تتردد أصداء الرصاص عبر أجواء منطقة سور في ديار بكر، بينما تتصدر الأخبار المشئومة الصفحات الأولى للصحف. لقد أصبح حفر الخنادق وبناء الحواجز والاستعمال المفرط للقوة علامات مهيمنة في الحرب الأخيرة التي يخوضها حزب العمال الكردستاني. وقد ردت الحكومة على الرصاص بالرصاص، وفرضت حظر تجول على المدن والأحياء التي تخضع لسيطرة حزب العمال الكردستاني.

إن هذا المشهد يعتبر مخيباً للآمال بالنسبة لمؤيدي السلام، فقد اعتقد الكثيرون سابقاً أن تركيا وحزب العمال الكردستاني قد ذهبا بعيداً في عملية السلام ولم يعد ممكننا أن يعودا إلى خانة الصفر والقتال ثانية، ناهيك عن نقلهما للقتال إلى مراكز المدن وخلق حرب شوارع تدخل إلى حياة المدنيين اليومية. ولكن هذا هو ما يحدث بالضبط..

منذ انتهاء وقف إطلاق النار الذي دام لمدة سنتين ونصف بين تركيا وحزب العمال الكردستاني على إثر قتل الحزب لاثنين من ضباط الشرطة في 22 من يوليو، أصبحت الصور المثبطة والتقارير المتعلقة بالقضية الكردية جزء مهماً من الحياة اليومية في تركيا.

تتصاعد موجات إطلاق النار والقتال على نحو متقطع في المدن، فيما يرتفع الثمن الذي يُدفع إنسانياً وسياسياً واقتصادياً على إثرها. فقد تجاوزت خسائر الأرواح خانة المئات منذ فترة طويلة، وفر عشرات الآلاف من الناس من أحيائهم الفقيرة ومنازلهم في رحلة من الحياة التي اعتادوا عليها إلى المعاناة المجهولة على جميع الأصعدة. وأصبح إغلاق أماكن العمل إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة في المناطق المتضررة أمراً مستعصياً على الحل.

وبذلك يصبح من الممكن أن نسأل: لماذا يلجأ حزب العمال الكردستاني إلى العنف ثانية، وكيف يعتبر هذا العنف مبرراً؟ وما هي فلسفة الحكومة في ردها؟ وماذا تعني كل هذه التطورات بالنسبة للقضية الكردية في تركيا؟

إن حزب العمال الكردستاني لا يلجأ للعنف انطلاقا من ضرورة أو حتمية، بل هو اختار العنف بنفسه، ويسعى إلى حشد دعم مجتمعي لهذه الاستراتيجية. ورغم أن الحزب لا يلقى دعمه على هذه الاستراتيجية من كامل الحركة الكردية، إلا أنه يتلقاه من شريحة مهمة منها. ولأجل ذلك، فإن الحزب يرحب باستخدام الدولة للعنف والقوة المفرطة من أجل كسب دعم الشريحة التي لم تقتنع بعد بفلسفة الحزب باختياره إستراتيجية حرب الشوارع. وبالتالي، تحتاج الحكومة إلى تحقيق توازن بين فرض النظام في المناطق التي تخضع لحزب العمال الكردستاني وتجنب المبالغة في ردود الفعل.

وإلى جانب ذلك، يتوجب على الحكومة ألا تغفل عن القضية الكردية في ظل خوضها لهذا القتال، وهو ما قد يودي باحتمال الحل السياسي السلمي للقضية الكردية إلى مواجهة خطر شديد، قد يجعله ضحية لهذه المعركة. وقد قامت تركيا بالفعل باستثمار الكثير من الجهد والوقت في الحشد لدعم الحل السلمي للقضية، وقد أثمر هذا الجهد بشكل رائع، فقد حصدت دعماً شعبياً يفوق 60 بالمائة قبل استئناف عمليات العنف. وقد جعل ذلك مهمة السياسيين سهلة نسبياً، على الرغم من أنهم لم يظهروا براعة سياسية كافية للاستفادة من زخم الأحداث بأكبر قدر ممكن.

إن تناقص التأييد الشعبي سيجعل المهمة في أي عملية لاتخاذ حل أصعب من قبل، وعاجلاً أم آجلاً، سيتم تحديد جدول لاستئناف المحادثات. وبالتالي، فإنه لا بد من إعادة تأمين القضية الكردية والإبقاء على الإيمان بالحل السياسي السلمي للقضية من خلال اتخاذ إجراءات سياسية وقانونية، حتى في ظل القتال مع حزب العمال الكردستاني.

إذا قامت الحكومة بتأجيل الملف الكردي برمته بينما يستمر القتال مع حزب العمال الكردستاني، فإن ذلك سيصب فقط في صالح رواية الحزب للأحداث، والتي يدعي فيها أنه الممثل الوحيد للقضية الكردية. إن وجود الحزب هو نتيجة للقضية الكردية، ولكن طال الوقت في التعامل معه على أنه الجزء الأساسي منها، وبذلك يستحسن تحجيمه والتعامل معه في حجمه الحقيقي.

بعبارة أخرى، فإننا نقول أن القضية الكردية التي نتحدث عن شكلها الحالي لها بعدان؛ هما: حزب العمال الكردستاني، والشعب الكردي. وبما أن الحزب هو الذي يملك السلاح ويقاتل ضد الحكومة فإنه من الواضح أنه سيكون الطرف الأساسي الذي ستحاوره الحكومة، وستسعى للتوصل معه إلى تسوية للصراع الذي دام لأكثر من ثلاثة عقود في تركيا.

على الرغم من ذلك، يبدو أن حزب العمال الكردستاني ليس مستعداً أبدا للتنازل عن القتال المسلح في تركيا، وبالتالي، من المحتمل أن يستغرق الأمر وقتاً لاستئناف المحادثات بشأن وقف أعمال العنف. لم يمر وقتٌ طويل على المصالحات داخل الحزب بعد ما سيطر الصراع عليه في الفترة السابقة، وقد استطاع حديثاً أن يضع لنفسه دوراً جديداً ويحدد لنفسه خارطة طريق لهذه الفترة، ولكن، بالنسبة لتركيا، فعليها أن لا تفرط في الوقت وتستجيب إلى مطالب الشعب الكردي، فهي تستطيع البدء في نقاش دستوري حول تجريد بند الجنسية من الحدود العرقية، ما يمهد الطريق لتعليم لغتهم الأمالكردية في جميع المستويات في المدارس العامة، واتخاذ خطوات مهمة نحو شكل من أشكال اللامركزية.

إن هذه الخطوات وحدها لن تجلب السلام الذي يتوق له الأتراك والأكراد على حد السواء، ولن تتجاوز التحديات التي يضعها حزب العمال الكردستاني أمام تركيا، ولكنها ستخففها من خلال تقليل مطالب الأكراد التي قد تنبع بشكل أو بآخر من مطالب الحزب. وهنالك مستوىً معينا يمكن من خلاله الفصل بين توقعات حزب العمال الكردستاني وتطلعات الشعب الكردي، ويجب على تركيا اغتنام ذلك بما سيساعدها على إضعاف الرواية المتشددة للحزب وادعاءه تمثيل للقضية الكردية.

وحتى تكون الحكومة قادرة على ذلك فإن هذا يتطلب منها إعادة النظر في مفهومها للقضية الكردية، حيث أنها لم تعد مجرد نتيجة عجز في الديمقراطية التركية، بل إنها تتأصل في رغبة بتقاسم السيادة على البلاد، على الأقل في جزء معين منها. ولكن هناك أوجه متعددة لتقاسم السيادة ووسائل مختلفة لتحقيق ذلك.

إن للحكومة التركية رصيدا سياسيا كافيا للتفكير في إقامة شكل من أشكال اللامركزية وإجراء تغييرات قانونيةدستورية تتعلق بالأكراد، في الوقت الذي تقوم فيه بمواجهة محاولة حزب العمال الكردستاني لخلق “سوريا مصغرة” في المنطقة الكردية في تركيا.