من الشرق الأوسط إلى أوروبا أي تكييف قانوني للمقاتلين الأجانب في النزاعات المسلحة؟

مقدمة: أعادت الحرب الروسية على أوكرانيا التي اندلعت في 24 فبراير/ شباط 2022 موضوع المقاتلين الأجانب إلى واجهة النقاش السياسي والقانوني، لا سيما بعد توالي تصريحات طرفي النزاع الروسي والأوكراني عن فتحهما المجال لاستقبال متطوعين أجانب للقتال إلى جانبهما، بل وإعلانهما عن الوصول الفعلي لعشرات الآلاف من المقاتلين إلى مناطق العمليات، وكان واضحًا حرص الطرفَيْن على استخدام مصطلح المقاتلين المتطوعين، وذلك لكي ينفوا عنهم أيَّ علاقة بالارتزاق والإرهاب، غير أن الذاكرة الجماعية القريبة لشعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال تستحضر الوصف والتصنيف بالارتزاق والإرهاب لكل أجنبي قدم مقاتلًا إلى مناطق النزاعات في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، حتى ولو لم يكن دافعه المغنم المادي وكانت تحرِّكه العواطف الدينية أو النزعات المذهبية، ويبدو المشهد الحالي متناقضًا مع ما حفظته الذاكرة الشرقية عن التعامل الغربي مع ملف المقاتلين الأجانب، حيث أصبحت الظاهرة الآن مرحبًا بها إعلاميًّا وسياسيًّا وقانونيًّا. لذا تحاول هذه المقالة الإحاطة بهذه الظاهرة من الناحية المفاهيمية وإزالة اللَّبس الحاصل حول مصطلحات: المقاتل الأجنبي المتطوع، والإرهابي، والمقاتل المرتزق؛ وذلك عبر الانتقال بين حقول معرفية قانونية متنوِّعة، كالقانون الدولي الإنساني، وقانون اللجوء إلى القوة، والقانون الدولي الجنائي، والتعاون الجنائي الدولي، والقوانين المحلية. ولعل تعارض هذه الحقول المعرفية القانونية فيما بينها في تناول المصطلحات الثلاثة هو ما فتح المجال واسعًا للخلط في توظيفها، لا سيما عندما دخلت عليها الأجندات السياسية، فتحوَّل استخدام مصطلح المرتزقة من القانون الدولي إلى القانون الداخلي (وهو دخيل عليه)، وانتقل مفهوم الإرهاب من القوانين المحلية والتعاون الجنائي الدولي إلى القانون الدولي (وهو مفهوم لم يحسم بعدُ في هذا الحقل)، كما استُدعي الآن مفهوم المقاتل المتطوع من داخل نصوص القانون الدولي الإنساني ليعمَّم على جميع الحقول المعرفية الأخرى، ويوظَّف سياسيًّا ودعائيًّا بشكل ملحوظ.

ومن شأن تحرير مفهوم المصطلحات الثلاثة ضبطُ البوصلة القانونية، والتخفيف من الازدواجية والتسييس اللذين تلجؤ إليهما الدول من نزاعٍ إلى آخر بما يخدم مصالحها، بل إن هذه الورقة تطمح إلى قلب معادلة تأثير السياسي في القانوني، والانتقال إلى تأثير القانوني في السياسي، الذي يتجلَّى في الاهتمام أكثر فأكثر بتدقيق وضبط المحتوى القانوني للتصريحات السياسية والدبلوماسية التي تصدر في أثناء الأزمات الدولية والنزاعات المسلحة.

وتحاول هذه الورقة كذلك أن تُسهم في إثراء النقاش الفقهي والقانوني حول المصطلحات الثلاثة، لا سيما أن الحقول المعرفية التي تتناولها حقول متداخلة، وهو ما يجعل تحرير المدلول أكثر تعقيدًا، ولعل أبرز نتيجة بحثية خرجت بها هذه الورقة هي تتبع حركية المصطلحات الثلاثة بين فروع القانون المختلفة والتعليق على مكامن الخلل في أثناء هذه الحركة، مما يفتح المجال نحو تسييس توظيفها تبعًا لمصالح الدول.

المدلول القانوني لمصطلح الإرهاب 

الأصل العام في معظم جرائم الإرهاب هو تكييفها على أساس أنها جرائم للقانون العام، والمقصود بذلك أنها جرائم محلية تُقنِّنها القوانين الجنائية الداخلية للدول، أو تفرد لها قوانين داخلية خاصة كما أصبح شائعًا على المستوى العالمي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنطلق ذلك أن غالبية الجماعات التي تعتمد العمليات الإرهابية وسيلةً للتغيير والتعبير السياسي، عادةً ما تنشط داخل إقليم الدولة، ومن ثَمَّ فهي تخضع للقانون الداخلي لها.

وينصرف مصطلح الجريمة المنظَّمة دائمًا إلى جرائم بعينها، يكون من أبرز خصائصها أنها تتجاوز حدود إقليم الدولة، فتصبح بذلك عابرةً للحدود، ولكن إذا علمنا أن تفعيل التعاون الجنائي بين الدول من أجل مكافحة هذا النوع من الجرائم لا يتم دون أن تكون كل دولة على حدةٍ قد جرَّمت ضمن قانونها الداخلي نوعَ الجريمة المنظَّمة المراد التنسيق بخصوصها، اتضح أن جرائم القانون العام ضمن سياق القوانين الداخلية هي الإطار المشترك الذي تلتقي فيه الجريمة المنظَّمة وجرائم الإرهاب. وكلما تخطَّت جرائم القانون العام حدودَ دولة ما، تحوَّلت إلى جريمة منظَّمة لا يستطيع أن يطالها القانون الداخلي للدولة الذي تحكمه إكراهات مبدأ إقليمية القوانين الجنائية، ودون أن تستنجد القوانين الداخلية بالتعاون الجنائي الدولي لا يمكن لأجهزة القضاء المحلية أن تتابع وتطال مرتكبي الجريمة المنظَّمة.

يتمثَّل التعاون الجنائي الدولي في مجموعة من الاتفاقيات الثنائية والمتعدِّدة الأطراف التي وضعتها الدول من أجل التنسيق فيما بينها لمكافحة الجريمة المنظَّمة، وأبرز مثال على هذا النوع من الاتفاقيات هو اتفاقيات التعاون القضائي، واتفاقيات تسليم المجرمين بين الدول، وضمن مجال التعاون الجنائي الدولي تلتقي كلٌّ من الجريمة المنظَّمة وجرائم الإرهاب، ولعل إفراد منظمة الشرطة الدولية الجنائية (الإنتربول) -وهي أبرز منظمة دولية حكومية لمكافحة الجريمة المنظَّمة العابرة للحدود على المستوى العالمي- في مجال جرائم الإرهاب كفرع أساسي من الجرائم المنظَّمة التي ينصبُّ عملها عليها، لخيرُ دليل على هذا التلاقي بين الجريمة المنظَّمة وجرائم الإرهاب العابرة للحدود. 

أما نقاش التعارض بين الجريمة المنظَّمة وجرائم الإرهاب فيقودنا مباشرةً إلى سياق النزاعات المسلحة التي ينطبق عليها القانون الدولي الإنساني، حيث يُعَدُّ هذا الأخير فرعًا من فروع القانون الدولي، الذي يُطبق عندما تصل أعمال العنف إلى مستويات النزاعات المسلحة بشقيها اللذين يعترف بهما هذا القانون، وهما: النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة غير الدولية، ورغم أننا لا نعثر على تعريفٍ للإرهاب ضمن مواد القانون الدولي الإنساني، فإن كل الأعمال التي تُرتكب في أثناء النزاعات المسلحة وتُعَدُّ إرهابية إذا ما ارتكبت زمن السلم، هي أعمال تحظرها صكوك القانون الدولي الإنساني كذلك، ولكن إذا كان القانون الدولي الإنساني لا يقدم تعريفًا للإرهاب، فهل يشير إليه ضمن صكوكه على الأقل؟

يشير القانون الدولي الإنساني تحديدًا إلى ما يُسمَّى بـ “الأعمال الإرهابية” و”التدابير الإرهابية”، حيث تنصُّ اتفاقية جنيف الرابعة في المادة 33 على “حظر العقوبات الجماعية، وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب”،  في حين يحظر البروتوكول الإضافي الثاني في مادته الرابعة “أعمال الإرهاب” ضد الأشخاص الذين يشتركون بصورة مباشرة أو الذين يكفون عن الاشتراك في الأعمال العدائية، والهدف الرئيس من ذلك هو التأكيد على وجوب عدم تعريض الأفراد أو السكان المدنيين لعقوبات جماعية، التي تفضي -من بين أمور أخرى- إلى وجود حالة من الرعب.

ووفقًا للبروتوكولَيْن الإضافيَّيْن لاتفاقيات جنيف، تُحظر الأفعال التي تهدف أيضًا إلى نشر الرعب بين السكان المدنيين، فالمادة 51/2 من البروتوكول الأول والمادة 13/2 من البروتوكول الثاني لا تجيزان “أن يكون السكان المدنيون بوصفهم هذا وكذا الأشخاص المدنيون محلًّا للهجوم، وتحظر أعمال العنف أو التهديد به الرامية أساسًا إلى بثِّ الذعر بين السكان المدنيين”.

وتشكِّل هذه الأحكام عنصرًا أساسيًّا من قواعد القانون الدولي الإنساني التي تنظِّم سَير العمليات العدائية، كما تحظر أعمال العنف في أثناء النزاعات المسلحة التي لا توفر ميزة عسكرية ملموسة، ومن المهم مراعاة  أنه حتى الهجوم على أهداف عسكرية مشروعة يمكن أن ينشر الخوف في صفوف المدنيين، ومع ذلك، تُحرم هذه الأحكام الهجمات التي تهدف إلى ترويع المدنيين على وجه التحديد، كحملات القصف أو القنص للمدنيين في المناطق الحضرية على سبيل المثال.