أصحبت عملية تحرير مدينة الموصل العراقية من قبضة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) قصةً لا تنتهي؛ إذ تُنقَل روايات متضاربة عن التقدم الذي تحرزه العمليات. لم تنجح المحاولات الأولى في تحرير المدينة؛ وتحاول القوات العراقية اتباع استراتيجية تدريجية تسير في طريق تحقيق هدفها خطوةً خطوة. ثمَّة عقبات كثيرة أمام تقدُّم العمليات من الناحيتين السياسية والعسكرية. وعلى الرغم من الهدف المشترك المعلن لتحرير الموصل، تؤخر العملية خلافات حول مستقبل المدينة والتكتيكات العسكرية. وبالإضافة إلى ذلك، يدفع الاضطراب السياسي في العاصمة بغداد إلى تساؤل العراقيين عن مدى جدية بعض ساستهم بشأن تحرير الموصل. ما كان من المفترض أن يكون حكومة تكنوقراط تقضي على الفساد وتضع حداً للبيئة السياسية الخلافية، لم يؤدِ إلا إلى فوضى سياسية في البلاد. يتساءل الآن عدد متزايد من الناس بشأن وحدة البلاد. ونظراً إلى هذه التحديات، يبدو هدف الحكومة المعلن، تحرير الموصل من «داعش» في عام 2016، بعيد الحدوث.

قبل نهاية مارس/آذار بقليل، أعلن مسؤولون عسكريون عراقيون أنَّ المرحلة الأولى من عملية الموصل قد بدأت في منطقة مخمور إلى الغرب من المدينة، بهدف تحرير بعض القرى من قبضة «داعش» لقطع خطوط إمدادها. بدعم من القوة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وقوات البيشمركة، تمكَّن الجيش العراقي وقوات الحشد الوطني من السيطرة على قرى في غرب مخمور والتقدم في اتجاه مدينة الحويجة. لكن، وبعد أقل من أسبوع من الإعلان عن العملية، ترددت أخبار بأن العملية قد تقرَّر تأجيلها مؤقتاً. عرقلت عدة عوامل سير العملية؛ فيبدو أن العمليات الجارية ضد «داعش» كانت تهدف فقط إلى خلق صورة إيجابية عن القتال ضد «داعش»، وتأمين محيط المدينة، وقطع خطوط الإمداد عن التنظيم.

وكما كتبت في ورقتي السابقةٍ لمنتدى الشرق، ثمَّة خلافات حادة بين الساسة العراقيين، ليس فقط بشأن مستقبل الموصل، بل بشأن تشكيل القوات التي ستحررها من «داعش» أيضاً. ووفقاً للأخبار الأخيرة، تعارض أميركا مشاركة قوات الحشد الشعبي في عملية تحرير الموصل، وتريد تشجيع الجيش النظامي العراقي على إجراء عمليات مشتركة مع قوات البيشمركة والحشد الوطني. ثمَّة خلاف بين المسؤولين الأميركيين وقادة قوات الحشد الشعبي بشأن مواجهة «داعش»؛ إذ يتردَّد أن رئيس الوزراء حيدر العبادي يعارض مشاركة «الحشد الشعبي» في عملية الموصل خوفاً من الصراع الطائفي. ومع ذلك، يجب أن نضع في الاعتبار أنَّ بعض رموز الشيعة السياسيين في العراق يؤيدون مشاركة هذه القوات، وأنَّ إيران أيضاً تريد اشتراك قوات الحشد الشعبي في العملية؛ فهي تريد للحشد أن يكتسب أرضاً في العراق كله بينما تستمر في فرض قبضتها العسكرية على البلاد عن طريق هذه المجموعات المسلحة. ويُتوقَّع أن تنضم قوات البيشمركة أيضاً إلى العملية. وبحسب أحدث المعلومات، تجري مناقشات بين الجيش العراقي والبيشمركة بشأن منهج العملية وتقسيم المناطق بين القوات المشاركة في العملية بعد هزيمة «داعش». تُثار أيضاً شائعات تقول إن بعض المسؤولين العراقيين يتحدثون إلى أعضاء حزب العمال الكردستاني في العراق لإقناعهم بالمشاركة في عمليات الموصل.

ووفقا لأحدث المعلومات المتاحة، تأخرت عمليات الموصل لبعض الوقت لأنَّ الإشارات المبكرة لم تكُن تبشّر بالخير على الإطلاق من حيث استعداد القوات العسكري لهزيمة «داعش». وفي وقت لاحق، ستقضي الغارات الجوية على العديد من الشخصيات القيادية في «داعش»؛ فتضرب قوة التنظيم السياسية والعسكرية. ومع فعالية هذه الضربات الجوية، ما تزال العمليات العسكرية البرية محدودةً لا تصل لمستوى يجعلها قادرة على دعم الضربات الجوية بنجاح. وفي ظل عشوائية حركة القوات التي تسعى إلى تحرير الموصل في الوقت الراهن، فإنه من المستبعد جداً أن العملية ستحرز أي نجاح. ويقول الكثيرون إنَّ أعمال هذه القوات حتى يومنا هذا ليست جادة بما فيه الكفاية لوضع خطة لتحرير الموصل وتنفيذها. سوف يجادل البعض بأنَّ الحكومة العراقية ورئيس الوزراء حيدر العبادي لا يوليان اهتماماً كافياً لهذه المسألة؛ فقد هبطت معنويات الجيش العراقي، وهناك شكوك جدية حول المستقبل السياسي في البلاد. التنسيق بين المجموعات العسكرية المختلفة هو أيضاً دون المستوى المطلوب لتنفيذ مثل هذه العملية.

وبالإضافة إلى العوامل المذكورة أعلاه، تجدر الإشارة أيضا إلى محدودية الدعم الجوي والخلافات بين قادة الجيش. لقد أدَّى الضغط على المجموعات المسلحة لتُظهِر أنَّها تعمل على إنقاذ الموصل إلى أفعال غير مُحضَّر لها جيداً، والتي بدورها قد أفقدت هذه المجموعات مصداقيتها. وقد أدت الفجوة بين الخطاب والأفعال على أرض الواقع إلى كثير من حالات الفشل التي نشهدها في العمليات العسكرية.

والأوضاع في داخل الموصل هي أيضاً عوامل مهمة يجب وضعها في الاعتبار. يمكن القول إن أهل الموصل، في عمومهم، يكرهون «داعش» بالنظر إلى الصعوبات التي يتعاملون معها يومياً في حياتهم بالمدينة. ومع ذلك، فإن الخلاف بين المجموعات المسلحة المختلفة والتحديات التي تقف في وجه إعلان الحرب داخل المدينة من شأنها أن تعطل العمليات. لقد تمَّ تحرير مدينة الرمادي من قبضة «داعش» في وقت سابقٍ من العام الماضي، لكن ما يقرب من 80 في المئة من مباني المدينة كانت قد تهدَّمت، وتركت «داعش» وراءها العديد من العبوات الناسفة التي منعت الكثير من الناس العودة إلى منازلهم. وحتَّى لا يتكرر السيناريو ذاته، يجب أن يجري التخطيط جيداً لعملية الموصل؛ فهي ثاني أكبر مدينة في العراق، وتنظيم «داعش» لا يتورَّع عن استخدام الدروع البشرية في معاركه. كل هذه العوامل تمثل تحديات مهمة تقف في طريق نجاح عملية الموصل.

يبدو أننا سنشهد لبعض الوقت عملياتٍ محدودة ضد «داعش» من قبل مجموعاتٍ عسكرية مختلفة، وذلك لاختبار قوة رجال التنظيم ومدى قدرته على الدفاع عن مواقعه. فما حدث في الشهر الماضي برهن على عدم قدرة وحدات الجيش العراقي على هزيمة داعش عسكرياً أو نفسياً. فبالرغم من الضغط الواقع عليه من عدة جبهات، إلا أن تبنّي التنظيم لسياسة الكرّ والفرّ تمكنه من إلحاق أضرارٍ غير متوقعة بتنظيماتٍ عسكرية مختلفة في العراق، فعمليات التفجير الانتحارية التي يقوم بها التنظيم على جبهات الصراع ضد أهدافٍ عسكرية، تمكنه من رفع معنويات رجاله، في نفس الوقت الذي تثبط فيه خصومه عن التقدم لكسب أراضٍ جديدة، بل إن داعش قد استخدمت أسلحةً كيميائية لتثبت مدى استماتتها في الدفاع عن مواقعها الحالية؛ فبعض التقارير قد أشارت إلى استخدام التنظيم لغاز الكلور في مدينة طوز خورماتو حيث ظهرت آثار هذه الهجمات على بعض المواطنين. تُعد الموصل ذات أهمية قصوى لـ«داعش». وللدفاع عنها، يقوم التنظيم بحشد أفراده داخل المدينة باستمرار، ويقوم بنقل مقراته الرئيسية من مكانٍ لآخر تفادياً لأي قصفٍ قد تتعرض له هذه الأهداف. كل هذه الإعدادات تدل على أن كلا الطرفين يؤهلان نفسيهما إلى معركةٍ طويلة.

التحديات السياسية والاقتصادية:

وبجانب الاختلافات التي تم ذكرها، فالمشاكل السياسية ببغداد بدورها تمثل عقبةً في طريق شن عملياتٍ عسكرية. فعلى مدار الأشهر الماضية، ظلت عملية تكوين حكومة بيروقراطية جديدة على الأجندة السياسية، إلا أن تأخر تشكيل هذه الحكومة وتأخر تنفيذ أي برامج إصلاحية قد أثرا بالسلب على مصداقية رئيس الوزراء حيدر عبادي. ولقد أظهرت الأحداث الأخيرة من جديد الفجوة بين التكتلات السياسية في بغداد، وعدم وعي النخبة السياسية بحجم المشاكل التي تواجهها العراق في الوقت الحالي، أصبحت أيضاً مصداقية عبادي كرمزٍ سياسي توافقي محل شك بعد فشله في تحقيق وعوده الإصلاحية.

وفوق هذه المشاكل المتعلقة بتشكيل الحكومة، تتسبب الاحتجاجات التي يتزعمها مقتدى الصدر وحركته في بغداد، بضغطٍ كبير على حكومة عبادي. فحركة الصدر، التي تطالب بالإصلاحٍ والقضاء على الفساد، تكتسب مزيداً من التأثير على المشهد العراقي، لكن بجانب الضغط الذي تضعه حركة الصدر فوق كاهل حكومة عبادي، فإنها تساعد رئيس الوزراء في بعضٍ من مبادراته. فقد كانت هذه الاحتجاجات قد أعلنت صراحةً عن سأم المواطنين العاديين من الفساد ونقص الخدمات الذي تعاني منه الدولة، لكن إذا تمكنت الحكومة من التحكم في هذه الاحتجاجات، وبادرت إلى تبني استراتيجية للقضاء على الفساد، ستتمكن من إنقاذ البلد. من ناحيةٍ أخرى، فقد أظهرت هذه الاحتجاجات مدى هشاشة الحكومة، وصعوبة توحيد تكتلات سياسية مختلفة تحت مظلةٍ مشتركة. لقد تسبب أداء أعضاء البرلمان، بالإضافة إلى القضايا القانونية التي يُنظر فيها في المحاكم بخصوصهم، إلى قد فصل الحياة السياسية عن المشاكل الحقيقية التي تعاني منها البلاد. وتُبرز أفعالٌ مثل اجتياح البرلمان من قبل متظاهرين غاضبين، والهجمات على سيارات الوزراء عن مدى اليأس الذي وصل إليه الناس في العاصمة من هذا النظام السياسي.

يواجه العبادي أيضاً تحدياً داخل حزبه من قبل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. فالمالكي يسعى لإضعاف موقف العبادي وذلك لاستعادة مكانته القوية ببغداد، بل ولكي يحل محل عبادي ويعود لمنصبه من جديد إذا كان ذلك ممكناً. لتحليل المناخ السياسي في بغداد بشكلٍ صحيح، يجب الأخذ في الاعتبار كلاً من الصراع الشخصي بين المالكي وعبادي، وصراع المالكي والصدر. فلقد قام المالكي ببتر جماعة الصدر العسكرية التي كانت تشكل موضع نفوذٍ سياسي له وذلك خلال عاميّ 2007 و2008. وفي نفس الوقت، فتحركات الصدر الحالية تقف ضد طموحات المالكي السياسية في بغداد، بعد أن أنهى المالكي نفوذ جيش المهدي في البصرة، وهو ذراع الصدر العسكري، وخلق لنفسه صورة السياسيّ الذي يسعى للقضاء على الميليشيات التي تقضي على وحدة القوات المسلحة. على الرغم من تعاون ممثلي الصدر السياسيين مع المالكي سابقاً في قضية التحالف الشيعي السياسي، إلا أن هاتين الشخصيتين البارزتين لم تستعيدا علاقتهما بعد ذلك. إن موقف جماعة الصدر الحالي في خضم المناخ السياسي العراقي يقلل من فرص المالكي في أن يكون هو البديل الذي سيحل محل عبادي في رئاسة الحكومة. الاقتتالات الداخلية المماثلة بين الرموز السياسية المختلفة والأحزاب السياسية في بغداد تؤخر من تشكيل حكومة جديدة، وتشتت تركيزها عن تحدياتٍ حرجة تواجه العراق، مثل عملية استعادة الموصل من بين يدي داعش. وتكمن المشكلة الرئيسية في انعدام الوعي البادي على الرموز السياسية للتحديات التي تواجهها العراق.

وسط كل هذه المشاكل السياسية، يصبح التعامل مع المشاكل الاقتصادية أكثر صعوبة. تطغى الآن مشاكل مثل هبوط سعر النفط، والفساد، والبطالة على أجندات العديد من الناس في العراق. لقد اعتُمدت الموازنة العراقية لعام 2016 بناءً على استقرار سعر برميل النفط عند ما يساوي 45 دولاراً في المتوسط، إلا أن أسعار النفط لم تقترب من هذه القيمة حتى بداية مايو/أيار الماضي. فخرج رئيس الوزراء العراقي عبادي ليعلن أن العراق ستلجأ إلى صندوق النقد الدولي لتوفير 7 مليار دولار في صورة قروض، لكن تحقيق الشروط اللازمة للحصول على هذه القروض سيكون صعباً، نظراً لعدد المواطنين الذين يعملون بالقطاع العام. شهدت شوارع العراق في العام الماضي تظاهرات تنادي بتوفير الكهرباء بصورة مستقرة. وبحلول الصيف وزيادة الحرارة، سيزداد عدد التظاهرات التي تنادي بنفس المطالب. لكن على عكس العام الماضي، تتناقص آمال المواطنين في أن تلبي الحكومة مطالبهم وتمدهم بالخدمات التي يرغبون فيها؛ فالرموز السياسية العراقية لا يستطيعون إدراك التحديات الاقتصادية التي تواجهها العراق، معميين بخصوماتهم السياسية. أي تأخير في سداد رواتب العاملين بالقطاع العام ورواتب ضباط الجيش سيقف حائلاً أمام أية جهودٍ لرسم خطط طويلة المدى للدولة، وخاصةً فيما يتعلق بحكومة إقليم كردستان.

لقد بات واضحاً بعد الأحداث الأخيرة توقف نجاح أي عمليةٍ عسكرية ضد داعش في مدينة الموصل على الوصول لتوافقٍ سياسي بين عدة رموزٍ وأحزابٍ سياسية في العراق. لقد وقفت الخلافات الطائفية والعرقية بجوار انعدام كفاءة السياسيين حائلاً أمام ظهور نظامٍ سياسي توافقي في العراق، وهو ما يوضح أن المشكلة العراقية هي مشكلة سياسية بالأساس وليست مشكلة عسكرية. لقد أنهكت الخلافات القائمة بين الحكومة العراقية والبرلمان المواطنين العراقيين بالإضافة إلى ممثلي تحالف القضاء على «داعش». وبدلاً من الاهتمام بالمشاكل الحقيقية التي تواجه الدولة، تنشغل النخبة السياسية العراقية في صراعات الأحزاب الداخلية والصراعات بين الأحزاب بعضها البعض. بات العديد من الناس يشككون الآن في النظام السياسي القائم، وينتظرون إصلاحات للمناخ السياسي العراقي بأكمله. وفي ظل هذه الظروف، فعلى الأرجح لن يتحمس أعضاء تحالف القضاء على داعش إلى دعم العراق بالمساعدات العسكرية اللازمة، ومن ثم، ستتأخر العملية العسكرية المنتظرة لتخليص الموصل من بين يدي «داعش» لفترةٍ أطول.