تحديات الأمن المائي في الجزيرة السورية حوكمة ندرة المياه من سوء الإدارة إلى التسويات السياسية
دراسة حالة ينابيع رأس العين – محطة مياه شرب علوك في شمال شرق سوريا من 1950 إلى أغسطس/آب 2020

ملخص تنفيذي: أدت حوكمة المياه التي اتبعتها المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص في سوريا، لتجاوز عقبات الظروف المناخية التي تشكِّل عاملًا محددًا في التنمية الاقتصادية في الجزيرة السورية بتكثيف استثمار الموارد المائية، إلى استنزاف المياه وانخفاض منسوبها وازدياد نسبة ملوحتها، مما أدى إلى جفاف العديد من الينابيع والأنهار في منطقة الجزيرة السورية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، مثل ينابيع رأس العين، بعد أن كان معدَّل تدفق المياه فيها 45 م3/ثانية.

وقد تفاقمت أزمة المياه وزادت هشاشة الأمن المائي خلال الصراع، وذلك بسبب استخدام المياه كأداة عسكرية و/أو وسيلة سياسية للسيطرة على الأراضي، ومنها الجزيرة السورية التي لم تفقد أهميتها في جذب القوى المتصارعة للسيطرة عليها منذ القدم إلى يومنا هذا. كما كانت الجزيرة جبهةً للصراع الدائر بين الإمبراطوريتَيْن الفارسية والرومانية عادت لتجذب إليها قوى دولية وإقليمية ذات مصالح متقاربة و/أو متضاربة، أربع منها ممثلة في مجلس الأمن الدولي: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا وبريطانيا، بالإضافة إلى تركيا كقوة إقليمية.

ناهيك عن الدول الداعمة للفصائل الموجودة بطريقة غير مباشرة لوجستيًّا أو ماليًّا مثل إيران ودول الخليج العربي. ونتيجةً لذلك، فإن هشاشة الأمن المائي المترتّبة عن سوء حوكمة المياه واستخدامها كأدة حرب في بيئة متعدِّدة الأعراق والأديان لم تقتصر على تعميق أزمة الحصول على كمية المياه اللازمة للاحتياج المنزلي وللزراعة فحسب، وإنما أدت أيضًا إلى تمزيق العلاقات البينية الهشة بين السكان التي نسجتها المجتمعات المحلية خلال عشرات السنين لتقوية الترابط والعيش المشترك بين مكونات المجتمع الجزراوي المختلفة الأديان والأعراق.

يُعَدُّ إيجاد حلول تؤمّن احتياجات السكان من المياه بشكل كافٍ ودائمٍ من أهم الوسائل للوصول إلى الاستقرار والحدّ من الهجرة الداخلية والخارجية. على أن يُنظَر إلى هذه المسألة من ناحية تتجاوز المعطيات الهندسية إلى الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأخذها بعينِ الاعتبار، وتجنُّب جعل مسألة الحصول على المياه أداةً للتسويات السياسية والعسكرية بين الفرقاء (السياسيين والعسكريين) المتنازعين.

تتمثَّل أهمية الدراسة الاستقرائية والتحليلية للأمن المائي في الجزيرة والتطورات التي طرأت عليه خلال العقود السابقة في فهم الآليات وتحديد العوامل التي أسهمت وتُسهِم في إضعاف الأمن المائي ليصار إلى تجنُّبها في رسم السياسة المائية المستقبلية في مرحلتي الإنعاش وبعد الحرب، بحيث تعمل على وقف استنزاف الموارد المائية، وعلى تحييد المياه من الأجندات السياسية والعسكرية في سبيل تحقيق استقرارٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ، والإسهام في تخفيف التوتُّر والاحتقان الاجتماعي بين المكونات السكانية، وتعزيز الترابط الاجتماعي في المجتمع الذي بات يربطه عقدٌ اجتماعيٌّ هشٌّ. 

مقدمة

يرتبط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بالمياه بكونها العامل المحدِّد للبقاء والتنمية في المناطق الجافة وشبه الجافة. لذلك من الضروري إيلاء أهمية لدراسة حيثيات الأمن المائي المُعرَّف حسب الفاو بـ »قدرة السكان على ضمان الوصول المستدام إلى كميات كافية من المياه الجيدة المقبولة للحفاظ على سُبل العيش ورفاهية الإنسان والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولضمان حماية المياه من التلوث، وللحماية من التلوث الناجم عن المياه والكوارث المرتبطة بالمياه (الجفاف والفيضانات)، وللحفاظ على النُّظُم البيئية في مناخٍ من السلام والاستقرار السياسي«1.

 يعاني الأمن المائي في الجزيرة السورية مخاطرَ مرتبطةً بالظروف الطبيعية من جهة. فالمنطقة تتميَّز بمناخٍ جاف وشبه جاف، حيث يكون معدل هطول الأمطار أقل من 200 مم لمساحات شاسعة، بالإضافة إلى التغيرات الموسمية والسنوية في الهطول المطري؛ إذ تتعرض المنطقة لتغيرات الهطول المطري خلال الموسم نفسه، ولسنوات جفاف بشكل دوري تترواح من سنتين إلى خمس سنوات لكل عشر سنوات. وتزيد هذه اللاتأكيدية في روزنامة الهطول المطري من تذبذب الإنتاج الإنتاج الزراعي، وتهدِّد الاستقرار الاقتصادي للمزارعين والأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالقطاع الزراعي.

 ومن ناحية أخرى، أسهمت الحوكمة اللاعقلانية للموارد المائية التي شجَّعت على الاستخدام المكثف للمياه من أجل الزراعة، الأمر الذي أدى إلى تلوث المياه السطحية وانخفاض منسوب المياه الجوفية وزيادة ملوحتها، ومن ثَمَّ جفاف العديد من الينابيع والأنهار2، وأصبح تأمين مياه الشرب للسكان معضلةً جسيمةً، مما دعا المؤسسات الحكومية إلى الاعتماد على جَرِّ المياه من أماكن توفرها إلى أماكن احتياجها في المدن والأرياف بعد أن استُنرِفت  مصادرها المائية المحلية ولم تعُد قادرةً على الاستجابة لمتطلبات السكان3. وفي كثير من الأحيان، تُجر المياه لمسافات تتجاوز 70 كم، مما يجعلها عرضةً للتعدي واستخدامها كأداة عسكرية أو وسيلة تهديد لتحقيق مكاسب سياسية. إذ تَعبُر هذه الشبكات أراضي تسيطر عليها تياراتٌ عسكرية-سياسية مختلفة فيما بينها.

سنركِّز في هذا المقال على حقبة ما بعد ٢٠١١، مع دراسة التغيرات التي طرأت في القرن الماضي، لفهمٍ متعمقٍ للسياق التاريخي لحيثيات الأمن المائي في الجزيرة السورية وأثره في الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي والازدهار الاقتصادي فيها. ولذلك سنتطرق إلى تحليل الظروف الطبيعية التي تُميز المنطقة، وخاصةً ينابيع رأس العين، والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لاستثمارها. وكذلك سندرُس المكونات السكانية في الجزيرة والتحولات التي طرأت على تركيبتها اعتبارًا من بداية القرن الماضي. كما سنتناول تحولات السيطرة العسكرية التي شهدتها الجزيرة (شمال شرق سوريا).

وبعد ذلك سنتحدَّث بالتفصيل عن حوكمة الموارد المائية، وبشكل خاص عن ينابيع رأس العين والتغيرات التي تعرضت لها من سوء الإدارة والجفاف والاستخدام العسكري-السياسي للحصول على المياه واستغلال المياه لتحقيق أجندات سياسية، وما سبَّبته من آثار في التركيبة الاجتماعية للمجتمع الجزراوي.  

منهجية البحث

يشكِّل تحليل عناصر الأزمة واستخدام المياه وتطور استعمال الأراضي والتغيُّر الديموغرافي وآثار الصراع ودور المياه في عملية إعادة الإعمار، القاسمَ المشترك لمنهجية البحث.

تشمل الدراسة المنطقةَ الواقعة على الضفة اليسرى لنهر الفرات من الأراضي السورية، حيث تضمُّ كلًّا من محافظة الحسكة كاملة والأجزاء الواقعة على الضفة اليسرى لنهر الفرات من محافظتي دير الزور والرقة وحلب، وتُسمَّى بالجزيرة السورية، وهي التي يطلق عليها حاليًّا مسمى شمال شرق سوريا في أدبيات المنظمات الإنسانية والصحافة والأبحاث. وسنستخدم في هذا البحث -في أغلب الأحيان- مسمى الجزيرة، وقد نستخدم شمال شرق سوريا. سيركِّز هذا البحث على ينابيع رأس العين والمنطقة المستفيدة منها.

تقع منطقة الجزيرة السورية بين خطي عرض 34.34 – 37.13 درجة شمالًا، وخطي طول 93.37 – 42.42 درجة شرقًا. وتبلغ المساحة الكلية للمنطقة المدروسة حوالي 51100 كم2، تشكِّل المساحة المزروعة منها 30% من المساحة الإجمالية المزروعة في سوريا، وتُعَدُّ مصدرًا رئيسًا للقمح والقطن في سوريا. وتضمُّ المنطقة نهري دجلة والفرات، بالإضافة إلى العديد من الروافد لهما، كالخابور والساجور والبليخ والزركان وجغجغان.

اعتمد الباحث على جمع الوثائق التي تحتوي على البيانات اللازمة لإنجاز البحث. فهي تشمل الخرائط (الطبوغرافية، والجيولوجية، والتربة)، والخطط التنموية، والبيانات الإحصائية، والمقالات، والكتب، والتقارير (منظمات سورية ودولية وجمعيات مدنية سورية). وقد جاء جزء من البيانات من وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد تم التحقُّق من هذه البيانات من قِبل شبكتنا من الخبراء في هذا المجال. وبمجرَّد التحقُّق من صحَّة البيانات، تمت رقمنتها وتنسيقها وتحديدها جغرافيًّا.

وكذلك أجرينا 35 مقابلة لاستكمال البيانات المتوفرة عن طريق استبيان شبه محضر وبأسئلة مفتوحة، وقد أجريت هذه المقابلات في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2020. أما الأشخاص الذين قابلناهم فهم: خبراء سوريون (مهندسون وعلماء هيدروجيولوجي وجغرافيون ومهندسون زراعيون وعلماء سياسيون)، وموظفون حكوميون، وموظفون سابقون في الخدمة المدنية، وموظفون في منظمات غير حكومية ومنظمات دولية تعمل في المجالات المعنيَّة، فضلًا عن السكان المحليين، ولا سيما المزارعين المستغلين لشبكات الري أو الآبار. وقد ركَّزت هذه المسوحات في البداية على الخصائص التقنية والاجتماعية والاقتصادية لمنطقة رأس العين بما فيها محطة ضخ علوك. وبعد ذلك، تناولت الأبعاد السياسية المرتبطة باللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين وأهدافهم الجيوسياسية في المنطقة.

تم استخدام نظام المعلومات الجغرافي كأداة لفهم وتسهيل تحليل التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية مع المياه وأبعادها الجيوسياسية والاقتصاد السياسي على المستويين المحلي والإقليمي. وكذلك استخدمنا نظام المعلومات الجغرافي لإنتاج الخرائط الموضوعية التوضيحية: مناطق الصراع وتحولاتها، والمنشآت المائية، والتوزع العِرقي والديني في المنطقة.

الوضع الجغرافي لشمال شرق سوريا 189946

إن عوامل قوة شمال شرق سوريا الطبيعية عوامل متعدِّدة، فهي غنية بالموارد الطبيعية من المياه والأرض الخصبة والبترول والغاز. وبالإضافة إلى ذلك، فهي تتميز بتنوعٍ مناخيٍّ يسمح بتكامل الإنتاج الزراعي بين شقيه النباتي والحيواني. سيتم التركيز في هذا البحث على الموارد المائية كأحد المقومات الجغرافية، وخاصةً ينابيع رأس العين والتحولات التي طرأت على استخدام مياهها لأغراض الري والشرب، وأثر ذلك في نظامها الهيدروجيولوجي وتدفقها، كونها عصب الحياة والتنمية الاقتصادية في هذه المنطقة. 

تنقسم الجزيرة إلى منطقتَيْن متمايزتَيْن بشكل واضح: الجزيرة العليا في الشمال التي تتمتَّع بمناخ رطب نسبيًّا، والجزيرة الأدنى الجافة. تتلقى الجزيرة العليا أكثر من 250 مم سنويًّا. ويتناقص معدل الهطول المطري السنوي من الشمال الشرقي، حيث معدل الهطول المطري أكثر من 500 مم في منطقة دجلة، إلى الجنوب الغربي، حيث الهطول المطري أقل من 200 مم، مما يشير إلى الانتقال من النظام شبه الجاف إلى النظام الصحراوي (الجزيرة الأدنى) التي تبدأ من الجنوب من جبل عبد العزيز وجبل سنجار في الأراضي العراقية (شكل رقم 1، وجدول رقم 1). يمتدُّ منخفض الحسكة بين جبل عبد العزيز وجبل سنجار، حيث يتدفَّق نهر الخابور الذي ينشأ عند نبع الغزال ضمن الأراضي التركية، ومن ثَمَّ يدخل الأراضي السورية، حيث يلتقي بينابيع رأس العين، قبل أن يصبَّ بالفرات، حيث ينضمُّ إليه العديد من الروافد، التي من أهمها جغجاق عند مستوى مدينة الحسكة والزركان عند مستوى تل تمر4. ويبلغ طول نهر الخابور ما يقارب 320 كم ضمن الأراضي السورية.

تقع ينابيع رأس العين ضمن الحدود الإدارية لمحافظة الحسكة بالقرب من الحدود السورية التركية (شكل 3).  وتُعَدُّ ينابيع رأس العين من أهم الينابيع المتشكِّلة في العصر الكريتاسي، فقد كانت تتميز بمعدل غزارة 45م3 في الثانية، وباستمرارية التدفق على مدار العام وانتظامه. ومن أسماء هذه العيون: عين الزرقاء، وعين البانوس، وعين الحصان، وعين دولاب، وعين الكبريت، وعين سالوبا. وكانت هذه العيون ونهر الخابور يمثّلان شريانَ الحياة، ليس فقط لمنطقة رأس العين، وإنما لجزء كبير من محافظة الحسكة. ونتيجةً للاستخدام البشري اللاعقلاني، تحوَّلت ينابيع رأس العين من الوفرة إلى الجفاف، وأصبح تأمين المياه مشكلةً رئيسةً في محافظة الحسكة.

جدول رقم 1: مناطق الهطول المطري5

معدل الهطول المطري منطقة الهطول المطري
أكثر من 350 منطقة 1
250 – 350 مع معدل هطول مطري أكثر من 250 مم 2 سنة كل 3 سنوات منطقة 2
250 – 350 مع معدل هطول مطري أكثر من 250 مم 1 سنة كل 2 سنة منطقة 3
200 – 250 منطقة 4
أقل من 200 منطقة 5

 

Water Security Management in the Syrian Jazira 1

شكل رقم 1: خريطة توزع مناطق الهطول المطري

التركيبة السكانية في الجزيرة (شمال شرق سوريا)

يسود التنوع العِرقي والديني على التركيبة السكانية في أغلب المناطق الجغرافية السورية، من عرب وكرد وتركمان وشركس وداغستان وأرمن وآشوريين بقبائلهم وعشائرهم المتعدِّدة، منهم المسلمون والمسيحيون واليزيديون بطوائفهم المتعدِّدة. ويوجد أكثر من ثلاثين قبيلة عربية ينضوي في أكنافها أكثر من 350 عشيرة. وكذلك يوجد حوالي أربعين عشيرة كردية6.

تُعَدُّ الجزيرة العليا في سوريا من بين المناطق ذات التنوع الكبير لمكونها السكاني. فالمكون السكاني الجزراوي يضم إليه العرب والأكراد والتركمان والسريان والشركس والآشوريين والكلدانيين والأرمن والشركس والماردلية من يزيديين ومسيحيين ومسلمين (شكل 2) بطوائفهم المختلفة وانتماءاتهم القبلية والعشائرية المتعدِّدة.

يعود هذا التنوع في المنطقة إلى استراتيجية موقعها الجغرافي المتميز بخصوبة تربته ووفرة مياهه والمحاط ببيئة جبلية قاسية من جهة، ومن جهة أخرى البادية ذات المناخ الجاف. فقد شكَّلت عبر التاريخ حتى يومنا هذا نقطة التقاء لإمبراطوريات متصارعة وإقطاعات وإمارات متنازعة. فقد تعرضت المنطقة لسياسات استيطانية متنوعة. ففي القرن الماضي وبداية القرن الحالي، نفذت السلطات السياسية-العسكرية المتعاقبة لكلٍّ من الانتداب الفرنسي والقوميين وحزب البعث واللاعبين الجدد الذين تنامى دورهم من عام 2011 (تنظيم داعش وقوات سوريا الديمقراطية) إلى يومنا هذا تعديلًا غائيًّا في ميزان التركيبة السكانية بهدف تثبيت سلطتهم في منطقة مناهضة لوجودهم و/أو أيديولوجيتهم. وقد نتج عن هذه الاستراتيجيات الاستيطانية تركيبةٌ سكانيةٌ يسود فيها عقدٌ اجتماعيٌّ هشٌّ.

Water Security Management in the Syrian Jazira 2

شكل رقم 2: التوزع الديموغرافي في شمال شرق سوريا

نستعرض هنا السياسة الاستيطانية بشكل موجز واعتبارًا من نهاية الفترة العثمانية. تشير الدراسات إلى أن السلطات العثمانية لم تتدخل ديموغرافيًّا في الجزيرة العليا إلا في نهاية القرن التاسع عشر. فقد حافظت على التركيبة السكانية للمنطقة لفترات طويلة كما كانت عليه عند فرض سيطرتها عليها. وتشير المراجع إلى أن التركيبة السكانية كانت مكونةً من غالبية عظمى من القبائل العربية الرُّحَّل والكردية شبه الرُّحَّل. وكانت تنتشر في الجزيرة كلٌّ من القبائل العربية (شمر، وطي، والبقارة الجبور، والشرابين، وقيس…) والقبائل الكردية شبه الرحل (المللي، ودقورية، وهوركان، وشتاية)، حيث ينزلون من الجبال في فصل الشتاء7. كما أن المنطقة تضمُّ اليزيديين، في حين أن عشائر الحسنان والميرا الكردية يعيشون في قرى بين هضاب كراتشوك ونهر دجلة، بالإضافة إلى المسيحيين واليهود. وقد تداول كلٌّ من القبائل العربية والكردية حقَّ استخدام المراعي والينابيع. وفي حين أن العرب يحطون فيها قادمين من البادية في الصيف، تكون القبائل الكردية في الجبال المجاورة. أما في الشتاء، فتنزل القبائل الكردية إليها من الجبال في حين أن القبائل العربية تعود للبادية8. أما القلة من المزارعين المقيمين، فكانوا يعيشون تحت ضغط الخوة والغزوات القادمة من البادية والجبال المحيطة. إلا أنه في القرن التاسع عشر بدأ العثمانيون استراتيجية حماية المناطق الزراعية من غزو القبائل الرحل وشبه الرحل، فلجؤوا إلى توطين السكان في المناطق المتاخمة للقبائل الرحل مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية (سفر برلك). فكان لمنطقة الجزيرة نصيبٌ من هذا التوطين، حيث وصل الشركس إليها في سنة 1876. أما كبار المالكين الأتراك في الجزيرة، فهم قاطنون في ماردين.

بعد تفكيك الدولة العثمانية إلى عدَّة دولٍ إبان خسارتها الحرب العالمية الأولى، حصلت فرنسا من عصبة الأمم في عام 1919 على حق انتداب سوريا وَفْقَ الحدود المرسومة في اتفاقية سايكس بيكو التي اعتبرت جبال زاغروس حدودًا طبيعيةً للدولة السورية من الجهة الشمالية. إلا أن قوات الانتداب وُوجِهت بمعارضة شديدة وحركات مقاومة في الجزيرة العليا وحلب. وقد أسهمت هذه المقاومة في تراجع قوات الانتداب عن العديد من المناطق، كغازي عنتاب وشانلي أورفة وكهرمان مرعش. وفي السياق نفسِه، انسحبت فرنسا من كليكية وجزيرة ابن عمر وماردين مقابل التهدئة وفق اتفاقية أنقرة عام 1921 الموقَّعة بين الأتراك والفرنسيين، لكن هذه المرة عن طريق القنوات الدبلوماسية، حيث حقَّقت الدبلوماسية التركية نجاحًا في ذلك. إلا أن القلاقل لم تتوقف والدعم التركي للمناهضين للوجود الفرنسي قد استمر.  ولمواجهة ذلك، لجأ المندوب السامي الفرنسي إلى تبنّي سياسة سكانية تعتمد على التوطين لتغيير ميزان التركيبة السكانية في المنطقة لتخفيف ضغط المناوئين للانتداب وتثبيت الحدود مع تركيا، وقد تمثَّلت هذه السياسة في سياسة الترحيب باللاجئين المسيحيين من البلدان المجاورة وتوطينهم في الجزيرة: الآشوريون من العراق، والأرمن والسريان من تركيا، والأكراد الفارون من تركيا. وفي الشأن ذاته، تابع المندوب السامي تنفيذ سياسة توطين قوية للبدو الرحل التي بدأتها السلطات العثمانية قبيل انهيارها. وقد أدت هذه السياسات إلى تغيُّر الوجه الديموغرافي للجزيرة العليا إلى حد كبير بعد عقدٍ من الزمن.  قبل عام 1927، كان عدد القرى الكردية بالكاد 45 قرية. وفي عام 1941، وصل عدد سكان الجزيرة العليا إلى 141390 نسمة مكونة من 57999 ألف كردي (شبه رحل ومستقرين)، و48749 عربيًّا من البدو والمقيمين، و34945 مسيحيًّا من مختلف الطقوس واللغات.

بعد خروج سلطة الانتداب وبزوغ التيار العربي متأثرًا بالنظريات القومية السائدة في تلك الفترة، تمثَّلت إعادة هيكلة التركيبة السكانية في الجزيرة في هذه الفترة من خلال إحصاء عام 1962، الذي نُفذ في يوم واحد الموافق 5 أكتوبر/تشرين الأول. وبناءً عليه، قُسِّم الأكراد في الحسكة إلى أكراد مواطنين، وأكراد أجانب مسجلين في القيود الرسمية، وأكراد لا وجود لهم بالسجلات9. وقد شكَّل إحصاء عام 1962 وسيلةً قانونيةً إقصائيةً لحرمان الفلاحين الأكراد من الانتفاع من قانون الإصلاح الزراعي كونهم غير سوريين، ومن ثَمَّ جرى توزيع الأراضي التي سيطر عليها كبار المالكين في الجزيرة على الفلاحين غير الأكراد في كثيرٍ من الأحيان، والذين جرى استقدامهم من مناطق أخرى. وقد اعتبر الأكراد هذه الخطوة مرحلةً من مراحل التغيير الديموغرافي للمنطقة، وخطوةً ضمن عملية الحزام العربي في منطقة الجزيرة.

تابع حزب البعث بعد استلامه السلطة سياسةَ إعادة الهيكلة السكانية من خلال الترحيل الإرادي من خلال ضعف الاستثمارات الحكومية في المنطقة، مما دعا السكان إلى مغادرتها إلى المدن الكبيرة بحثًا عن العمل، وخاصةً الأكراد الذين حُرموا من الجنسية. وفي الوقت ذاته، كانت الأراضي الزراعية المصادرة من كبار المالكين وغير الموزَّعة على الفلاحين تُستثمر من قِبَل المتنفذين في السلطة السياسية والعسكرية والإدارية.

استمرت عملية الهَيكَلة السكانية في عهد حافظ الأسد. ففي عام 1975، جرى تبنّي قرار إعادة توطين ما يقارب 60000 نسمة من العرب في الجزيرة العليا على الحدود السورية-التركية من الذين غُمرت قُراهم بمياه البحيرة المنشأة على سد الفرات بمساحة 665 كم2. فقد تسبَّبت البحيرة في غمر حوالي 190 قرية ومزرعة من الطرف الأيمن لنهر الفرات المملوكة من قِبَل عشيرة الولدة10. في بداية الأمر، رفض شيوخ عشيرة الولدة وأعضاؤها الانتقالَ إلى القامشلي في لقائهم مع الرئيس حافظ الأسد الذي جرى في عام 1974. إلا أن الشيخ شواخ البورسان تراجع عن رفضه وأعطى موافقته للرحيل باتجاه القامشلي للرئيس حافظ الأسد بعد الاجتماع الخاص والمغلق الذي ضمَّه مع الرئيس عندما كان الشيخ شواخ مدعوًّا مع شيوخ العشائر والقبائل السورية من الرئيس الأسد لاستقبال الملك فيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية لدى زيارته إلى سوريا في عام 197511. وبناءً على ذلك، فقد هُجّر عرب الولدة 10 بسبب الغمر الذي تعرضت له أراضيهم وقراهم، وعُوّضوا عن ذلك من الأراضي المصادرة من كبار الملاك الأكراد في الجزيرة العليا (شكل 3) في مناطق ذات أغلبية كردية في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي12. أما القسم الآخر، فقد تمَّ تعويضه من مزارع الدولة حول مدينة الرقة. ومن الجدير بالذكر أن الشيخ علي أنور -وهو أحد شيوخ البورسان- رفض التعويض المقترح في مناطق الجزيرة؛ لأنه اعتبر أن الأراضي المقدمة إليهم كتعويض هي أراضٍ مغتصبة من أصحابها ولا يجوز تملُّكها (مقابلة مع أحد أبنائه). وبعد غمر قريته، استأجر الشيخ علي أنور البورسان منزلًا في الرقة، ثم هاجر إلى تركيا بعد تدهور الأوضاع في الرقة، حيث وافته المنية في 4 يناير/كانون الثاني من عام 2020 في مدينة شانلي أورفة.