العمليات السيبرانية في الحرب الروسية الأوكرانية طبيعتها وأنماطها العمليات السيبرانية في الحرب الروسية الأوكرانية طبيعتها وأنماطها ٢

ملخَّص: تسلِّط هذه الورقة الضوءَ على الجبهة السيبرانية في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا التي اشتعلت في 24 فبراير/شباط 2022، وذلك من خلال تناول الاستراتيجيات العامة للعمليات السيبرانية وطبيعتها وأبرز التكتيكات التي اتبعها الجانبان. وقد تناولت الورقة البحث من خلال تقسيمه إلى قسمَيْن رئيسَيْن: القرصنة الخشنة التي تستهدف الشبكات الإلكترونية للبنية الحيوية العسكرية والمدنية على حدٍّ سواء من خلال تعطيلها وإخراجها عن الخدمة أو التحكُّم بها، والقرصنة الناعمة التي تستهدف التأثير في معنويات الخصم وقناعاته وتصوراته.

وقد بات موضوع العمليات السيبرانية يحظى بالمزيد من الاهتمام في الدوائر السياسية والأكاديمية والاستراتيجية بسبب الاعتماد المتزايد على شبكة الإنترنت وانتشارها، فضلًا عن انتشار تطبيقاتها، مثل منصات التواصل الاجتماعي، بحيث باتت البنية الحيوية المدنية والعسكرية وحتى الاجتماعية لأي دولة معتمدةً اعتمادًا كاملًا على شبكة الإنترنت في عمليات التشغيل والتنفيذ والاتصال. وبناءً على هذه الأهمية، باتت كل دولة تحظى بجيش سيبراني أو وحدات سيبرانية تختصُّ بالهجوم والدفاع. وبات الفضاء السيبراني المجال الخامس في الحروب مضافًا إلى المجالات التقليدية الأخرى: البرية والبحرية والجوية والفضائية.

وتثير الورقة تساؤلَيْن جوهريَّيْن: هل لجأت الأطراف المتحاربة إلى توظيف العمليات السيبرانية في عملياتها الحربية؟ وما هي طبيعة هذه العمليات السيبرانية، والاستراتيجيات والتكتيكات التي اتبعتها هذه الأطراف؟

وقد أظهرت الدراسة الاهتمامَ الذي أولته الجهات المتحاربة للجبهة السيبرانية، وهو ما يعزز من أهمية هذه الجبهة في المجهودات الحربية. وعلى عكس ما شاع في بداية الحرب من أن الجبهة السيبرانية لم تكن حاضرة، فإن الورقة تثبت أن العمليات السيبرانية قد شُنَّت على نطاق واسع، واستخدمت العديد من الاستراتيجيات والتكتيكات، سواء الهجومية منها أو الردعية، لتحقيق الأهداف المرجوة.

ونظرًا لهذا التنوع الواسع في استخدام هذه الاستراتيجيات والتكتيكات المتبعة من الأطراف المتحاربة، فقد خلصت الورقة إلى أن الحرب السيبرانية لا ينبغي إخضاعها لشروط الحروب الأرضية ومقاييسها، لتجنُّب الوقوع في الاختزال وسوء التقييم. فالحرب السيبرانية هي مجال قائم بحدِّ ذاته. وهذا لا ينفي جواز توظيف الهجمات السيبرانية في دعم مجهود الحرب الأرضية. كما أن الحرب السيبرانية لا تقتصر على الهجمات الإلكترونية ضد الشبكات، بل تشمل أيضًا حروب الدعاية والتضليل وبثّ الأخبار الكاذبة للتأثير في معنويات الخصم وقناعاته. فالحرب السيبرانية هي طيفٌ يشمل جميع العمليات التي تقع بين طرفَيْن: حرب الشبكات، وحروب الدعاية.

المقدمة العمليات السيبرانية في الحرب الروسية الأوكرانية طبيعتها وأنماطها

اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر فبراير/شباط 2021، لتضع العالم أمام حقائق جديدة. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تحدث حربٌ بين دولتَيْن كبيرتَيْن متجاورتَيْن في أوروبا. وستدفع هذه الحرب العديد من منظري العلوم السياسية والعلاقات الدولية إلى التفكير من جديد في الكثير من الحقائق والمسلَّمات التي سادت في العقود الأخيرة. ولن تكون الحرب السيبرانية بمعزلٍ عن عملية إعادة التفكير هذه.

والسبب في ذلك يعود إلى أن هذه الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا تكتسب أهميةً خاصةً من حيثُ العمليات السيبرانية، لامتلاك البلدين عددًا كبيرًا من المتخصِّصين في تكنولوجيا المعلومات والأمن، ومراكمتهما الخبرة في مجال العمليات السيبرانية على مدار سنوات طويلة. فروسيا تُعَدُّ واحدة من أبرز الدول في العالم توظيفًا للعمليات السيبرانية في سياستها الخارجية، في حين عملت أوكرانيا بشكلٍ حثيثٍ على تطوير بنيتها التحتية الرقمية لمواجهة المخاطر الروسية، خصوصًا بعد الهجمات التي ضربت شبكة الكهرباء في عام 2015.

إن جوهر العمليات السيبرانية هو المعلومات، فهي عمليات تُشَنُّ باستخدام الشبكات المعلوماتية للحصول على البيانات أو إتلافها أو حجبها، أو هي عمليات تُشَنُّ بواسطة المعلومات لحرمان الخصم من الاستفادة من مصادر قوته والنيل من عزيمته. وفي الوقت الذي كانت العديد من منطلقات فهم العمليات السيبرانية تُبنى على افتراضات وسيناريوهات متوقَّعة، فإن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا توفر مثالًا تجريبيًّا لاختبار هذه الافتراضات ومعرفة مدى أهليتها النظرية.

على مدار سنوات، برزت أوكرانيا كواحدة من أكثر الجهات التي استهدفتها روسيا بعملياتها السيبرانية التي شملت اختراق الشبكات الإلكترونية الحيوية وإخراجها من الخدمة، ومحاولة التأثير في الانتخابات الأوكرانية من خلال عمليات التضليل وبثِّ الأخبار الكاذبة. وقد أدى وقوع أوكرانيا تحت التهديد السيبراني المتواصل من قِبَل روسيا إلى تطوير آليات الردع السيبرانية، التي أسهمت إسهامًا كبيرًا في توفير بيئة رقمية أكثر مرونةً في التعامل مع الهجمات السيبرانية من ناحية تحييدها أو التخفيف من أضرارها الجانبية من ناحية أخرى.

وقد برزت الحرب الدائرة حاليًّا بوصفها مثالًا واضحًا على توظيف كلٍّ من روسيا وأوكرانيا للعمليات السيبرانية في تحقيق أهدافهما الاستراتيجية. وقد تنوَّعت هذه العمليات بين عملياتٍ هجومية وأخرى دفاعية. كما برز مفهوم الردع الشامل بوصفه واحدًا من أهم الاستراتيجيات في التصدي للبرمجيات الخبيثة وعمليات التلاعب والتأثير.

ونظرًا لأن روسيا كانت الطرف الذي بدأ الحرب، فقد كانت أكثر توظيفًا للعمليات السيبرانية الهجومية. وقد شملت هذه العمليات استهداف شبكات البنية الحيوية المدنية والعسكرية، والمواقع الإلكترونية لقطاعات واسعة في أوكرانيا، هذا فضلًا عن عمليات التلاعب والتأثير وبثِّ الأخبار الكاذبة، التي حاولت الإتيان على الروح المعنويَّة للأوكرانيين من خلال تصويرهم ضعفاء وينشدون الاستسلام.

وفي الوقت الذي لجأت فيه أوكرانيا إلى بعض الاستراتيجيات الهجومية، كما هو الحال في إنشاء جيش أوكرانيا السيبراني، فإن غالبية عملياتها أخذت طابعَ الدفاع والردع. وقد أثبتت أوكرانيا أن مفهوم الردع الشامل، الذي يتبنَّى تكتيكات تعزيز قدرات الدفاع الذاتية، وبناء تحالفاتٍ بين القطاعات الخاصة والحكومية من جهة، وتحالفاتٍ مع حكومات ومنظمات دولية من جهة أخرى، قابلٌ للتطبيق ويمنح الأطراف مرونةً في التعاطي مع الهجمات السيبرانية.

وقد برعت أوكرانيا أيضًا في تكتيكات حروب الدعاية والتأثير، حيث وظَّفت هذه التكتيكات في دعم سرديتها عن الحرب من جهة، وبثِّ روح العزيمة والصمود في الحاضنة الأوكرانية من جهة أخرى. وقد كان ذلك واضحًا من خلال الدخول الكثيف للرئيس الأوكراني على خطِّ هذه التكتيكات من خلال الفيديوهات التي كان يخرج بها على شعبه بشكل مباشر من شوارع العاصمة كييف عبر تطبيقات منصات التواصل الاجتماعي، مثل تيك توك. هذا فضلًا عن عدد المتطوعين السيبرانيين الذي أبدوا استعدادهم للإسهام في تنفيذ هجماتٍ سيبرانية نيابةً عن الجانب الأوكراني. 

إن دراسة العمليات السيبرانية في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا تُعَدُّ أمرًا جوهريًّا لتعزيز فهمنا لظاهرة الحرب في عصر الإنترنت، حيث باتت الوسائل والأدوات الإلكترونية مرتبطةً بشكلٍ عضويٍّ في أي عملٍ حربيّ. وقد اعتمدت الورقة، التي ركَّزت على الفترة الممتدَّة منذ انطلاق العمليات العسكرية في 24 فبراير/شباط 2022 حتى منتصف شهر نيسان/إبريل 2022، على منهجية التحليل المقارن بين العمليات العسكرية التي شنَّتها روسيا، وتلك التي شنَّتها أوكرانيا، من أجل التعرف إلى طبيعة هذه العمليات وأنماطها، والاستراتيجيات والتكتيكات التي اتُّبِعَتْ في تنفيذها.

وقد تجنَّب التحليلُ البحثَ في نتائج هذه العمليات والآثار التي ترتَّبت عليها، وذلك لأسباب أهمها أن الحرب لم تنتهِ بعدُ، حيث ما زال هناك نافذة لتصعيد العمليات السيبرانية على صعيدَي النطاق والأهداف. فالعمليات العسكرية على الأرض ما زالت قائمةً، وهو ما يُصعب من عملية رصد التأثيرات المحتملة للعمليات السيبرانية. هذا من جانب، أما من جانبٍ آخر فالأمر يعود إلى طبيعة العمليات السيبرانية التي تحدث عادةً في الخفاء ولا يتم الكشف عن المدى الذي وصلت إليه وحجم الضرر الذي أوقعته في الخصم، وهو ما يجعل قياس تأثير هذه العمليات أمرًا في غاية الصعوبة.

تذهب الورقة في اتجاه افتراض رئيس، هو أنه على عكس ما ادعى العديد من الخبراء والمراقبين بأن العمليات السيبرانية كانت هامشيةً في الصراع الجاري حاليًّا بين روسيا وأوكرانيا، فإن الورقة تجادل -على العكس من ذلك- بأن الاعتماد على شنِّ الهجمات السيبرانية كان اعتمادًا كبيرًا وواسعًا، وفي صلب الاستراتيجية الحربية لدى الطرفَيْن. والشاهد على ذلك:

1- كثافة شن العمليات: حيث بلغ حجم العمليات المئات في الفترة القصيرة التي ترصدها الورقة، والتي لا تتعدى الشهرين من عُمر الحرب.

2- توقيت العمليات: حيث شُنَّت العديد من العمليات قبيل العمليات العسكرية الأرضية ومع بدايتها.

3- تنوع العمليات: حيث شملت العمليات السيبرانية العديد من أوجه الحرب السيبرانية، سواء تلك التي تتعلَّق بقرصنة الشبكات الحيوية أو المواقع الرسمية والمالية، أو تلك التي تستهدف التأثير في تصورات الأشخاص وعقولهم عبر عمليات التلاعب وبثِّ الأخبار الكاذبة.

تتضمَّن الورقة بالإضافة إلى المقدمة ثلاثة أجزاء وخاتمة. يناقش الجزء الأول المفاهيم الرئيسة للحرب السيبرانية من خلال إبراز التعريفات الأكثر شمولًا في الموضوع، وذلك جنبًا إلى جنب أبرز المقاربات النظرية للحرب السيبرانية بين أولئك الذين يدرجونها ضمن العمليات التكتيكة للحرب الأرضية، وأولئك الذين يرون أنها نوع جديد تمامًا من الحروب.

ويناقش الجزء الثاني الهجمات السيبرانية وطبيعتها وتنوعها، التي شنَّت روسيا معظمها، كما يناقش الردع السيبراني الشامل الذي برعت فيه أوكرانيا إلى حدٍّ كبير. أما الجزء الثالث فيناقش العمليات السيبرانية من نوع حروب الدعاية والتضليل ونشر الأخبار الكاذبة، التي هدفت بالأساس إلى رفع معنويات الحاضنة الشعبية من جهة، وكسر إرادة الخصم والتشويش على قدرته في اتخاذ القرارات من جهة أخرى. 

الكلمات المفتاحية: الحرب السيبرانية، الحرب الإلكترونية، الفضاء السيبراني، روسيا، أوكرانيا، الناتو

الجزء الأول: مفهوم الحرب السيبرانية ومقاربتها النظرية hakrz antrnt

يشير نيلز ميلزر إلى أن الحرب الإلكترونية/السيبرانية هي تلك التي “تجري في الفضاء السيبراني من خلال الوسائل والأساليب السيبرانية”. ويرى أنه في الوقت الذي يشير فيه مصطلح “الحرب” بشكل عام إلى الأعمال العدائية العسكرية في حالات النزاع المسلح، فإن الفضاء السيبراني/الإلكتروني يأخذ بُعدًا آخر، ويشير إلى “شبكة مترابطة عالميًّا من المعلومات الرقمية والبُنى التحتية للاتصالات، بما في ذلك الإنترنت وشبكات الاتصالات وأنظمة الكمبيوتر والمعلومات المتوفر بداخلها”.

ومن ثَمَّ حسب ميلزر، فإن إصابة شبكة كمبيوتر تابعة لأحد الخصوم ببرمجيات خبيثة -على سبيل المثال- “تشكِّل عملًا من أعمال الحرب الإلكترونية”، في حين أن “القصف الجوي بناءً على أمر عسكري إلكتروني” لا يمثِّل عملًا من أعمال الحرب السيبرانية[i].

وهناك تعريف آخر يرى أن الحرب السيبرانية “هي أعمال هجومية ودفاعية، متكافئة وغير متكافئة، تحدث في الشبكات الرقمية من قِبَل الدول أو جهات فاعلة شبيهة بالدولة (أو ما دون الدولة)، وتشتمل على مخاطر تصيب البنية التحتية الوطنية المهمَّة والأنظمة العسكرية”[ii]. ويتطلب هذا الشكل من الحروب “درجة عالية من الترابط بين الشبكات الرقمية والبنية التحتية من جانب المدافع، والتقدُّم التكنولوجي من جانب المهاجم”[iii]. ويمكن فهم هذه الحروب على أنها “تهديد مستقبلي وليس تهديدًا حاليًّا، وتتناسب تمامًا مع نموذج حرب المعلومات”[iv].

وتختلف العمليات السيبرانية عن العمليات المعلوماتية (Information Operation)، التي تهتمُّ اهتمامًا خاصًّا باستخدام القدرات المتعلِّقة بالمعلومات في أثناء العمليات العسكرية للتأثير في عملية صُنع القرار لدى الخصوم. وقد تستخدم العمليات المعلوماتية الفضاء الإلكتروني كوسيط، ولكنها قد تستخدم أيضًا إمكانات من المجالات المادية[v]. وهذا يعني أن الحروب المعلوماتية أهمُّ من الحروب السيبرانية، حيث تختصُّ الحروب السيبرانية باستهداف الشبكات والبيانات التي تتضمَّنها هذه الشبكات، في حين تذهب حرب المعلومات إلى إضافة بُعْدٍ آخر يتعلَّق باستخدام هذه المعلومات أو البيات للـتأثير في صانع القرار وحاضنته الشعبية عبر عمليات التأثير والتلاعب والتضليل والأخبار الكاذبة.

وأخيرًا، يمكن أن تُعرَّف الحرب السيبرانية بأنها “الصراع الذي يستخدم تعاملات أو هجمات معادية وغير قانونية على أجهزة الكمبيوتر والشبكات في محاولة لتعطيل الاتصالات وأجزاء أخرى من البنية التحتية كآلية لإلحاق ضرر اقتصادي أو تعطيل الدفاعات”[vi].

يرى بعض الخبراء -مثل توماس ريد- أن تسمية الحرب السيبرانية هي تسمية مجازية، من باب الحرب على الجوع والحرب على الغلاء؛ وذلك لأنها لا تستوفي الشروط الموضوعية للحرب التي حدَّدها كارل فون كلاوزفيتز في كتابه “On War”، وتتمحور حول الطبيعة العنفية، والطبيعة الأداتية، والطبيعة السياسية.

فالحرب يجب أن تتضمَّن استخدام القوة لإحداث الضرر والأذى المادي، كما أنها وسيلةٌ لتحقيق غايةٍ تتمثَّل في إجبار الخصم على الانصياع لإرادة المعتدي، وأخيرًا يجب أن تتضمَّن هذه الأداة هدفًا سياسيًّا، فالحرب لا تُشَنُّ لأجل الحرب، فهي لا تشكِّل فعلًا منعزلًا، بل هي فعلٌ يتم اللجوء إليه لتحقيق غاية سياسية، كالانصياع والتسليم والتبعية على سبيل المثال. وعلى حدِّ قول كلاوزفيتز، فإن “الحرب هي مجرَّد استمرار للسياسة بوسائل أخرى”.

يرى أصحاب هذا الرأي أن هذه الشروط الثلاثة لا تنطبق على الحرب السيبرانية. ففي هذه الحرب تنعدم أدوات القوة المادية التي تؤدي إلى إيقاع الضرر والأذى الماديَّيْن من قتلى وجرحى وتدمير بُنى تحتية وإحداث فوضى الرُّكام. وبالرغم من كونها وسيلةً، فإنها لا تكفي لإجبار العدو على الانصياع. فالضرر الحاصل جراء الهجمات السيبرانية غالبًا ما يكون مؤقتًا، ويمكن معالجته بفترة زمنية محدودة، كتعطيل شبكة وإخراجها من الخدمة. وأخيرًا، قد لا تتضمَّن الهجمات السيبرانية بُعدًا سياسيًّا، وذلك لمحدودية أهدافها التي تتمثَّل في التجسُّس وسرقة البيانات أو إتلافها، وهو ما يجعلها أقربَ إلى الجريمة الإلكترونية من الحرب الفعلية.

هذا فضلًا عن أن الهجمات السيبرانية تفتقر -في الغالب- إلى عنصر الاعتراف. فواحدة من أبرز خصائصها هي المجهولية والخفاء. وطالما انتفى الاعتراف، انتفى الهدف السياسي. فأحد أهم شروط تحقيق الهدف السياسي هو أن يعترف المعتدي بتبنِّيه العمليات من أجل إجبار الخصم على تنفيذها تحت سوط التهديد والإيذاء[vii]. ولذلك يخلص أصحاب هذا الرأي إلى أن الحرب السيبرانية -وَفْقَ هذه الشروط الثلاثة- لا يمكن حدوثها.

ويرى آخرون -من أمثال إريك جارتسكي- أن القوة السيبرانية بشكل عام أدنى من القوة المادية في أداء وظائف الإكراه والأذى ضد الخصم. ومن غير المرجَّح أن تثبت الهجمات السيبرانية فعاليتها بشكل خاص من الناحية الاستراتيجية الكبرى ما لم تتمكَّن من إلحاق ضررٍ كبيرٍ ودائمٍ بالخصم يجبره على تغيير سلوكه. وبناءً على ذلك، فإن الحرب السيبرانية لن تكون بمثابة الحكم النهائي للمنافسة في النظام الدولي[viii].

هناك فريق آخر يخالف أصحاب الرأيين السابقين، ويجادل بأن الحرب السيبرانية نوع مختلف من الحروب يتمتَّع بمواصفاته الخاصة التي لا يمكن إخضاعها لمنطق الحروب التقليدية. بمعنى أنها لا تعمل “وَفْقَ منطق الداعم للقوة التكتيكية فحسب، بل وَفْقَ منطق الحرب الاستراتيجية المتكاملة التي تعمل كوسيلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى في النظام العالمي المعاصر”[ix]. ونقطة انطلاقتهم هي أن الحرب السيبرانية لا تمثِّل امتدادًا للحرب التقليدية، ولكنها صنفٌ آخر جديد يجري في فضاء آخر غير الفضاءات التقليدية للحرب: البرية والبحرية والجوية. إنه فضاء سيبراني يتألَّف من بنية رقمية افتراضية متكاملة.

وبناءً على ذلك، اعتبر وليام لين أن الخصائص المميزة للفضاء السيبراني هي التي دفعت وزارة الدفاع الأمريكية إلى التعامل معه كفضاء جديد جنبًا إلى جنب الفضاءات المادية الأخرى[x]. ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الضرر والأذى الناجم من الحرب السيبرانية أبعدُ من معناها القريب. فاستهداف شبكة الكهرباء في منطقة ما بهجوم سيبراني يخرجها من الخدمة قد يؤدي إلى وفاة العديد من الأشخاص الأكثر عرضةً للخطر، مثل أولئك الذين يعيشون على أجهزة التنفس الاصطناعي في غرف العناية المركزة.

ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذه الوفيات ليست أعراضًا جانبية للهجوم السيبراني، بل هي أهداف مباشرة. فالمهاجمون على دراية كاملة بأن مثل هذا الضرر يمكن وقوعه، وهنا تتأكَّد نيَّة إيقاع الإيذاء بالخصم.

ويجادل ستيفن والت بأن الحرب السيبرانية تتألَّف من أربع قضايا جوهرية: إضعاف القدرات العسكرية للعدو، واختراق الشبكات لإغلاق البنية التحتية المدنية، والأنشطة الإجرامية على شبكة الإنترنت، والتجسُّس الإلكتروني[xi]. وهذا يمنح الحرب السيبرانية مرونةً في الانتقال ما بين الأهداف الاستراتيجية من خلال ضرب القدرات العسكرية والاقتصادية للخصم، والأهداف التكتيكية كالتجسُّس وسرقة البيانات. 

تتبنَّى هذه الورقة الرأي الثالث، وتجادل بأن الهجمات السيبرانية في الحرب الدائرة بين روسيا وأكرانيا كانت شاملةً من حيثُ مزاوجتها بين الوسائل الاستراتيجية من خلال المحاولات التي تمت لاستهداف مراكز السيطرة والتحكُّم والبنية المدنية الحيوية كشبكة الكهرباء، والوسائل التكتيكية من خلال التجسُّس وسرقة البيانات، مثل الهجمات التي استهدفت البريد الإلكتروني لأفراد الجيش الأوكراني. ليس هذا فحسب، بل ذهبت الحرب السيبرانية في سياق الحرب الروسية-الأوكرانية إلى تضمين تكتيكات حرب المعلومات من خلال اللجوء إلى تقنيات حروب الدعاية والتضليل والتأثير بما يشبه الحرب النفسيَّة.

وبذلك تقف افتراضات الورقة على النقيض من تلك الآراء التي جادلت بأن الهجمات السيبرانية في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا كانت هامشيةً أو غير ذات جدوى. 

ونظرًا لطبيعة الحرب المتقلِّبة، فإن الورقة وضعت إطارًا زمنيًّا في رصد الهجمات السيبرانية وتحليلها يبدأ من بداية الحرب في 24 فبراير/شباط حتى منتصف شهر إبريل/نيسان 2021. أي إن التحليل يغطي الشهرين الأوَّلين من عمر الحرب. كما ركَّزت الورقة على الهجمات السيبرانية بحدِّ ذاتها من خلال رصد طبيعتها وأنماطها وأهدافها واضعةً الفاعل في المرتبة الثانية في دائرة الاهتمام؛ ولذلك قد يبرز أحد الفاعلين (روسيا) أكثر من غيره (أوكرانيا)، وذلك لأغراض التحليل وليس لغرض إبراز فاعلٍ على حساب فاعلٍ آخر، حيث إن كليهما لجأ -بدرجات متفاوتة- إلى استخدام تكتيكات الحرب السيبرانية

ولتسهيل عملية التحليل، فقد قسمت الورقة إلى محورين: يعالج المحور الأول الهجمات السيبرانية عبر الشبكات الإلكترونية التي أسميتها بالقرصنة الخشنة، وتشمل هجمات من قبيل DDoS التي تصيب المواقع بالعطل وتخرجها من الخدمة، وهجمات التصيُّد Phishing التي تخترق الحسابات الإلكترونية بغرض التجسُّس أو استخدامها للولوج إلى الشبكات، والهجمات الماسحة التي تؤدي إلى إتلاف البيانات ومسحها من الشبكة، وهجمات البُنى التحتية سواء العسكرية منها أو المدنية بغرض إخراجها من الخدمة.

ويعالج المحور الثاني القرصنة الناعمة، وهي استخدام الشبكات والمنصات الرقمية في تكتيكات الدعاية والتضليل وعمليات التأثير، وذلك عبر استخدام مجموعة من التكتيكات مثل: المتصيّد Troll، والروبوتات الاجتماعية Bots، والاختراق، والحميمية الإعلامية عبر إضفاء الطابع الشخصي، وفيديوهات التزييف العميق، وإسكات الأصوات المعارضة.