ديناميات السياسة الخارجية الإماراتية تجاه الصراعات الإقليمية

الملخَّص: أطلق الربيع العربي، الذي اجتاح معظم البلدان العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أواخر عام 2010، مرحلةً جديدةً غيَّرت في الوقت نفسِه النظام الإقليمي وسلوك بعض الجهات الفاعلة في المنطقة. وخلال هذا، حاولت الإمارات الظهور كلاعب إقليمي رئيس وقوة إقليمية عبر استخدام ركائز القوة بين الأدوات الناعمة والصلبة في ظل التطورات الناتجة عن الانتفاضات الشعبية وتراجع القوى الإقليمية العربية التقليدية کمصر وسوريا والعراق. وفي غضون ذلك، كانت الثروة مفتاحًا للنخبة الإماراتية الحاكمة لتسويق وتقديم نفسها أمام القوى الكبرى باعتبارها لاعبًا قادرًا على المشاركة في الترتيبات الأمنية للإقليم، وليس فقط طرفًا خاضعًا للترتيبات التي تفرضها القوى الإقليمية والعالمية.

وعلى مدى العقد الماضي، اتبعت الإمارات سياسةً خارجية خشنة وعدوانية إلى حدٍّ ما، حيث اعتمدت في كثير من الأحيان على أدواتٍ صلبة من خلال التدخلات العسكرية المباشرة والدعم العسكري لشركائها المحليين. إذ لعبت أبوظبي دورًا مهمًّا في قمع الاحتجاجات الشعبية في البحرين، والإطاحة بنظام الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، ودعم انقلاب عبد الفتاح السيسي ضد حكومة الإخوان المسلمين في مصر، والدعم الواسع النطاق لقوات خليفة حفتر ضد الحكومة المدعومة دوليًّا في ليبيا، ومشاركتها في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتعاون الفعَّال مع السعودية في التحالف العربي في اليمن.

لكن مع هدوء الاضطرابات التي أعقبت ثورات الربيع العربي، شهدت السياسة الخارجية لدولة الإمارات تغيراتٍ عديدة منذ بداية عام 2021، الذي أطلق عليه البعض عام التهدئة؛ إذ إنها حاولت التكيُّف مع الظروف الجديدة على الساحة الإقليمية والدولية دون تغيير أهداف سياستها الخارجية. ويبدو أن الجهد الإقليمي للإمارات يتجه نحو نهجٍ أكثر حذرًا وواقعية، كما يتم توجيه المزيد من الاهتمام والموارد إلى قضايا أخرى.

وفي الآونة الأخيرة، كان هناك تغيير واضح في السياسة الإقليمية للإمارات، ويظهر هذا التغيير في الحدِّ من مشاركتها في عددٍ من بؤر الصراع في المنطقة. حيث سحبت الإمارات معظم قواتها البرية من اليمن عام 2019، كما قلَّصت مشاركتها العسكرية في ليبيا منذ عام 2020، وفي أوائل عام 2021، وردت أنباء أن الإمارات تبحث تخفيض وجودها العسكري في إريتريا وأرض الصومال في القرن الأفريقي.

تسلِّط هذه الورقة التحليلية الضوءَ على التغيرات والتحولات في السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهو ما فرض ثلاثة أسئلة أساسية تسعى إلى الإجابة عليها؛ أولًا: ما هي التغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية لدولة الإمارات خلال الخمسين سنة الماضية؟ وثانيًا: ما هو نهج السياسة الخارجية الإماراتية إزاء الصراعات الإقليمية؟ وثالثًا: ما أسباب التحول الأخير في السياسة الخارجية لدولة الإمارات؟

المقدمة

شهدت السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة العديد من التغييرات على مدار الخمسين سنة الماضية. فانتهجت على مدى العقود الثلاثة التي قادها مؤسِّسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان سياسةً وسطية حيادية إلى حدٍّ كبيرٍ في القضايا الإقليمية والدولية، وارتبطت بعلاقات وثيقة مع بلدان الخليج الأخرى، وكذلك الدول العربية والإسلامية. كما اتَّسمت تلك الفترة أيضًا بالتزام الإمارات بقضايا العروبة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وقد شاركت في الحظر النفطي إبان حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 لدفع الدول الغربية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967([i]).

ومع بداية الألفية الثانية، طرأت تحولاتٌ كبيرة على سياسة البلاد الخارجية، حيث ركَّزت اهتمامها على التغيرات الطارئة على الاقتصاد العالمي، وسعت إلى إيجاد مكانٍ لها في مجالات كالطيران المدني والطاقة المتجدِّدة، كما عمَّقت علاقاتها بالولايات المتحدة، لا سيما في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

وطوال العقد الماضي، ازدادت إسهاماتها الأمنية الإقليمية بشكل مطرد، ليس فقط في منطقة الخليج، بل على نطاق أوسع في المنطقة العربية. فقد شاركت في عملية الناتو في ليبيا عام 2011، فضلًا عن مشاركتها في قوات درع الجزيرة التي دخلت البحرين في العام ذاته لإخماد مظاهرات تطالب بالإصلاح في عدَّة مدن بحرينية. وفي عام 2014، شاركت الإمارات في الحملة الجوية التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

وفي موقف أكثر تحديًا، نفذت الإمارات ضربات جوية محدودة في ليبيا ابتداءً من عام 2014، وساعدت القائد العسكري الليبي خليفة حفتر في تمرده المسلح ضد الحكومة الليبية التي حظيت باعتراف أُممي. كما شاركت في عام 2015 في أكبر التزام عسكري لها حتى الآن، حيث انضمَّت إلى التحالف العربي بقيادة السعودية الذي أطلق عملياته ضد الحوثيين في اليمن. وكان هدف أبوظبي هو تشكيل النظام الإقليمي من خلال بناء القواعد العسكرية والموانئ والدعم المالي والمشاركة الدبلوماسية ودعم الوكلاء وتوطيد التحالفات مهما كانت فضفاضة([ii]).

لكن على مدار العامين الماضيين، شهدت السياسة الخارجية الإماراتية تغيرًا واضحًا، حيث وصفها وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية أنور قرقاش بأنها “إعادة فحص” للتطورات، فيما فضَّل مراقبون وصفها باتجاه “تصفير المشاكل”. ويظهر هذا التغيير في الحدِّ من مشاركتها في مناطق الصراع؛ إذ سحبت الإمارات معظم قواتها البرية من اليمن في عام 2019، على الرغم من الاتهامات لها بإبقاء مليشيات محلية موالية لها تنفذ كل توجهاتها. كما قلَّصت مشاركتها العسكرية في ليبيا منذ عام 2020، وذلك مع استمرار مشاركتها المنخفضة ودعم الفصائل المحلية في هذه المسارح.

وفي أوائل عام 2021، وردت أنباء أن الإمارات تبحث تخفيض وجودها العسكري في إريتريا والصومال في القرن الأفريقي. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021، قام وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد بزيارة إلى سوريا، كأول زيارة رسمية لمسؤول عربي كبير إلى دمشق، وقد بحث مع بشار الأسد العلاقات الثنائية بين البلدين، وسُبل تطويرها في مختلف المجالات([iii]).

ويتزامن هذا التغيير في سياسة الإمارات مع تعديل وزاري؛ حيث في بداية عام 2021، تولَّى الشيخ شخبوط بن نهيان منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية خلفًا لأنور قرقاش الذي يمثِّل الصقور، والذي عمل على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وقاد دبلوماسية هجومية خلال الأزمة مع قطر، كما روَّج بقوة لدور الإمارات في صراع ليبيا والحرب في اليمن.

وبناءً على هذا، تسعی هذه الورقة البحثية إلى الإجابة عن ثلاثة أسئلة رئيسة؛ أولًا: ما هي التغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية لدولة الإمارات خلال الخمسين سنة الماضية؟ وثانيًا: ما هو نهج السياسة الخارجية الإماراتية إزاء الصراعات الإقليمية؟ وثالثًا: ما أسباب التحول الأخير في السياسة الخارجية لدولة الإمارات؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، تمَّ تقسيم هيكل البحث إلى ثلاثة أقسام.

فبعد تقسيم التغييرات التي حدثت في السياسة الخارجية لدولة الإمارات في الخمسين سنة الماضية وبيان السمات البارزة لكل فترة، سيتم تحليل نهج السياسة الخارجية لدولة الإمارات في التعامل مع الصراعات الكبرى في المنطقة، وتحديدًا سوريا وليبيا واليمن، وفي النهایة سيتم دراسة أسباب التحول الأخير في السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة.

ديناميات السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة

رافقت السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة ديناميات وتغيرات نوعية منذ عام 1971 إلى الوقت الحاضر، يمكن تقسيمها إلى أربع فتراتٍ تاريخية متميزة.

الفترة الأولى: منذ قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1971 إلى غزو العراق للكويت في عام 1990.

والفترة الثانية: من المشاركة في هجوم التحالف الدولي ضد النظام البعثي في ​​العراق عام 1991 حتى اندلاع ثورات الربيع العربي في بداية العقد الماضي.

والفترة الثالثة: من اتساع رقعة الثورات العربية في عام 2011 حتى عام 2020.

وأخيرًا الفترة الرابعة: منذ بداية عام 2021 إلى الوقت الحاضر، وتُسمَّى بـ”تصفير المشاكل” في السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة.

الفترة الأولى: لسنوات عديدة، وتحديدًا منذ ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة مؤسِّسها، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تتبع سياسةً وسطيةً تضع الوساطة في القضايا الإقليمية في قلبِ علاقاتها الدولية. وقد اختار الشيخ زايد، الذي أسَّس اتحاد الإمارات السبع في مطلع السبعينيات، دورَ النأي بالنَّفْس عن معظم قضايا المنطقة. حيث إن السَّمْت العام للإمارات في ظل حكم الشيخ زايد كان سمتًا هادئًا يراعي تنمية البلد وعدم الانخراط في الحروب والصراعات والانقلابات.

ففي عهد حكم الشيخ زايد، الذي امتدَّ من عام 1971 وحتى وفاته في عام 2004، انتهجت الإمارات العربية المتحدة سياسةً خارجية مُعتمِدة أساسًا على العلاقات الوثيقة مع دول الخليج، وأيضًا مع الدول العربية والإسلامية. وقد كان الشيخ زايد يؤكِّد، خلال السنوات الأولى لبناء دولة الإمارات العربية المتحدة، على إقامة علاقات صداقة مع جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وكذلك مع أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي بعد إنشائه في عام 1981.

وفي حزيران/يونيو من العام 1972، أدلى الشيخ زايد بتصريحٍ لصحيفة “الأمل” قال فيه حينها: إن “الاتحاد حريص على أن يكون له موقف موحَّد، وأن يسير في نفس الاتجاه ويتبع نفس النهج الذي تنتهجه المملكة العربية السعودية”([iv]).

أما السمة الأخرى البارزة، التي كانت تطبع السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة خلال السنوات الأولى من فترة تأسيس النظام الفيدرالي، فهي الالتزام بـ”العروبة”، وبشكل أخص بقضية فلسطين، وقد اتخذت نصرة فلسطين أشكالًا سياسية ومالية على حدٍّ سواء. هذا، وقد شاركت دولة الإمارات العربية المتحدة في الحظر النفطي العربي الذي استمرَّ من تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 وحتى آذار/مارس عام 1974، وقد خفضت تلك الدول آنذاك صادراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا كردِّ فعل على دعمهما إسرائيل خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر، وقدَّمت في الوقت نفسِه دعمًا واسع النطاق للدول الواقعة على “خط المواجهة” في الصراع مع إسرائيل([v]).

كما قدَّمت جهات متبرعة، تتخذ من دولة الإمارات مقرًّا لها، إعاناتٍ إغاثية معتبرة وعددًا من المساعدات المباشرة للإسهام في التنمية داخل فلسطين، التي قدَّرها عبد المنعم المشَّاط بأكثر من عشرين مليار دولار مُوزَّعة على فترة عقدي السبعينيات والثمانينيات([vi]).

تأثَّرت السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها وحتى احتلال النظام العراقي للكويت في عهد صدام حسين بظروفها الجيوسياسية ووجهات نظر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان القائمة على الميول الإسلامية والعربية. والدليل على هذا القول هو مشاركة الإمارات في إنشاء مجلس التعاون الخليجي، وعلاقاتها الوثيقة مع جامعة الدول العربية، ودعم الإمارات للقضية الفلسطينية ومساعدتها للفلسطينيين، وقطع العلاقات مع مصر بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام عام 1979 مع إسرائيل. وخلال السبعينيات والثمانينيات، استندت السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة إلى الاعتدال في الشؤون الدولية، وتمثَّلت في الوساطة في النزاعات الإقليمية([vii]).

كان الشيخ زايد يؤمن إيمانًا قويًّا بالأيديولوجية العربية، وشكَّل إلى حد كبير السياسةَ الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة، وذكر أن هموم الإمارات تجاه العالم الخارجي تشمل الحفاظ على العلاقات الطيّبة والتعاون بين الإمارات ودول الجوار، وحلّ النزاعات بالطرق السلمية، والالتزام بمبادئ الإمارات تجاه العالم العربي، وتحسين التضامن الإسلامي، والتعاون مع الدول الإسلامية في جميع المجالات.

وفي هذا الصدد، يعتقد الخبير في شؤون الشرق الأوسط جريجوري جوس أن آراء الشيخ زايد في السياسة الخارجية کانت تستند إلى ثلاث ركائز أساسية: الحفاظ على نوعٍ من توازن القوى في الخليج بحيث لا يمكن لدولة الهيمنة على تلك المنطقة، والرغبة في التسوية مع الجيران إذا كان ذلك يُسهم في استقرار المنطقة، والرغبة في المصالحة مع الجيران في سياستهم النفطية([viii]). وبشكل عام، كانت قضايا مثل الالتزام بالقضايا العربية والإسلامية، والتعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي والتنسيق مع السعودية، والتركيز على القضية الفلسطينية من السمات البارزة للفترة الأولى من السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة في عهد الشيخ زايد آل نهيان.

الفترة الثانية: بدأت هذه الفترة، التي تمثِّل فصلًا جديدًا في السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة، في أوائل التسعينيات مع غزو العراق للكويت حتى اندلاع ثورات الربيع العربي. فمع نهاية عقد التسعينيات، طرأت تحولات كبرى على سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة الخارجية، وذلك بعد تقدُّم السنِّ بالشيخ زايد، وتحول اهتمام دولة الإمارات تدريجيًّا عن الالتزام بالقضايا العربية والإسلامية وانخراطها وتفاعلها الاستباقي مع أهم التطورات الطارئة على الاقتصاد العالمي ونظام الحكم الدولي من أجل مُراكمة قدراتٍ احتياطية هائلة من القوة “الناعمة” و”الصلبة”، وإيجاد مكانٍ لها في مجالات اقتصادية مختارة بعناية، مثل مجال الطيران المدني والطاقة المتجدِّدة والتمويل الدولي().

دفع غزو العراق واحتلاله للكويت في عام 1990 الدولَ الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي إلى تكثيف التعاون الأمني ​​مع الولايات المتحدة لتجنُّب التهديدات الإقليمية. ويُعَدُّ هذا التعاون حتى الآن الركيزةَ الأساسية للبرامج الأمنية والسياسية لدول الخليج، بما في ذلك الإمارات. بمعنى آخر: إن العلاقة مع الولايات المتحدة هي العمود الفقري لسياسات الإمارات في المنطقة.

هذا، وقد تعمَّقت العلاقات الإماراتية مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. ومن ثَمَّ ظلت العلاقة مع واشنطن تمثِّل حجر الزاوية في سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة الخارجية. وانطلاقًا من هذا، شاركت الإمارات عسكريًّا، إلى جانب قوات الولايات المتحدة الأمريكية، في كل صراعات الشرق الأوسط منذ حرب الخليج عام 1991، باستثناء غزو العراق بقيادة أمريكية في عام 2003()

ويُعَدُّ وجود الإمارات العربية المتحدة إلى جانب قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في غزو أفغانستان عام 2001 الخطوةَ الثانية في تغيير موقف البلاد من القضايا الدولية. فقد كان هذا الحضور دليلًا على مزيجٍ من عناصر القوة الناعمة والصلبة في مجال السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة. ففي فترة ما بعد عام 2001، شاركت وحدات القوات الجوية الإماراتية، باعتبارها الحكومة العربية الوحيدة الموجودة في أفغانستان، في الأنشطة الإنسانية، بما في ذلك تقديم الخدمات الطبية، بالإضافة إلى دعم العمليات القتالية للقوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي().

وجدير بالذكر أن جزءًا من الفترة الثانية من السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة كان في عهد الشيخ زايد، والجزء الثاني في عهد الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان. أما سِمتا رئاسة الشيخ خليفة بن زايد فهما تعزيز العلاقات مع الدول الأوروبية، وخاصةً الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، والقيام بدور فاعل في الأزمات الإقليمية والدولية.

ويعود أحد أسباب التغيير في السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة في مرحلة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى التحوّل على مستوى الجيل الذي يتولَّى زمام القيادة؛ إذ أصبح محمد بن زايد آل نهيان في أبوظبي ومحمد بن راشد آل مكتوم في دبي أكثر بروزًا في مجال صنع القرار بعد وفاة والدَيهما في عامَي 2004 و2006 على التوالي. وقد اعتُبِر محمد بن راشد ومحمد بن زايد شخصيتَيْن تحديثيتَيْن وطموحتَيْن، وعلى الرغم من الاختلاف إلى حدٍّ ما في مقاربة كلٍّ منهما للتنمية في دبي وأبوظبي، فإنهما يتشاركان القدرة والاستعداد لطرح أفكار طموحة().

الفترة الثالثة: وفَّرت هذه الفترة، التي تزامنت مع اندلاع ثورات الربيع العربي، الظروفَ لطموحات قادة الإمارات في أن يصبحوا لاعبين إقليميين. وخلال هذه الفترة، أضيفت القوة العسكرية وسيلةً لتحقيق أهداف أجندة السياسة الخارجية. والدليل على هذا التحليل هو السلوك العدواني لدولة الإمارات في المنطقة خلال فترة الربيع العربي. وبعبارة أخرى: كان الربيع العربي بمثابة حافز لبداية فصل جديد في السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة. وفي هذا الصدد، فإن زيادة التحركات الإقليمية الإماراتية في فترة ما بعد الربيع العربي، کالتدخل العسكري في اليمن، هي علامة على الانتقال إلى سياسة خارجية عدوانية وطموحات دولة صغيرة لتصبح لاعبًا إقليميًّا().

شكَّلت الانتفاضات العربية عام 2011 نقطة تحولٍ في توجُّه السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة من الدبلوماسية الحذرة إلى السياسة العدوانية. وقد دخلت السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة مرحلة جديدة في فترة ما بعد الربيع العربي. فمن جهة، شهدت هذه الفترة تراجع مكانة الهويات العربية والإسلامية، ومن جهة أخرى تعزيز الاهتمام بالبُعْد الإقليمي والدولي. وباستثناء المشاركة في الحملة العسكرية التي قادها الناتو ضد الرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي، في عام 2011، فإن أول خطوة تدخلية للإمارات هي مشاركتها، ماليًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، في الانقلاب العسكري، عام 2013، ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي.

وشجَّع هذا الإمارات، وبجانبها السعودية، على المشاركة أكثر، مُتْبِعين هذه الخطوة بخطوات أكثر خشونةً: عملية الكرامة لمساعدة الجنرال خليفة حفتر، للسيطرة على شرقي ليبيا، عام 2014، في انقلابه ضد حكومة الوفاق الوطني، وعملية عاصفة الحزم ضد الحوثيين، تحت مظلة التحالف العربي بقيادة السعودية، عام 2015، وحصار قطر، والتوسُّع في القرن الأفريقي، ودعم المجلس العسكري الانتقالي السوداني للوصول إلى السلطة. ولم يكن الصراع السوري استثناءً من ذلك().

وعلى العموم، لقد ساعدت ثلاثة أحداث مهمَّة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية في تعزيز هذه المرحلة التدخلية في السياسة الخارجية للإمارات. فعلى المستوى المحلي، تتمثَّل نقطة التحول الرئيسة في السياسة الخارجية لدولة الإمارات في انتقال السلطة إلى جيلٍ من القادة الشباب والطموحين منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ففي عام 2004، توفي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي كانت توجهاته الخارجية الكبرى تعتمد على قراراته منذ البداية، وخلفه نجله الشيخ خليفة بن زايد. وبعد عامين من وفاة الشيخ زايد، توفي الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم أيضًا في عام 2006، وانتقلت السلطة إلى شقيقه الشيخ محمد بن راشد، رئيس الوزراء الحالي لدولة الإمارات العربية المتحدة .()

ومن الفترة الثالثة فصاعدًا، تمَّ تحديد معظم السياسة الخارجية للإمارات العربية المتحدة وتنفيذها من قِبَل شقيق الشيخ خليفة بن زاید، محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي السابق، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي. كما لعب وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، ومستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد دورًا مهمًّا ومؤثرًا في عملية صنع القرار. ويُعَدُّ محمد بن زايد، الذي يعتبر الشخصية السياسية والعسكرية لدولة الإمارات العربية المتحدة، هو أقوى مسؤول في الإمارات منذ عام 2014، ولديه صلاحيات واسعة. فبعد تدهور الحالة الصحية لرئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد في عام 2014، أصبح محمد بن زايد يدير السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة.