭ ‬بوجود‭ ‬تشابه‭ ‬شديد‭ ‬بين‭ ‬حالة‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬والمعارضة‭ ‬العسكرية‭ ‬السورية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الأداء‭ ‬الميداني‭ ‬العسكري‭ ‬والهيكلية‭ ‬الإدارية‭ ‬والدعم‭ ‬السياسي‭.‬

تناقش‭ ‬مقدمة‭ ‬الورقة‭ ‬التطابق‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬لأوكرانيا‭ ‬وسوريا‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬القيادة‭ ‬السياسية‭ ‬الروسية‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬وقوع‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬أمراً‭ ‬بديهاً‭ ‬لمن‭ ‬يقرأ‭ ‬عقليّة‭ ‬روسيا‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬كما‭ ‬يصفها‭ ‬ألكسندر‭ ‬دوجين‭ ‬في‭ ‬كتابه‭. ‬ثم‭ ‬تقدم‭ ‬الورقة‭ ‬أبرز‭ ‬نقاط‭ ‬التشابه‭ ‬والاختلاف‭ ‬العسكرية‭ ‬بين‭ ‬الساحة‭ ‬الأوكرانية‭ ‬والساحة‭ ‬السورية‭ ‬والتي‭ ‬استفادت‭ ‬منها‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬حربها‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭. ‬تنتقل‭ ‬الورقة‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬قراءة‭ ‬مفصّلة‭ ‬لتطبيق‭ ‬روسيا‭ ‬لخبراتها‭ ‬العسكرية‭ ‬المكتسبة‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬السورية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التكتيكات‭ ‬ومستوى‭ ‬مسارح‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬ضد‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭. ‬تحاول‭ ‬الورقة‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الرابع‭ ‬تقديم‭ ‬قراءة‭ ‬مفصّلة‭ ‬لأبرز‭ ‬العوائق‭ ‬الداخلية‭ ‬والخارجية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬تعثّر‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬الحرب‭ ‬الأوكرانية‭. ‬تَختِمُ‭ ‬الورقة‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬بقراءة‭ ‬آثار‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭ ‬وخاصة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬أضافة‭ ‬لتقييم‭ ‬الأداء‭ ‬العسكري‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬اعتماداً‭ ‬على‭ ‬خبرته‭ ‬المكتسبة‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬وكذلك‭ ‬السيناريو‭ ‬الأقرب‭ ‬للوقوع‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬العسكري‭ ‬الأوكراني،‭ ‬ونهايةً‭ ‬انعكاسات‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العسكرية‭ ‬السورية‭ ‬والفاعلين‭ ‬الدوليين‭ ‬والإقليميين‭ ‬فيها‭.‬

التطابق‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬لأوكرانيا‭ ‬وسوريا‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬روسيا

تعتبر‭ ‬القيادة‭ ‬الروسية‭ ‬من‭ ‬منطلقٍ‭ ‬جيوسياسي‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬هي‭ ‬حربٌ‭ ‬دفاعية‭ ‬قريبة‭ ‬جغرافياً،‭ ‬والحرب‭ ‬السورية‭ ‬حرب‭ ‬دفاعية‭ ‬بعيدة‭ ‬جغرافياً‭. ‬وفق‭ ‬المفهوم‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬الروسي‭ ‬تعتبر‭ ‬أوكرانيا‭ ‬خط‭ ‬الدفاع‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬موسكو‭ ‬وذلك‭ ‬لأنها‭ ‬منطقة‭ ‬سهلية‭ ‬تقع‭ ‬شرق‭ ‬جبال‭ ‬الكاربات‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬الروس‭ ‬منذ‭ ‬تأسيس‭ ‬دولتهم‭ ‬زمن‭ ‬ايفان‭ ‬الرهيب‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬وعلى‭ ‬الموانع‭ ‬الطبيعية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬عائقاً‭ ‬أمام‭ ‬القوات‭ ‬الراغبة‭ ‬في‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬موسكو‭ ‬(الشكل‭ ‬1)،‭ ‬أما‭ ‬سوريا‭ ‬فهي‭ ‬خطٌ‭ ‬دفاعيٌ‭ ‬متقدم‭ ‬عن‭ ‬أوراسيا‭ ‬وموقعٌ‭ ‬متقدم‭ ‬لموسكو‭ ‬على‭ ‬المياه‭ ‬الدافئة‭ ‬التي‭ ‬تبحر‭ ‬فيها‭ ‬غالب‭ ‬التجارة‭ ‬البحرية‭ ‬العالمية‭.‬

لقد شدد المنظرون الجيوسياسيون الغربيون على أهمية أوكرانيا باعتبارها المفتاح الجغرافي لموسكو. وأبرز من نَظَّرَ لهذا المفهوم هو زبينغو بريجينسكي، حيث أطلق في كتابه رقعة الشطرنج على الإقليم المحيط بروسيا البلقان الأوراسي في تشبيه لها بمنطقة البلقان الأوروبي والذي يعتبره الجيوسياسيون المفتاح الجغرافي لأوروبا واعتبر الحزام المحيط بهذا الإقليم (بما فيه أوكرانيا) هي منطقة الزعزعة التي يجب أن ينطلق منها الغرب في السيطرة موسكو (الشكل 2).

تشابه مسرح العمليات الأوكراني والسوري والخبرة الروسية المكتسبة من الأخير:

بداية لا بد من التعريف بأن الجيش الروسي هو جيش بريّ، يجيد القتال في المناطق السهلية المفتوحة ويبتعد عن القتال ضمن الجغرافيا الوعرة.

بدأ الجيش الروسي عملياته العسكرية في سوريا أيلول عام 2015 بجانب قوات نظامية وفي مواجهة قوات غير نظامية خفيفة التسليح ولا مركزية القيادة كما خاض في الساحة السورية معارك متنوعة في جغرافياتٍ بريّةٍ مختلفة أكسبته مزيداً من الخبرة.

يتشابه المسرح العسكري الأوكراني مع السوري بعدد من النقاط:

  1. أنه مسرحٌ برّيٌ سهليّ (خاصة في الشرق والجنوب الشرقي الأوكراني) لا يواجه الروس فيه تضاريس وعرةً وقاسية.
  2. لا يوجد فيه قوة جويّة مكافئة أو دفاعات جوية متطورة وإن وجد فتفتقد للكثافة النارية والاستمرارية على المدى الطويل.
  3. خطوط الإمداد العملياتية الروسية متوسطة الطول ومن الممكن تغطيها.
  4. وجود عدد من السكان المحليين الموالين لروسيا والذي يقومون بعملية الدعم المعلوماتي واللوجستي.

يبقى الفرق الأبرز بين المسرح السوري والأوكراني هو أن القوات الروسية تواجه في المسرح الأخير خصماً يملك صواريخ متطورة مضادة للطيران ومضادة للدروع، ودعماً جيداً في عمليات التموين العسكري والمعلومات الاستخباراتية النوعية وهو ما سنذكر نتائجه على الأداء الروسي في أوكرانيا بعد قليل.

تطبيقات الخبرة الروسية في سوريا على مسرح الحرب الأوكرانية:

يظهر من خلال قراءة الخريطة العسكرية للحملة الروسية على أوكرانيا تقسيم الجيش الروسي أوكرانيا إلى خمسة مناطق عمليات رئيسية: شمالية “كييف”، شمالية شرقية “مدينة سومي”، شرقية “مدينة خاركيف ومدينة دونتسيك”، جنوبية شرقية “مدينة ماريبول”، وجنوبية “مدينة أوديسا”.

يظهر من التقسيم والأهداف السابقة اعتماد القوات الروسية في مسارها الإستراتيجي على جميع مسارح العمليات هذه على مذهب الجنرال السويسري أنطوان جوميني، والتي تعتمد في جوهرها على أن يعمل المهاجم على تحديد عدد من مراكز الثقل لدى المدافع ثم يسعى بعد تحديدها إلى عمل عسكري بهدف قطع التواصل فيما بينها ثم حصارها دون الهجوم عليها بشكل مباشر بالتزامن مع استغلال نقاط الضعف في كل مركز للهجوم والسيطرة عليه وفق تكتيكات سنذكرها لاحقاً. وهذا ما تم تطبيقه من القوات الروسية في سوريا منذ دخولها عام 2015 حيث عملت على قطع التواصل بين مراكز الثقل المعارضة لحكومة الأسد وحصارها ثم الاستفراد بها واحدةً تلو الأخرى كما جرى في درعا والغوطة الشرقية لدمشق وريف حمص الشمالي ومدينة حلب وادلب.

بعد أن استطاعت القوات الروسية تطبيق التوصيات السابقة على بعض مراكز الثقل مثل خاركيف وسومي وماريوبل بدأنا نلاحظ نيتها في تطبيق مذهب العسكري الإيطالي جوليو دوهيت، والتي توصي بالاعتماد في تحطيم الأمة داخل مراكز ثقل العدو على القوة الجوية بشكل غزير من خلال استهداف أهداف مدنية بالدرجة الأولى ثم عسكرية لتحقيق أهداف متتالية هي:

  1. تليين القوة النارية للمدافع.
  2. إيقاع خسائر كبيرة في صفوف المجتمع المدني الذي يعيش ويتحرك داخله العسكري المدافع.
  3. زيادة الضغط البشري على المرافق الحيوية وخاصة الطبية والغذائية مما يجعلها تستنفذ مدخراتها بسرعة أكبر ما يؤدي إلى تقصير العُمر المفترض للقدرة على الاستمرار بالدفاع.
  4. إجبار المدنيين على تشكيل قوة ضاغطة على القوات المُدافعة بهدف إيجاد حل عاجل وسريع لإيقاف القصف الجنوني الذي يتعرضون له.
  5. تشتيت تركيز القوة العسكرية المدافعة بين خط الإشتباك “الذي يضغط فيه المهاجم” والعمق الدفاعي الإستراتيجي لها “والذي يضغط فيه المدنيون والعملاء المحتملون للمهاجم”.

من خلال ما تم ذكره سابقاً نلاحظ تكرار الروس لنفس الأساليب التي اختبروها في سوريا ضد قوات المعارضة وأنتجت نجاحاً لهم في مدينة حلب والغوطة الشرقية لدمشق. 

أبرز ما دفع الروس إلى إعادة تدوير هذه الأساليب مايلي: 

  1.  تفوق الجيش الروسي بمستوى التسليح على الجيش الأوكراني.
  2.  الجيش الروسي ذو خبرة قليلة في المعارك داخل المدن والمناطق المأهولة بالسكان المعاديين لروسيا حيث إن تجربة حرب الشيشان الثانية عام 1991 كانت آخر تجاربه، ولذلك كان الاستلهام من التجربة السورية أقرب طريقة لتحقيق نصر بأدوات مضمونة مجرّبة.
  3.  الجيش الروسي خاض الحرب في سوريا ضمن تضاريس منخفضة الوعورة، وهذه الصفة التضاريسية وجدها في شرق وجنوب أوكرانيا.

كل مما سبق أقنع قادة الجيش الروسي بإعادة استعمال تكتيكاتهم في سوريا على      المسرح الأوكراني وأبرزها:

1.بيلتزكريغ:

استطاع الروس تطبيق هذا التكتيك بشكل ناجح على المحور الشمالي “محور كييف”، حيث وصل الروس خلال 40 ساعة إلى عمق 150 كم داخل الأراضي الأوكرانية مستفيدين من عنصر المفاجأة الذي أربك القوات الأوكرانية المُدافعة وأفقدها القدرة على المبادرة بالرد إلّا بعد 4 أيام من التقدم الروسي. وقد رأينا تطبيق الروس لهذا التكتيك في السيطرة على مطار كويرس شرق حلب نهاية عام 2017.

2.الإنزال:

استخدم الروس في هجومهم على أوكرانيا إنزالات بريّة وبرمائية، ووصل عدد الإنزالات التي تم رصدها من المصادر المفتوحة إلى أكثر من 25

استخدم الروس في هجومهم على أوكرانيا إنزالات بريّة وبرمائية، ووصل عدد الإنزالات التي تم رصدها من المصادر المفتوحة إلى أكثر من 25 إنزالاً نجح منها 6 أي 30% وفشل الباقي، وأبرز المواقع التي سيطر عليها الروس من خلال عمليات الإنزال محطة تشيرنوبل النووية ومطار هوستميل غرب كييف والتي انسحبوا منهما بعد 40 يوماً من المقاومة الأوكرانية. في سوريا اقتصر تنفيذ الروس لعمليات الإنزال على حملتهم في البادية الشامية ضد تنظيم الدولة في منطقة تدمر عام 2018 حيث كانت الإنزالات تتم غالباً في الليل وتقتصر على كونها انزالات تكتيكية.

3.الأسراب المروحية:

رصدت عدسات الكاميرات في أوكرانيا أسراباً من المروحيات الهجومية الروسية وهي تهاجم في ضواحي كييف، لم نستطع رصد أي نجاح استطاع الروس تحقيقه من هذه الأسراب باستثناء الدعم الناري الذي يقدمونه للقوات البرية المهاجمة في ضواحي مدينة كييف. كما رصدت عمليات مشابهة للروس في منطقة البادية أثناء حملات التمشيط ضد تنظيم الدولة حيث استفاد الروس من هذه الحملة في القيام ببعض الإصلاحات على مروحياتهم الهجومية.

4.الأمواج:

في مراكز الثقل الرئيسية التي تمكن الروس من إطباق الحصار عليها بدوءا باستخدام هذا التكتيك كما نرى في خاركيف، ماريوبل وسومي وكما رأيناه في حلب والغوطة الشرقية. يتضمن التكتيك ضرب المهاجم للمدافع بثلاثة أمواج متتالية بعد تقطيع المدينة المحاصرة إلى مناطق صغيرة وذلك لتحقيق الأهداف التالية:

الموجة الأولى للاستطلاع وكشف طبيعة تحصينات المدافع وأنواعها ومواقع السلاح فيها.

الموجة الثانية لتخريب أو تدمير هذه التحصينات ثم انشاء نقاط ضعف فيها، وإسكات واستنزاف مصادر نيران المدافع وجرِّها للظهور أكثر لتسهيل استهدافها.

الموجة الثالثة لتدمير تحصينات المدافع انطلاقاً من نقاط الضعف التي نشأت فيها نتيجة الموجتين السابقتين.

هذا التكتيك تم رصده بشكل واضح في السيطرة على مدينة حلب عام 2017.

تقييم مدى نجاح أو فشل الأساليب الروسية في الحرب الأوكرانية:

حققت القوات الروسية تقدماً ملحوظاً في مسارح العمليات بالاعتماد على تجربتها المكتسبة من الحرب السورية لكن بالمقابل واجهت القوات الروسية في أوكرانيا عدداً من العوائق التي لم تواجهها في سوريا ما أفقدت بعض تكتيكاتها فعّاليتها وحال دون تحقيق الأهداف المرجوّة منها كما أنه دفعها للانسحاب من محاور مهمة مثل كييف وخاركييف وسومي بهدف التركيز على المحاور الجنوبية والشرقية في اقليميّ دونباس ولوهانسك وماريوبل وشمال جزيرة القرم.

أبرز هذه العوائق:

  1. تربة راسبوتيتزا الأوكرانية:راسبوتيتزا هي تربة رخوة غير متماسكة القوام لا تستطيع الآليات الثقيلة السير عليها لهشاشتها. هذه التربة كانت سبب لإيقاف حركة عدد من منظومات الدفاع الجوي والآليات الروسية (الشكل 3)، إضافة لأنها كانت عامل رئيسي في دفع القوات الروسية إلى السير على الطرق المسفلتة ما جعل إمكانية استهدافها من قبل القوات الأوكرانية أكثر سهولة لأن توقع طرق مسيرها أصبح سهلاً.
  2. مجموعة الكتيبة التكتيكية BTG (الشكل 4):لا يوجد في القوام الرسمي للجيش الروسي هذا النوع من القوات وإنما استحدثها السوفييت في حربهم على أفغانستان ثم في حرب أوكرانيا بإقليمي دونباس ولوهانسك عام 2014 وأخيراً في الحرب السورية ممثلة بقوات الفرقة 25 مهام خاصة.يعاني هذا النوع من القوات من مشكلتين رئيسيتين:الأولى: أنها ليست مخصصة للسير والقتال لمسافات طويلة لأنها لا تملك قوات امداد وتموين قادرة على تغطية هذه المسافات وهذا ما شاهدناه من مشاكل واجهت القوات الروسية في مسألة الغذاء والمحروقات في مسرح عمليات خاركييف وسومي وكييف حيث اضطرت هذه التشكيلات على قطع مسافات تراوحت بين 150 إلى 300 كم. على العكس من سوريا حيث كانت المسافات لا تتجاوز 30 كم كما في معارك فك الحصار عن حلب أو الغوطة الشرقية لدمشق.الثانية: بحكم أنها قوات ليست من صنف واحد وإنما هجينة فإنها مع الفترة الزمنية الطويلة تعاني من مشكلة التواصل والتنسيق فيما بينها وخاصة في مسائل الاستطلاع والمَسِير والدفاع وهذا ما جعلنا نرى كميّة كبيرة من هذه القوات تتعرض للاستهداف بشكل متكرر من القوات الأوكرانية والسبب ضعفها في عملية الدفاع عن نفسها (الشكل 5) ما أدى لانعكاس أدائها على مجمل مسرح العمليات الشمالي والشمالي الشرقي.
  3. حرب المعلومات:استطاع الأوكرانيون التفوق على القوات الروسية المهاجمة في الحصول على المعلومة بشكل أسرع وأدق من خلال حلف شمال الأطلسي وشركات الأقمار الصناعية وأجهزة الاستخبارات الدولية ما جعل إمكانية تطبيقهم لحلقة OODA على المستوى التكتيكي أسرع من الطرف الروسي وبالتالي استباق الروس بخطوة في عدد من المحاور (الشكل 6) ما أدى لتراكم نجاح تكتيكي أوكراني أفضى في النهاية إلى اقفال مسارح عمليات روسية مثل مسرح عمليات كييف وخاركييف وسومي. بينما في سوريا كان الروس هم المتفوقين في مجال المعلومات وبالتالي متفوقين في تطبيق حلقة OODA مقارنة بقوات المعارضة السورية.