منذ وقت ليس بالبعيد كان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان صديقين مقربين. فخلال الأسبوع الماضي ظهر الرئيسان الروسي والتركي وهما يتصافحان أمام عدسات الكاميرا، خلال قمة الدول العشرين المنعقدة في منتجع أنطاليا بتركيا.

ويتذكر المتابعون للشأن الروسي جيدا كيف قام زعيم الكرملين في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي بتوجيه صفعة لأوروبا، عندما أعلن من أنقرة أن خط الأنابيب الذي سينقل الغاز من روسيا عبر البحر الأسود نحو أوروبا الوسطى سيتم استبداله بخط جديد يمر عبر تركيا.

ورغم الانقسام الكبير حول الملف السوري، فإن أردوغان وبوتين نجحا في التعاون في عدد كبير من المسائل التي تهم المصالح المشتركة. كما أن تركيا رفضت بشدة الانضمام للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو، بل أنها حاولت اقتناص الفرصة لتدعيم وجودها في السوق الروسية، على أمل زيادة حجم المبادلات مع روسيا.

كما أن كلا الزعيمين ظهر خلال الفترة الماضية بنفس الأسلوب: “رجلان غاضبان على أطراف أوروبا، يتميزان بالجرأة والثقة ولا يمكن تجاهلهما”، هذه هي الكلمات التي استعملتها صحيفة الغارديان لوصفهما.

 ولكن مع قيام تركيا بإسقاط الطائرة المقاتلة الروسية “سوخوي 24″، فإن العالم بدأ يتساءل حول ما إذا كان الزعيمان القويان بصدد الاستعداد للدخول في معركة. فقد صعد كلا الجانبان من نبرتهما، حيث تحدث الرئيس الروسي بكل غضب عن “طعنة في الظهر من المتواطئين مع الإرهاب”، في اتهام واضح لتركيا بالتعاون مع مجموعات متطرفة من بينها تنظيم الدولة، كما حذر بوتين من “عواقب وخيمة”، وعبّر عن أسفه مما اعتبره انزلاق تركيا نحو الأسلمة تحت حكم الرئيس الحالي.

ومن جانبه أكد أردوغان على أن الطائرة تم إسقاطها في المجال الجوي التركي، بعد أن تجاهلت عدة تحذيرات وجهت لها، كما لم يفت أردوغان الذي يسعى دائما لشحذ المشاعر القومية في تركيا، أن يندد بالغارات الجوية الروسية على مناطق التركمان في شمال غرب سوريا.

هذه الضغائن بين الجانبين ليست جديدة، حيث أن كبار المسؤولين في أنقرة لم يخفوا غضبهم في الفترة الماضية من قصف القرى التركمانية المتواجدة على الحدود التركية السورية، وقد تناول رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو هذه المسألة يوم الجمعة الماضي، ولكن المواجهة المباشرة بين طائرات “أف 16” التركية والمقاتلات الروسية، قذفت بمنسوب التوتر إلى مستوى جديد، خاصة بعد أن عّبر قادة حلف الناتو، المجتمعون في بروكسل بطلب من تركيا، عن تضامنهم الكامل مع الموقف التركي.

هل أن هذه الأزمة مرشحة لمزيد من التصعيد والخروج على السيطرة؟ هذا غير وارد. فكما أن العلاقة بين الطرفين كانت سلمية منذ معاهدة “بريست ليتوفسك” في سنة 1917، فإن كل الأذكياء يراهنون على أن موسكو وأنقرة سيواصلان العلاقة السلمية. سيكون هنالك بالطبع استعراض للعضلات من الجانبين، ولكن المواجهة العسكرية لا تخدم مصلحة أي من الطرفين.

ويحاول حلفاء تركيا الغربيون نزع فتيل الأزمة، حيث اعتمد الأمين العام لحلف الناتو، جيمس ستولتينبيرغ، بلهجة تصالحية، ودعا إلى الهدوء وعدم التصعيد بين تركيا وروسيا، على إثر اجتماع أعضاء الناتو.

كما توجد مساع لتصنيف حادثة الطائرة الروسية على أنها فشل في تطبيق إجراءات تجنب الاشتباك، التي تم وضعها لتنظيم الحركة في الأجواء السورية المكتظة بالطائرات، عوض اعتبارها تبادلا للضربات بين حلف الناتو والروس، في إطار بقايا الحرب الباردة.

في الواقع، يبدو أن موسكو وأنقرة يتوجهان نحو نزع فتيل الأزمة، فقد أن اتصل وزير الخارجية التركي “ميلوت جاويش أوغلو” هاتفيا بنظيره الروسي، للتعبير عن أسفه بعد هذه الحادثة، وصرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن روسيا لن تشن حربا ضد تركيا.

أما رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، الذي يشهد له أنه كان مهندس سياسة “صفر مشاكل مع الجيران” التي اعتمدتها تركيا في سياساتها الخارجية، فقد أشار إلى أن جمهورية روسيا الفدرالية هي صديقة لتركيا، كما قال أردوغان: “ليس لدينا أي نوايا للتصعيد بعد هذا الحادث”.

ولكن رغم ما يقال، فإنه من الصعب التقليل من شأن الخلافات بين روسيا وتركيا فيما يخص سوريا. فالأكيد أن التدخل الروسي شكل صدمة بالنسبة لأردوغان وحلفائه، إذ أن الزيادة الكبيرة في الوجود الروسي في القاعدة الجوية باللاذقية، بالإضافة إلى الدفع بأربعة آلاف من الجنود، شكل ضربة كبيرة للمساعي التركية بفرض منطقة حظر جوي، تكون في الواقع ملاذا آمنا لكل معارضي الأسد. كما أن الغارات الروسية استهدفت مجموعات مسلحة تحظى بدعم أنقرة، وإضافة لذلك فإن إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا حول الانتقال السياسي في سوريا، رغم أنه أمر مستبعد في الوقت الحاضر، فإنه يهدد بتحييد دور تركيا وإقصائها من المعادلة.

ولذلك فإن أردوغان يملك كل الحق في التكشير عن أنيابه والسعي لتلقين فلاديمير بوتين درسا قاسيا. بما أن تركيا ليست في موقف يجعل كلمتها مسموعة في المفاوضات التي لا تزال في بدايتها حول سوريا. وقد توجه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى موسكو يوم 26 تشرين الثاني/نوفمبر، من أجل مواصلة هذا المسار التفاوضي. ولكن أنقرة ستبذل كل جهدها لتوجيه مزيد من الضربات لروسيا لتحفظ موقعها.

ولكن في نفس الوقت يملك بوتين وأردوغان كل التشجيعات التي تمنعهما بالدفع بالخلافات نحو الخروج عن السيطرة، فمن وجهة النظر الروسية تمثل تركيا شريكا اقتصاديا هاما، إذ أنها تبقى ثاني أكبر حرفاء شركة “غاز بروم”، وهي شركة الغاز التي تسيطر عليها الدولة والتي تضمن لفلاديمير بوتين مبالغ مالية كبيرة.

ورغم الصعوبات التي يواجهها مشروع “تركيش ستريم” كما يسميه أردوغان، المتعلق بمد أنابيب الغاز الروسي عبر تركيا، فإن مرابيح روسيا في مجال الطاقة تبدو جيدة، فبحسب تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن الطلب على الغاز سيتضاعف 3 مرات خلال العشر سنوات القادمة، على الرغم من تناقص المبيعات في السوق الأوروبية التي تزداد المنافسة فيها شراسة. وفي المقابل فإن شركات البناء التركية على غرار “إنكا إنسات”، حققت مرابيح تقدر بمليارات الدولارات في أنحاء روسيا، خاصة في مشاريع متعلقة بالألعاب الأولمبية الشتوية في مدينة “سوتشي”.

كما أن الفرص الاقتصادية المتعلقة بالسياحة أيضا تربط البلدين. إذ أن ملايين الروس يسافرون للمنتجعات الساحلية التركية كل سنة، وأرقامهم مرشحة للارتفاع أكثر على إثر الهجوم الإرهابي الذي استهدف الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء في مصر. وإلى حد الآن فقد رفضت الحكومة الروسية كل الدعوات من أجل إيقاف الرحلات نحو تركيا لأسباب أمنية، ولكنها تواجه الآن ضغوطا جديدة من أجل اتخاذ تلك الخطوة. وقد قال لافروف أن روسيا سوف تسعى لإثناء مواطنيها عن السفر نحو تركيا، ولكن إلى حد الآن لا يوجد أي حديث عن منع الرحلات إلى إسطنبول أو أنطاليا. وتعتبر شركة الطيران التركية في الوقت الحاضر أكبر ناقل جوي يعمل في روسيا، بعد أن شهدت ارتفاعا في نشاطها بحوالي 16 بالمائة خلال السنة الماضية، ولكن التوترات الأخيرة سوف تؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالح هذه الشركة، وبمصالح عدد من شركات النفط والغاز الروسية.

رغم عدم وجود تناسق بين الجانبين، فإن أنقرة وموسكو يجتمعان على نفس الموقف فيما يخص عددا من المسائل الأمنية؛ فتركيا مستاءة من الدعم الروسي لأكراد سوريا، رغم أن الروس إلى حد الآن لم يدعموا استقلال الأكراد ولم يطرحوا مسألة مراجعة الحدود الدولية في المنطقة. كما أظهرت تركيا قدرا كبيرا من التفهم للقلق الروسي بشأن تصاعد الأعمال المسلحة والنزعات الانفصالية في شمال القوقاز، وهي المسألة التي مثلت مصدر قلق كبير لموسكو منذ فترة التسعينات. وتراقب أنقرة عن كثب مختلف المجموعات الناشطة في شمال القوقاز ولم تسمح لأي من المجموعات المتشددة باتخاذ أراضيها كقاعدة خلفية للنشاط ضد روسيا. كما أن الأجهزة الأمنية التركية فشلت في حل قضايا الاغتيالات العديدة التي استهدفت الزعماء الشيشان، الذين هربوا إلى هناك بعد الحرب الثانية بين روسيا والشيشان.

ورغم كل التعاطف الذي تظهره تركيا نحو التتار في روسيا، فإن رد أنقرة على عملية ضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014 كان محدودا، ولم يختلف كثيرا عن ردة الفعل إثر حضور بوتين في العاصمة الأرمينية “ييريفان”، خلال الذكرى المئوية للمجازر المزعومة ضد الأرمن في سنة 2015، وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الدوما الروسي كان قد شرع في النظر في قانون جديد يجرم إنكار هذه المجازر، وهو ما سيزيد من استياء أنقرة.

ورغم أن سياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، قد عدلت كثيرا من سياسات أنقرة في الشرق الأوسط، فإنها فيما يخص علاقاتها الثنائية مع موسكو التزمت بالسياسات الحذرة والمحافظة منذ التسعينات. ففي تصريحاتهم غير الرسمية، يلقي المسئولون الأتراك باللوم على الغرب فيما يخص الحرب في شرق أكرانيا، ويقولون أن التردد حيال التدخل في سوريا فسح المجال لبوتين للدخول بكل قوته وإنقاذ نظام بشار الأسد.

قد لا تكون روسيا وتركيا صديقتان، بل أنهما اليوم تبدوان بعيدتان كثيرا عن ذلك، ولكن على ما يبدو يوجد تفاهم بين البلدين. أما كيفية تأثير الحادث الأخير وتطور المسألة فهذا مرتبط بأردوغان وبوتين، إذ أن كلاهما مولع باستعمال السياسات الخارجية لإرضاء الرأي العام في الداخل، وكلا الزعيمين يمكنه أن يواصل تبادل الضربات والعراك. ولكن بعد تطور الأوضاع وازدياد منسوب العدائية بين الجانبين، فإنه من المنطقي أن يسعى كل طرف لنزع فتيل الأزمة وتجنب الدخول في صراع.

تبقى الأولوية بالنسبة لفلاديمير بوتين هي المحافظة على علاقات ودية مع الغرب، وليس فتح جبهات جديدة للصراع، أما أردوغان المنتعش بالثقة التي اكتسبها بعد فوزها في انتخابات 1 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، فقد نجح في تسجيل نقطة في الوقت الضائع، وذكّر الجميع، بما فيهم الكرملين، بأن تركيا لا يمكن الاستهانة بها. ولكن من يعلم ما هي الإستراتيجية التي سيعتمدها الرئيس التركي في سوريا للنجاح في تحقيق أهدافه.

هذا المقال تم نشره للمرة الأولى في مجلة “فورين بوليسي”