مستقبل العلاقات الإيرانية الإماراتية

الملخَّص: شهدت العلاقات الإيرانية الإماراتیة العديد من التقلُّبات في العقدين الماضيين بسبب عوامل على المستويات الثلاثة المحلية والإقليمية والدولية، ووصلت إلى أدنى مستوى لها في السنوات الخمس الماضية. فقد خفضت أبوظبي من مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع طهران في كانون الثاني/ يناير 2016، بعد أن قطعت السعودية علاقاتها مع إیران. لکن شهدت العلاقات بين هاتین الدولتین تقاربًا واسعًا ازداد في عام 2019، بعد تصاعد حدّة التوترات بين إيران والولايات المتحدة إثر استهداف ناقلات النفط بالقرب من المياه الإقليمية لدولة الإمارات. وفي خضم أكبر تصعيد سياسي بين الولايات المتحدة وإيران في الأشهر الأخيرة من قِبَل رئاسة دولة دونالد ترامب، بدأت سلسلة من التقاربات الأمنية بين أبوظبي وطهران أدت إلى توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون بمجال أمن الحدود البحرية في منتصف عام 2019. لكن توترت العلاقات بين طهران وأبوظبي منذ إعلان “اتفاق أبراهام” وتطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل. اتسمت العلاقات بين إیران والإمارات في عام 2020 بتوترات غير مسبوقة، فبعد استدعاء المبعوث الإيراني إلى الإمارات بسبب تهدیدات المسؤولين في طهران لاتفاقية السلام، استدعت وزارة الخارجية الإيرانية المبعوثَ الإماراتي احتجاجًا على إطلاق نار على عدة قوارب صيد إيرانية.

لکن بعد عام، تم اتخاذ خطوات لنزع فتيل التوتر بين البلدين الجارین، حيث تراجعت حدّة التوترات السياسية بين أبوظبي وطهران بشكل ملموس مطلع عام 2021 وبعد وصول الإدارة الأمريكية الجديدة. وتعود أول إرهاصات خفض التصعيد في العلاقات بين الإمارات وإيران إلى وصول الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، عندما شاركت الإمارات في حفل تنصيب رئيسي بوفد رفيع المستوى في آب/ أغسطس 2021. وفي الآونة الأخيرة، حدث تغيير سريع في علاقات أبوظبي مع طهران، حيث تسعى الإمارات إلى تحسين العلاقات السياسية مع إيران. وقد أجرى في هذا الشأن مسؤولون كبار من الإمارات وإيران اجتماعاتٍ واتصالاتٍ مؤخرًا، بما في ذلك زیارة مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، علي باقري كَني، إلی أبوظبی. وفي أحدث محطة من محطات التقارب بين البلدين، وصل مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد، إلى العاصمة الإیرانیة طهران، في إطار زيارة رسمية تُعَدُّ الأولى من نوعها منذ أن خفضت الإمارات علاقاتها الدبلوماسية مع طهران عام 2016.

تسلِّط هذه الورقة التحليلية الضوءَ على مستقبل العلاقات الإيرانية الإماراتية، وهو ما فرض سؤالَيْن مهمَّيْن وأساسيَّيْن تسعى إلى الإجابة عنهما؛ أولًا: ما أسباب التوتر والانفراج في العلاقات بين إيران والإمارات؟ وثانيًا: ما هي الآفاق المستقبلية للعلاقات الإيرانية الإماراتية؟ وللإجابة عن هذين السؤالَيْن، تم استخدام منهجية المستويات الثلاثة (المحلي والإقليمي والدولي) للتحليل.

المقدمة

بعد فترة عاصفة من التنافس الإقليمي بين القوى الإقليمية والجهات الفاعلة في الشرق الأوسط، هدأت موجات الصراع الصاخبة للتحوُّل إلى التهدئة والدبلوماسية. لقد دفعت التجارب المؤلمة من حروبٍ ونزاعاتٍ خلال العقد الماضي الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط إلى الحدِّ من التوترات وتحييد الأزمات قدر الإمكان، وإيجاد صيغة للحوار. فبعد عقد من الربيع العربيّ، تراجعت حمَّى الانتفاضات العربية تدريجيًّا، وتحوَّل الوضع في المنطقة بعيدًا عن الاستقطاب والمواجهة. ومن ثَمَّ قامت معظم الدول بمراجعة وإصلاح نهجها وسياساتها في مختلف مجالات السياسة الخارجية، التي فشلت ولم تكن قادرةً على خدمة المصلحة الوطنية بصورة فعَّالة. وكانتِ الإمارات العربية المتحدة رائدة التغيير في السياسة الخارجية في المنطقة خلال العام الماضي. حيث اتخذت الإمارات خلال الأشهر الماضية سلسلةً من الخطوات تشير إلى وجود تحوُّل محتمل في سياستها الخارجية تجاه مجموعة من القضايا الإقليمية. فيما يبدو أن الإمارات تخلَّت عن سياساتها القديمة التي كانت تقوم على المُناكفات والمُواجهات السياسيّة والعسكريّة وأصبحت تتبنَّى سياسة جديدة عُنوانها الأبرز «تصفير المشاكل». إذ تُعيدُ أبوظبي بناء علاقاتها تدريجيًّا مع قطر وسوريا وتركيا وإیران بعد ما يقرب من عقدٍ من الصراع على القضايا الإقليمية، بما في ذلك المواجهات والتوترات الخطيرة. يمكن رؤية هذا التغيير في النهج في الزيارات الأخيرة لوزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد إلى سوريا، وزيارة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد إلى تركيا، وزيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد إلى إیران.

مرَّت العلاقات الإيرانية الإماراتیة بمنعطفاتٍ مختلفة عبر مراحل زمنية ممتدَّة لأسباب متعدِّدة، ووصلت إلى أدنى مستوى لها في السنوات الأخيرة. فقد خفضت أبوظبي تمثيلها الدبلوماسي في طهران عام 2016 على خلفية قطع حليفتها السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إيران إثر اقتحام محتجين إيرانيين مبنى السفارة السعودية بالعاصمة ومقر القنصلية بمدينة مشهد احتجاجًا على إعدام رجل الدين السعودي الشيعي نمر باقر النمر. لکن شهدت العلاقات الإماراتية الإيرانية تقاربًا واسعًا بعد تصاعد التوترات بين طهران وواشنطن إثر تهديد ناقلات النفط واستهدافها بالقرب من المياه الإقليمية لدولة الإمارات. وفي خضم أكبر تصعيد سياسي بين الولايات المتحدة وإيران في الأشهر الأخيرة من رئاسة دونالد ترامب، بدأت سلسلة من التقاربات الأمنية بين أبوظبي وطهران، بما في ذلك زیارة وفد عسكري إماراتي براسة قائد قوات خفر السواحل الإماراتي، علي محمد مصلح الأحبابي، إلی طهران في تموز/ يوليو 2019. ووقَّع البلدان مذكرة تفاهم بين قائد حرس الحدود الإيراني، قاسم رضائي، وقائد قوات خفر السواحل الإماراتي، علي الأحبابي، كثمرة لاجتماعَيْن حملا عنوان “دبلوماسية الحدود”، وتنصُّ المذكرة على أنه في حال الطوارئ الحدودية يتم التنسيق بين الجانبَيْن من خلال وسائل التواصل أو الاجتماعات المباشرة([i]).

كما رحَّبت وسائل الإعلام وبعض المسؤولين الإيرانيين بانسحاب القوات الإماراتية من اليمن في نهایة عام 2019، واعتبروا هذه الخطوة علامةً على الديناميكية والتحوُّل في السياسة الخارجية لدولة الإمارات تجاه إيران، خاصةً أن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية آنذاك، أنور قرقاش، قال خلال كلمة في افتتاح أعمال ملتقى أبوظبي الاستراتيجي السادس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019: “إن التصعيد مع إيران لا يصبُّ في مصلحة أي طرف؛ ولذلك نأمل من خلال الجهود أن نوجد انفتاحًا لوضع عملية سياسية ذات مغزى، تعمل على معالجة القضايا الأمنية في المنطقة”([ii]).

غير أن عملية خفض التصعيد في العلاقات بين طهران وأبوظبي، التي أشارت إلى تحسُّن العلاقات بين البلدين الجارين، لم تدُم طويلًا. لأن العلاقات بين إيران والإمارات أصبحت متوترةً بعد إعلان اتفاقية السلام وتطبيع العلاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل. واتسمت العلاقات الإيرانية الإماراتية بتوتراتٍ غير مسبوقة في عام 2020، فبعد استدعاء المبعوث الإيراني إلى الإمارات بسبب تهدیدات المسؤولين في طهران وانتقاداتهم لاتفاق السلام، استدعت وزارة الخارجية الإيرانية المبعوثَ الإماراتي لإطلاق النار على عدَّة قوارب صيد إيرانية.

ومع ذلك، بعد عام، تم اتخاذ خطوات للحدِّ من التوترات بين هاتین الدولتين الجارتين. فعلى مدار العامين الماضيين، أرسلت الإمارات العديد من طائرات مساعدات التي تحمل إمدادات طبيَّة ومعدات إغاثة إلى إيران لدعمها في مواجهة فيروس كورونا المستجد([iii]). وتحدَّث وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، عدَّة مرات مع وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، في العامين الماضيين.

تراجعت حدَّة التوتر السياسي بين أبوظبي وطهران بشكل ملموس مطلع عام 2021، وبعد وصول الإدارة الأمريكية الجديدة وسياسات الرئيس الأمريكي الجديد، جو بايدن، نحو الإمارات العربية المتحدة. وفي هذا الصدد، أكَّد سفير الإمارات لدی واشنطن، يوسف العتيبة، “أن الإمارات تريد التعايش السلمي مع إيران بعيدًا عن أي توترات”([iv]). وتعود أولى بوادر وقف التصعيد في العلاقات بین الإمارات وإیران إلى وصول الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، حيث شاركت دولة الإمارات في فعاليات تنصيب إبراهيم رئيسي، في آب/ أغسطس 2021، بوفد رفيع المستوى برئاسة وزير التسامح والتعايش الإماراتي، الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان([v]). وكان رئيسي قد شدَّد في وقت سابق على أن أبوظبي حليفٌ قويٌّ لبلاده، وأنه يريد تعزيز العلاقات معها وتقويتها بشكل أكبر.

وفي أعقاب عملية خفض التصعيد بين البلدين، أعلن أنور قرقاش في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 أن “الإمارات تتخذ خطواتٍ لتهدئة التوتر مع إيران في إطار خيار سياسي مؤيد للدبلوماسية وتجنُّب المواجهة”([vi]). كما سبق أن أكَّد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الإماراتي، عبد الله بن زايد، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر، أكَّد “أن العلاقات بين إيران والإمارات تقليدية وإيجابية، وتحظى بأهمية خاصة لكلا البلدين”([vii]).

وتعهَّدت طهران بفتح فصل جديد في العلاقات مع الإمارات بعد لقاء لنائب وزير الخارجية الإيراني، علي باقري كَني، بمسؤولين إماراتيين في أبوظبي. ويأتي اللقاء بعد أيام من ترحيب طهران بزيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى العاصمة السورية دمشق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. وفي أحدث مرحلة من التقارب بين إيران والإمارات، وصل طحنون بن زايد إلى طهران في یوم الاثنين السادس من کانون الأول/ دیسمبر 2021، بدعوة من أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني، في إطار زيارة رسمية([viii]). وتُعَدُّ هذه الزیارة نقطة تحوُّل في العلاقات الثنائية بين البلدين؛ لأن هذه الزيارة هي الأولى لمسؤول إماراتي رفيع المستوى إلى إيران منذ عام 2016.

لذلك تسعی هذه الورقة التحليلية للإجابة عن سؤالَيْن رئيسَيْن؛ الأول: ما أسباب التوتر والانفراج في العلاقات بين إيران والإمارات؟ والثاني: ما هي الآفاق المستقبلية للعلاقات الإيرانية الإماراتية؟ وللإجابة عن هذين السؤالَيْن، تم تقسيم هيكل البحث إلى ثلاثة أقسام. فبعد تحليل أسباب توتر العلاقات الإيرانية الإماراتية وسياقاته في العقد الماضي، سيتم ذكر أسباب خفض التصعيد وتخفيف التوترات، وفي النهایة سيتم دراسة مستقبل العلاقات بين البلدين الجارين من خلال تحليل القوى الدافعة. كما تم تطبيق منهجية المستويات الثلاثة في الأجزاء الثلاثة من هذا التحليل البحثي.