ملخص تنفيذي: تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا وما صاحبه من تدافع أوروبي لإيجاد مصادر بديلة عن الغاز الروسي في تشكل خريطة جديدة للطاقة العالمية، تحتل فيها منطقة شرق المتوسط مساحة بارزة لما تمتلكه من احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي التي تم اكتشافها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. الأمر الذي دفع غالبية دول شرق المتوسط إلى وضع خطط طموحة للاستثمارات في التنقيب والإنتاج والنقل للهيدروكربونات ضمن استراتيجياتهم الرئيسية في مجال الطاقة لتحقيق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية على المدى القريب والمتوسط. علاوة على ذلك، تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في زيادة الأهمية الجيوسياسية لبعض بلدان شرق المتوسط، لاسيما تركيا واليونان بسبب موقعهما الذي يمثل البوابة الشرقية الجنوبية للقارة الأوروبية والمنفذ الوحيد للبحر الأسود.

نتيجة لذلك، فإن الهدوء الذي شهدته منطقة شرق المتوسط في العاميين الماضيين يبدو أنه لن يستمر طويلا، الأمر الذي تؤكده عدة شواهد برزت في الشهور القليلة الماضية؛ بداية من تصاعد التوترات بين تركيا واليونان إلى بوادر عدم التوافق بين مصر وتركيا في أعقاب إعلان الأخيرة عن اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز مع ليبيا، ومرورا بالمفاوضات المعقدة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. بينما ستكون المنافسة على مصادر الطاقة هي المحرك الرئيسي لتصاعد التوتر في المنطقة في المدى القصير والمتوسط.

أزمة الطاقة في أوروبا: لا حلول عاجلة

على مدى العقدين الماضيين، استخدمت روسيا صادرتها الضخمة من الغاز الطبيعي لأوروبا، كسلاح جيوسياسي أو كأداة للضغط أثناء أزماتها المتكررة مع أوكرانيا خلال عامي 2006 و2009 وأثناء التدخل العسكري الروسي في شبة جزيرة القرم عام 2014، وذلك عبر التهديد بقطع أو خفض إمدادات الغاز الطبيعي إلى دول الاتحاد الأوروبي، مستهدفة من وراء ذلك دفع أوروبا إلى الحياد بشأن أزمات روسيا مع أوكرانيا، وكذلك قطع الطريق عن أي عقوبات يسعى الاتحاد الأوروبي لفرضها على موسكو.

بالرغم من السياسات التي سعى الاتحاد الأوروبي لاقرارها في السنوات الماضية لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي من خلال استراتيجية التنويع (Diversification Strategy) والتي أعلنها في 2014 ودعمت تنويع إمدادات الغاز المتدفقة إلى أوروبا،[i] ومع ذلك لم تؤدي تلك السياسات الهدف المنشود ووصل حجم الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي إلى حوالي 40% من احتياجات القارة في 2021،[ii] بالإضافة إلى إصرار ألمانيا على زيادة وارداتها من الغاز الروسي للحد الذي أصبحت فيه المستهلك الأكبر للغاز الروسي في أوروبا، حيث تحصل على 55% من احتياجتها من روسيا.[iii] كما لم تتخلى برلين عن مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي يصل بين روسيا وألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، إلا قبل وقت قليل من الغزو الروسي لأوكرانيا.

خلال الفترة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، واصلت روسيا استخدام سلاحها المفضل والأكثر تأثيراً عبر خلق أزمة طاقة حادة داخل أوروبا، بعد أن خفضت امدادت الغاز للقارة تحت مزاعم أعمال الصيانة والمشكلات الفنية التي تمنع التدفقات الاعتيادية للغاز. استهدفت موسكو من تلك الخطوة الاستباقية للغزو تقويض أي مساعي أوروبية لفرض عقوبات على موسكو بعد التدخل العسكري للأخيرة في أوكرانيا، حيث سيكون على الاتحاد الأوروبي مواجهة أزمات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق أمام رد الفعل الروسي المتوقع بمواصلة خفض تدفقات الغاز إلى أوروبا أو قطعها نهائياً.

سارعت أوروبا مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية إلى انهاء مخاطر الاعتماد على الغاز الروسي حيث نشرت المفوضية الأوروبية في مايو/آيار الماضي الاستراتيجية التي تحدد مسار الاتحاد الأوروبي للاستقلال عن الوقود الأحفوري الروسي بحلول عام 2027 (REPowerEU).[iv] وبالرغم من المحاولات الجادة التي سعت إليها غالبية دول الاتحاد الأوروبي للمضي قدما في الاستراتيجية الأوروبية واستبدال إمدادات الغاز الروسي بمصادر أخرى متنوعة في أسرع وقت؛ إلا ان ثمة تحديات رئيسية تمنع تحقيق ذلك الهدف في المدى القصير، وتشمل تلك التحديات:

أولاً، لن تستطيع أوروبا تحقيق استراتيجيتها للاستغناء عن الغاز الروسي المتدفق عبر شبكة واسعة النطاق من خطوط الأنابيب؛ إلا عن طريق استقبال كميات ضخمة من الغاز المسال (LNG) القادم عبر ناقلات بحرية من كبار مصدري الغاز المسال عالمياً. بينما تتسم البنية التحتية القادرة على استقبال الغاز المسال في أوروبا بمحدوديتها، إذ لا تمتلك أوروبا في الوقت الراهن سوى 24 محطة لاستقبال الغاز المسال وإعادة تحويله إلى حالته الغازية (Regasification Plant)، [v] وهو ما يلبي حوالي نصف احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز. [vi] نتيجة لذلك، تُسارع معظم دول الاتحاد الأوروبي خطواتها نحو تشييد محطات عائمة لاستقبال الغاز المسال (FSRU)، والتي يستغرق انشائها وقت أقل من المحطات الأرضية، وتخطط ألمانيا وحدها بعد أن أصدرت قانون لتطوير عاجل للبنية التحتية للغاز المسال،[vii] لإنشاء خمس محطات عائمة وثلاث أرضية.[viii] ومع ذلك ووفقا للتوقعات،[ix] فإن البنية التحتية للغاز المسال في أوروبا لن تكون قادرة على تلبية احتياجات القارة من الغاز بشكل كامل قبل حلول عام 2030.

ثانياً، سيظل فائض السعة التصديرية لأسواق الغاز المسال العالمية محدوداً حتى منتصف العقد الحالي، ويعود ذلك إلى سببين رئيسيين:

 معظم الطاقة التصديرية لكبار مصدري الغاز المسال عالمياً مقيدة بعقود طويلة الأجل، خاصة مع السوق الآسيوية التي تعد السوق الرئيسية المتنامية للغاز الطبيعي والمسال. على سبيل المثال، تلتزم قطر -المُصدر الأول للغاز المسال عالمياً- بنحو 70% من صادراتها بعقود طويلة الأجل مع عملاء آسيويين، في حين لن تستطيع قطر إمداد أوروبا في الوقت الحالي إلا بحوالي من 10% إلى 15% فقط من إجمالي صادراتها،[x] إلى أن تنتهي من أعمال التوسعة في حقلها الشمالي بحلول عام 2027.[xi]

 لن تكون أقرب زيادة ملموسة في الانتاج العالمي للغاز المسال قبل بداية عام 2025، حيث ان زيادة الانتاج من الغاز الطبيعي تحتاج إلى استثمارات تستغرق عدة سنوات، على سبيل المثال، تقوم الولايات المتحدة في الوقت الراهن بإنشاء ثلاث محطات تسييل للغاز الطبيعي على الساحل المطل على خليج تكساس، ومن المتوقع أن يتم تشغيلها مع بداية عام 2025، بحيث تساهم في زيادة القدرة التصديرية لأسواق الغاز المسال العالمية بنحو 5.7 مليار قدم مكعب يومياً.[xii] علاوة على ذلك، فإن واحدة من أكبر محطات التسييل العالمية التي تقوم روسيا بإنشائها في القطب الشمالي (Arctic LNG 2)، لن يبدأ إنتاجها من الغاز المسال كما كان من المفترض في نهاية العام الجاري، وبسبب العقوبات الغربية وانسحاب جميع الشركات الأجنبية من المشروع الضخم؛ سيتأخر العمل بالمحطة حتى نهاية عام 2023 في أفضل التقديرات.[xiii]

أوروبا تعيد النظر إلى شرق المتوسط

على الجانب الآخر ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، واصلت موسكو ضغوطها على الاتحاد الأوروبي من خلال تقليص صادرات الغاز المتجه إليه بشكل تدريجي، حتى وصلت في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي بمد أوروبا ب 9% فقط من احتياجاتها من الغاز، انخفاضا من 40% في العام الماضي. [xiv] انعكست تخفيضات الغاز الروسية بشكل مباشر على أسعار الطاقة في أوروبا، حيث تضاعفت 10 مرات مقارنة بمتوسط الأسعار خلال العقد الماضي[xv]، وهو ما انعكس سلبا على الاستقرار الاجتماعي في أوروبا ودفع حكوماتها للتدخل وتوجيه مئات المليارات من الدولارات كإعانات للشركات والأسر المتضررة. على سبيل المثال، أعلنت ألمانيا عن خطة طوارئ[xvi] بقيمة 200 مليار يورو للمساعدة في تخفيف أثر ارتفاع أسعار الطاقة على المستهلكين وأصحاب المصانع.

نتيجة إلى ذلك، تحركت أوروبا في مسارين متوازيين، أحدهما على المدى القريب لمواجهة مخاطر نقص الطاقة في الشتاء القادم (2022-2023)، وهو ما اقتربت الكتلة الأوروبية من تحقيقه بشكل كبير، إذ استطاعت أن تصل بمستويات تخزين[xvii] الغاز للحد الذي يؤمِّن نسبياً الاستهلاك في شهور الشتاء المقبلة، ولكن سيبقى التهديد الأكبر في حال إذا ما قررت روسيا قطع جميع إمداداتها من الغاز عن أوروبا خلال فصل الشتاء. أما المسار الآخر، فتسعى أوروبا من خلاله إلى عقد صفقات غاز وتطوير لبنيتها التحتية على المدى المتوسط والبعيد، وفي هذا الإطار، عقد الاتحاد الأوروبي وحكوماته صفقات[xviii] لكميات غاز إضافية خلال السنوات المقبلة مع قطر وأمريكا والنرويج والجزائر وأذربيجان، كما توجه الاتحاد الأوروبي إلى منطقة شرق المتوسط لتصبح واحدة من الأماكن التي سيعول عليها لتأمين إمدادات الغاز في الفترة المقبلة.[xix]

ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل: مفاوضات معقدة واتفاقية استثنائية

دفع الاهتمام الأوروبي المتزايد بشأن احتياطات الغاز في منطقة شرق المتوسط، إسرائيل التي تمتلك احتياطات غاز هائلة في حقلي ليفاثين وتمار إلى اتخاذ خطوات جادة وعاجلة لاستثمار الفرصة السانحة،[xx] وذلك من خلال مسارين رئيسيين، أحدهما يستهدف تعظيم إنتاج الغاز الإسرائيلي عبر جذب وتشجيع شركات الطاقة العالمية للقيام بأعمال الاستكشاف والانتاج للهيدروكربونات في مناطق جديدة أمام السواحل الإسرائيلية. والآخر يستهدف زيادة صادرات الغاز الإسرائيلية إلى الاتحاد الأوروبي عبر إيجاد مسارات أخرى بجانب المسار المصري الذي ينقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تسييله في محطتي تسيل الغاز المصريتين، إدكو ودمياط.

ولا تتوقف المساعي الإسرائيلية لتعظيم الانتاج وزيادة صادرات الغاز الطبيعي على تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة فحسب، ولكن الأهم من ذلك أن تصبح إسرائيل واحدة من ضمن البدائل التي ستعتمد عليها أوروبا للاستغناء عن الغاز الروسي في السنوات القليلة القادمة؛ الأمر الذي سيمنح إسرائيل موطئ قدم في خريطة الطاقة الجديدة التي تتشكل في أوروبا، ويعزز نفوذها داخل الاتحاد الأوروبي.

تواجه لبنان التي تستورد جميع احتياجتها من الطاقة أزمة كهرباء حادة خلال العام الجاري، حيث تعاني غالبية الأحياء اللبنانية من انقطاع شبه كامل للتيار الكهربائي والاعتماد على شركات المولدات الخاصة ذات الفواتير عالية التكلفة[xxi]. وبالرغم من سعي لبنان لايجاد حلولة عاجلة لأزمة الكهرباء عبر صفقة غاز مع مصر ومشروع الربط الكهربائي مع الأردن، ومع ذلك فإن أي من الصفقتين لم يبدأ تنفيذهما بعد بسبب عقبات تمويلية، مما ساهم في تفاقم أزمة الكهرباء وجعلها واحدة من التحديات الرئيسية التي تواجه حكومة تصريف الأعمال اللبنانية في الشهور الأخيرة.

تشير هذه التطورات إلى الدوافع الرئيسية لكل من لبنان وإسرائيل للمضي قدما في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية المتنازع عليها منذ ما يقرب من العقد من الزمان[xxii]. علاوة على ذلك، لم تكن الطاقة وحدها هي الدافع الوحيد وراء إحياة مفاوضات الحدود البحرية بين الجانبين، إذ ساهمت الأزمات السياسية في كلا البلدين في تحفيز الأطراف السياسية إلى الوصول لتسوية بشأن المياه المتنازع عليها. [xxiii] في لبنان، سعى الرئيس “ميشيل عون” -الذي انتهت ولايته غير القابلة للتجديد في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي- إلى تحقيق إنجار في ملف الطاقة قبل مغادرته للسلطة، خاصة مع تكرار فشل البرلمان اللبناني في انتخاب رئيس جديد، وتزايد التوقعات بحدوث فراغ رئاسي يمكن أن يدوم طويلاً، في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها لبنان منذ تفجيرات مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020. كذلك في إسرائيل، حاول رئيس الوزراء “يائير لابيد” الذي خسر منصبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة – وهي الانتخابات الخامسة في أقل من أربع سنوات شهدت خلالهما إسرائيل خلافات سياسية وانتخابات مبكرة متتالية – التعجيل بتحقيق إنجاز ملموس يرفع من أسهم فوزه قبل إجراء الانتخابات.

حدود بحرية متنازع عليها منذ عقد

يعود النزاع على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى عام 2010 عندما تقدمت لبنان بطلب إلى الأمم المتحدة لتحديد الحدود البحرية (المنطقة الاقتصادية الخالصة EEZ) مع إسرائيل.[xxiv] ووفقا للتصور اللبناني فإن حدودها البحرية مع إسرائيل تبدأ بخط ينطلق من رأس الناقورة – البلدة التي تحدد الحدود البرية الساحلية بين لبنان وإسرائيل – ويمتد بطول 133 كم في مياه المتوسط حتى النقطة 23، ويعرَّف التصور اللبناني بالخط 23، الخريطة رقم (1). بينما أعلنت إسرائيل في منتصف عام 2011 عن تصورها لحدودها البحرية مع لبنان، حيث انطلقت بخط يبدأ من رأس الناقورة وينتهي شمال شرق النقطة 23 بحوالي 17 كم، ويعرَّف التصور الإسرائيلي بالخط 1. نتج عن اختلاف التصورين لكلا البلدين مثلث صغير من المياه المتنازع عليها يبلغ مساحته حوالي 860 كم2، الخريطة رقم (1).

صراعات مؤجلة ١

الخريطة رقم (1): المثلث باللون البني يوضح منطقة المياه المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل[xxv]

قامت الولايات المتحدة بدور الوساطة منذ عام 2012 للوصول لتسوية للحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ولكن لم تكلل جهودها بتقدم في ملف المفاوضات. بل إن الأزمة بين البلدين اشتعلت مرة أخرى في عام 2018 وذلك بعد أن حصلت شركة “توتال” الفرنسية بالمشاركة مع شركتي “إيني” الإيطالية و “نوفاتيك” الروسية على حقوق الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في منطقة “بلوك 9” اللبنانية والتي تمتد داخل المياه المتنازع عليها. وتسبب تجدد النزاع حول الحدود البحرية بين الجانبين في تأجيل شركة “توتال” للبدء في العمل بـ “بلوك 9” حتى هذه اللحظة. لم يتوقف النزاع عند هذا الحد، ولكن غيّرت لبنان موقفها في نهاية عام 2020 أثناء المفاوضات التي حاول الرئيس الأمريكي السابق ترامب إنجازها قبل مغادرته للبيت الأبيض، وطالبت لبنان بمنطقة اقتصادية أكبر من خلال تغيير النقطة 23 إلى النقطة 29 فيما يعرف بالخط 29؛[xxvi] مما أدى إلى زيادة المنطقة المتنازع عليها إلى حوالي 1430 كم2، الخريطة رقم (2).

صراعات مؤجلة ٢

الخريطة رقم (2): توضح اتساع المنطقة الاقتصادية التي ‘طالبت بها لبنان في 2020[xxvii]