ملخص:

لطالما جذبت الانتخابات الرئاسية الإيرانية أنظار العالم. وتستحق الانتخابات الرئاسية الثانية عشر، المُقرَّر عقدها في التاسع عشر من مايو/أيَّار الماضي، المتابعة عن كثبٍ من قِبَلِ الجمهور الدولي أيضاً. وبصورةٍ خاصة، سيكون لهذه الانتخابات تأثيرٌ على ما إذا كان إلهاب العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة خاصةً، والتي بدأت مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، سيستمر في أعقابِ انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب العنيد على نحوٍ ملحوظ. بل إن الأهم من ذلك هو كيف ستؤثر هذه الانتخابات على النقاشات الدائرة حول من سيكون المرشد الأعلى الإيراني الجديد في الأيامِ المقبلة. ومن هنا، يتعيَّن على النخب السياسية الإيرانية أن تختار تكتيكاتها في هذه الانتخابات بدقةٍ أكثر بكثيرٍ من مجرَّد أن تتمخَّض عن اختيار رئيس.

مقدمة

يُعد 19 مايو/أيَّار يوماً مهماً بالنسبةِ لإيران، إذ سيشهد انتخاب الرئيس الثاني عشر، وانتخابات المجالس البلدية أيضاً. وسيشغل سؤال من سيكون الرئيس الإيراني المقبل اهتمام الجمهور الدولي إلى جانب الجمهور داخل إيران أيضاً. وستمثِّل هذه الانتخابات قراراً حاسماً لإيران والعالم على حدٍ سواء في ما يتعلَّق بما إذا كانت إيران ستتخذ مساراً مختلفاً وجديداً بعد الاتفاق النووي الذي عقدته مع مجموعة “5+1” في ظل الرئيس الحالي، روحاني. وعلاوة على ذلك، ليس من الصعب إدراك السبب في أن نقطة الضعف هذه في النظام العالمي تتطلَّب متابعة الانتخابات الإيرانية عن كثب. لذاك ستكون هذه الانتخابات في معرضِ تدقيقٍ من الكثير من الأبعاد المختلفة – الفصائل السياسية، ومؤهلات المُرشَّحين، وتعهُّداتهم، وموضوعات النقاش، والنتائج المُحتَمَلة وآثارها. لكن هذا التحليل يناقش أيضاً جانباً من الانتخابات الرئاسية لا علاقة له بالسباق نفسه. ولمزيدٍ من التوضيح، يناقش المقال مثالين لكيفية استخدام فصائل سياسية مختلفة هذه الانتخابات للتأثير في البنية السياسية الإيرانية.

كيف أصبح إبراهيم رئيسي مرشحاً؟

عُيِّن إبراهيم رئيسي، الذي كان سابقاً عضواً رفيع المستوى في السلطة القضائية في إيران، من قِبَلِ المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لرئاسة مؤسسة أستان قدس الرضوي، وهي المؤسسة الأكبر في البلاد والتي سُمِّيَت على اسم ثامن الأئمة الاثنى عشر، الإمام علي الرضا. وكان الإمام ذو الـ56 عاماً واحداً من المُرشَّحين المُحتَمَلين الذي كان يُذكَر اسمه في سياق الخلافة المُحتَمَلة للمرشد العام خامنئي. يحظى رئيسي بدعمٍ جديٍ من جناحٍ من الحرس الثوري الإيراني، وهو عضوٌ في الوقت نفسه في مجلس خبراء القيادة المسئول عن اختيار المرشد الأعلى. وتدريجياً، بدأ اسم رئيسي في الظهورِ أكثر فأكثر على الساحة، خاصةً في الآونةِ الأخيرة، بعد انتشارِ شائعاتٍ حول مرض خامنئي.

من الجدير أن نلقي نظرة على سيرة رئيسي هنا. كان رئيسي في العشرين من عمره مساعداً للمدعي العام في مدينة كرج بمحافظة البرز، غربي طهران، في أثناء الثورة الإسلامية. وفي غضون أشهرٍ قليلة، صار المُلا الشاب المدعي العام للمدينة، ومهَّدَ استغلاله القاسي، والذي أتى بثماره، لمنصبه ضد المعارضة، الطريق له ليتولَّى منصب المدعي العام لمدنية همدان، إضافةً للمنصب نفسه في كرج.

وبعد ثلاثة أعوام كمدعٍ عام في همدان، أصبح رئيسي مدعٍ عام في محكمة طهران الثورية. وبتوليه هذا المنصب، فقد صار واحداً من أربعة أعضاء في هيئة المحلفين التي أصدرت أحكاماً بالإعدام بحقِ سلسلةٍ من الشخصيات المعارِضة. ومن غير المعروف كم يبلغ عدد أولئك الذين حُكِمَ عليهم بالإعدام في جلساتِ محاكماتٍ لم تتجاوز أيٌ منهن بضع دقائق في العام 1988، مع أن آية الله منتظري، الذي كان نائباً للمرشد الأعلى آية الله الخميني آنذاك ومن ثم عُزِلَ من منصبه، ذَكَرَ أن بين 2800 إلى 3800 شخص أُعدَموا خلال تلك الفترة. تولَّى رئيسي، الذي أثبت ولاءه للثورة بمواقفه الحازمة والقاسية، مناصب مهمة في النظام القضائي في إيران. وأخيراً في العام الماضي، 2016، عَيَّنه خامنئي للمؤسسة الأثرى والأكثر تميُّزاً في البلاد.

إذا نظرنا إلى السيرة الوظيفية لرئيسي، التي لخَّصناها أعلاه، يمكننا في الحقيقة إدراك أنه ليس اسماً مهماً أو مؤثِّراً بصورةٍ خاصة في السياسة الإيرانية. لكن، كيف أصبح إذاً مُرشَّحاً في الانتخابات الرئاسية؟ والأهم من ذلك، لماذا عَمَدَ قادةٌ مُحافِظين كانت أسماؤهم تتردَّد في ما يتعلَّق بالرئاسة، مثل سعيد جليلي، إلى الانسحاب إلى خلفيةِ المشهد فجأةً، أو تنازلوا عن ترشُّحهم لصالح رئيسي؟ إذا نظرتم إلى الكثير من الشخصيات المُحافِظة الهامة التي كانت تنتظر الترشُّح للانتخابات الرئاسية، سيُحضِر هذا النفوذ والشعبية المُفاجِئين لرئيسي للأذهان فكرةَ أن هذا الترشُّح كان تكتيكاً يخدم غرضٍ آخر. وعند هذه النقطة، حريٌ بنا أن نعود إلى النقطة الهامة السابقة وأن نتذكَّر أن رئيسي يُعد واحداً من الأسماء التي باتت تُذكَر في ما يتعلَّق بمنصب المرشد الأعلى التالي على المرشد الأعلى الحالي، خامنئي.

ولطالما كانت هناك الكثير من التخمينات حول من سيتولَّى منصب خامنئي، وقد بدأ اسم رئيسي يبرز بعدما أصبح رئيساً لمؤسسة الإمام رضا. لكن مع ذلك، هناك مشكلةٌ تلوح في الأفق. من الواضح أن جناحاً واحداً في الحرس الثوري يدفع عن عمد اسم رئيسي إلى الصدارةِ. وحتى مع عدم اعتراض خامنئي على ترشُّح رئيسي للانتخابات الرئاسية – وهو في الحقيقة يُحبِّذ ذلك – يظل السؤال دائراً حول ما إذا كان يتفق مع هذا الجناح من الحرسِ الثوري في قضية المرشد الأعلى التالي. وهكذا، بطبيعة الحال، نغدو أمام سؤالٍ آخر مُربِك: لماذا اقتنع رئيسي بالترشُّح في الانتخابات، ومن أقنعه بذلك؟ فإذا كان حقاً مرشد أعلى مستقبلي مُحتَمَل، فإنه بذلك يجازف بالمثول أمامِ جمهور الناخبين كمرشَّحٍ رئاسي. وعلاوة على ذلك، سيكون في مواجهة أكثر الرؤساء تأثيراً في تاريخ الجمهورية الإسلامية – روحاني. بالطبع لا يمكننا استبعاد أن يُنزِل رئيسي هزيمةٍ على روحاني، لكن من الواضح أنها لن تكون مهمةً سهلة. إذا فاز بالانتخابات، سيكون بذلك قد اجتاز اختباراً مهماً في طريقه إلى منصب المرشد الأعلى. لكن إذا خسر، سيصبح من الصعب عليه، كشخصٍ لا يراه الناخبون ملائماً لمنصب الرئيس، أن يصير المرشد الأعلى للجمهوريةِ الإسلامية. وبالتالي، يمكننا التحدُّث عن احتمالين وتكتيكين وراء ترشُّح رئيسي للرئاسة. الاحتمال الأول لخوضه السباق الرئاسي يتلخَّص في نوعٍ من ممارسة العلاقات العامة يُمهَّد من أجل رئيسي، بينما الاحتمال الثاني هو أنه سقط في فخ. إذا كان الاحتمال الأول صحيحاً، فسوف يسحب رئيسي ترشيحه في اللحظةِ الأخيرة، وفي المقابل يدعم محمد باقر قاليباف، وهو مُرشَّحٌ مُحافِظٌ آخر. وهكذا يظل في الساحة – وفي العقلية الشعبية – لفترةٍ طويلةٍ كواحدٍ من أهم المُرشَّحين المُحافِظين، ويجني تعاطفاً متزايداً كشخصٍ مخلصٍ وسخي يضمن وحدة القوى المُحافِظة في البلاد. أما السبب وراء الاحتمال الثاني، ألا وهو أن فخاً مُعدّاً له، هو أنه بالوضع في الاعتبار أن جناحاً مهماً في الحرس الثوري يريد أن يرى رئيسي مرشداً أعلى يخلف خامنئي، لا يعني هذا أن الحرس الثورية ككل، ولا القوى المركزية في النظام، وخامنئي في المقام الأول، يفكِّرون بنفسِ الطريقة. إذا كان الأمر كذلك، فربما تسعى الأطراف القوية التي لا ترى رئيسي مرشداً أعلى مستقبلي مُحتَمَل إلى أن تضمن خوض رئيسي السباق الرئاسي وخسارته إياه أمام روحاني، وبالتالي استبعاده من الصورة. بالطبع من الضروري القول هنا إن ما من عقبةٍ قانونيةٍ أو نظريةٍ أمام رئيسي في طريقه لأن يصبح مرشداً أعلى، حتى إذا خسر الانتخابات.

ما الذي يحاول أحمدي نجاد فعله؟

في الحقيقة، بدأ كل شيءٍ أولاً بصورةٍ جيدةٍ للغاية لأحمدي نجاد. حين أعلن ترشُّحه لانتخابات العام 2005 الرئاسية، كان آنذاك عمدة العاصمة طهران، ولنضع إلى جانب ذلك نمط حياته المتواضع، ووقوفه إلى جانبِ الفقراء، والخدمات الناجحة التي أمدَّهم بها، وإخلاصه الواضح للمرشد الأعلى خامنئي في تنفيذ واجبه، كل ذلك لَفَتَ انتباه صانعي القرار المُحافِظين له. وقد زاد خطابه وتعهُّدات حملته، بعدما أصبح مُرشَّحاً رئاسياً، من تأثيره وسط كلٍ من الشرائح المُحافِظة والفقيرة في المجتمع، وضَمَنَ له دوام هذا التأثير.

كان يُشدِّد بانتظامٍ على السنوات الأولى من الثورةِ الإسلامية، ودعا للعودة إلى التعليم الثورية لهذا الوقت. ونَزَعَ إلى الانتقادِ العنيفِ لحقيقة أن قطاعاً نخبوياً من المجتمع تمكَّن من إثراءِ نفسه بواسطة الدولة بعد الثورة، بينما تعجز الغالبية العظمى عن اقتسام ثروات البلاد مع هذا القطاع. وبالتالي، شَعَرَ الفقراءُ أن واحداً منهم بالفعل صار مُرشَّحاً رئاسياً. ولم يختلف ذلك في منظورِ خامنئي والدائرة المُحافِظة المُقرَّبة منه، إذ كان المُنافِس الانتخابي لأحمدي نجاد، رفسنجاني، نموذجاً لأولئك الذين صعدوا من الطبقة الأقلية وصاروا أغنياءً بمساعدة الدولة. ولم يكن لدى المرشد الأعلى خامنئي أي مانع إزاء هذا النوع من النقد لرفسنجاني، الذي كان من قبل رفيقه الأقرب، ومنافسه الأهم أيضاً. وعلى الجانبِ الآخر، كان الموقف السياسي لأحمدي نجاد متماشياً تماماً مع خامنئي الذي كان يطيعه دون سؤال. وبالنسبةِ لخامنئي ودائرته، وهو الذي كان عليه أن يعمل، منذ أن أصبح مرشداً أعلى، أولاً مع رفسنجاني ثم مع خاتمي، والرجلان لهما أفكارٌ مختلفةٌ تماماً في قضايا هامة، فقد كان أحمدي نجاد هو المُرشَّح المثالي. وأخيراً، بعدما أصبح أحمدي نجاد رئيساً في 2005، فقد سارَ تماماً على نفسِ خط خامنئي وغيره من المُحافِظين. ووصل الأمرُ إلى أن يدعم خامنئي أحمدي نجاد صراحةً بعد انتخابات 2009، في وقتٍ كانت شخصياتٌ مُعارِضةٌ قد بدأت في الاحتجاج، زعماً أن الانتخابات قد زُوِّرَت. وبالفعل صرَّحَ خامنئي أنه أقرب إلى أحمدي نجاد من رفسنجاني، الذي كان آنذاك ثانِ أهم شخصيةٍ على قيدِ الحياة عاصرت الثورة، واضطلع بنفسه بقمع الاحتجاجات المُناهِضة لأحمدي نجاد. حدث ذلك بطريقتين: الأولى أنه دعا أولئك المُخلِصين له لعقدِ مؤتمراتٍ ولتنظيمِ مسيراتٍ مُناهِضةٍ للاحتجاجات، والأخرى أن قام الحرس الثوري وقوات الباسيج شبه العسكرية، الجاهزة تحت إمرته، بالأدوار الرئيسية في قمع الاحتجاجات. لكن لسببٍ غير معلوم، تباعدت العلاقات في وقتٍ لاحق. وجاءت الأزمة الخطيرة الأولى بينهما، والتي كُشِفَ عنها أمام الجميع، حول قضية النائب الأول للرئيس، إسفنديار رحيم مشائي، إذ زعمت بعض الدوائر المُحافِظة أن مشائي مهووسٌ بالتصوُّف، وأنه يؤثر على أحمدي نجاد ويدفعه في هذا الاتجاه، فطَلَبَ خامنئي من أحمدي نجاد أن يقيل مشائي من منصبه، لكن أحمدي نجاد رفض، واضطر لاحقاً بالطبع أن يلبي رغبة خامنئي. ولم يمر وقتٌ طويل حتى اندلعت أزمة ثانية بينهما، إذ أرادَ أحمدي نجاد إزاحة وزير الاستخبارات من منصبه، لكن خامنئي لم يسمح له بذلك. ونتيجة استياءه من ذلك، ظلَّ أحمدي نجاد في منزله لإحدى عشر يوماً، رافضاً مزاولة مهامه الرسمية. لم يُرأب الصدع بينهما قط، واختفى أحمدي نجاد عن الساحةِ لفترةٍ طويلةٍ قبل أن يعاود الظهور قبل أشهرٍ قليلة من انتخابات 2017 الرئاسية، ويبدأ في تنظيم مسيراتٍ في مدنٍ مختلفةٍ في جميع أنحاءِ إيران. شاع بين الجميع أن أحمدي نجاد يستعد للسباق الرئاسي، لكن خامنئي أعلن على الملأ أنه لا يراه مُرشَّحاً مناسباً. ورداً على ذلك، كَشَفَ أحمدي نجاد أنه لن يتقدَّم للترشُّح. وقبل وقتٍ قصيرٍ من الانتخابات، قال إنه سيدعم نائبه السابق، حميد بقائي، كمرشحٍ رئاسي. وعندما ذَهَبَ بقائي لوزارة الداخلية لتسجيل ترشُّحه، صاحَبَه أحمدي نجاد قائلاً إنه كان هناك لدعمه.

ومع ذلك، حَدَثَ في هذه اللحظة تطوُّرٌ صَدَمَ الجميع، إذ سَحَبَ أحمدي نجاد الأوراق اللازمة وقدَّمَ نفسه مُرشَّحاً رئاسياً. وبالطبع رَفَضَ مجلس صيانة الدستور ترشُّحه هو وبقائي.

لماذا حاول أحمدي نجاد فعل ذلك رغم التحذير الواضح من قِبَلِ المرشد الأعلى؟ ربما ظنَّ أن هذه المبادرة من شأنها أن تضمن قبول ترشُّح بقائي للرئاسة، أي أن يرفض المجلس ترشُّحه بينما يوافق في المقابل على ترشُّح بقائي. لكن مع ذلك، يظل من الصعب أن نقول أن هذا مُبرِّرٌ مشروعٌ وواقعي. فبصرف النظر عما إذا كان أحمدي نجاد مُرشَّحاً أم لا، كان من الواضح أن ترشُّح بقائي سيُقابل بالرفض، لأنه أعلن صراحةً ولاءه التام لأحمدي نجاد، إلى درجةِ أنه قال إنه لن يتجرَّع كوباً من الماء إلا إذا سَمَحَ له بذلك، وكان فخوراً بذلك. وبناءً على ذلك، اتفق الجميع على أن ترشُّح بقائي جاء بالكامل برغبةٍ من أحمدي نجاد، وأنه لا يتخذ أي خطواتٍ إلا بأمرٍ منه. ومع أخذ هذا بعينِ الاعتبار، بات واضحاً أن خامنئي، الذي عارَضَ ترشُّح أحمدي نجاد على الملأ، لن يرى في من أعلن ولاءه الصريح لأحمدي نجاد مُرشَّحاً مناسباً لخوض السباق الرئاسي. وعلى الجانبِ الآخر، كان هناك طرفان رئيسيان لديهما من القوة بحيث يمكنهما تقديم مُرشَّحَيهما للانتخابات، وبوفاةِ أحدهما، رفسنجاني، انفَرَدَ خامنئي بالنفوذِ الكافي لفعلِ ذلك. لم يكن أحمدي نجاد نفسه يُصدِّق أنه لاعبٌ قويٌ على الساحة بهذه الصورة، ولم يكن خامنئي ليسمح لمراكز القوى بتصدير الانطباع بأن أحمدي نجاد يمكنه خوض الانتخابات دون مُنافِس. لذا من المُحتَمَل أن يكون أحمدي نجاد قد اتخذ هذه الخطوة كجزءٍ من خطةٍ أكبر لتصفية حساباته. وبينما من الصائب أن نقول إن أحمدي نجاد إن لم يكن قد اتخذ هذه الخطوة، لانتهت حياته السياسية تماماً، وأن هذه كانت محاولةً لمنع ذلك، إلا أن هذا التفسير غير مكتملٍ لأن هذه المحاولة وضعت أحمدي نجاد وحياته السياسية في خطرٍ أكبر. وعند هذه النقطة، من الضروري أن نتذكَّر الإجابة التي أدلى بها بقائي رداً على سؤالٍ وُجِّه له. سأله صحفيٌ لماذا كان على استعدادٍ ليكون مُرشَّحاً لأحمدي نجاد، فردَّ بقائي بأن أحمدي نجاد “كان بحاجةٍ لشخصٍ يُضحي بنفسه”. وفُسِّرَت هذه العبارة بأن بقائي يُضحي بنفسه من أجل أحمدي نجاد، لكن ما نراه هو أن أحمدي نجاد قد ضحى بنفسه في هجومٍ سياسي انتحاري. إذا كان هذا هو الحال، فلقد رمى أحمدي نجاد إلى هزِّ شرعية النظام ككل، بما يتضمَّن خامنئي نفسه. وربما خطَّطَ لإجبار خامنئي، الذي كان حريصاً على أن يكون فوق الشؤون السياسية، لأن يتخذ جانباً وأن يصبح موضوعاً للنقاش السياسي. وفي الحقيقة، كان موقف خامنئي المؤيد صراحةً لأحمدي نجاد بعد انتخابات 2009 شائكاً، بل وسدَّدَ ضربةً كبيرةً لصورته كرجلٍ يسمو فوق السياسة. واتخذ خامنئي موقفه السياسي آنذاك، علناً، باتهامِ أولئك الذين خرجوا ضد أحمدي نجاد بالتهوُّر، وهذه المرة فعل الأمر نفسه، علناً أيضاً، لكن ضد أحمدي نجاد.

ثانياً، تضرَّرَت شرعية النظام المبني على مجلس صيانة الدستور بشدة، بعدما رُفِضَ شخصٌ كان في السابق مناسباً في عينِ هذه المؤسسة، وتولَّى منصب الرئيس لفترتين، كمُرشَّحٍ رئاسيٍ، فقط لأن المرشد الأعلى لا يراه ملائماً.

ثالثاً، وضعت هذه المحاولة مكتب الرئيسِ في موقفٍ صعب أمام الرأي العام. فمنذ ثورة 1979 حتى اليوم، خاض كل الرؤساءِ الإيرانيين تقريباً حرباً ضد النظام. هناك استثناءان فقط من هذه القاعدة: الأول هو محمد علي رجائي، الذي اُغتيلَ في تفجيرٍ بعد فترةٍ قصيرةٍ من انتخابه، والثاني هو خامنئي، الذي اُنتُخِبَ مرشداً أعلى قبل أن ينهي ولايته كرئيسٍ للبلاد. بعبارةٍ أخرى، لم يُكمِل أيٌ منهما فترته في منصبِ الرئيس.

وأخيراً، تُعد خطوة أحمدي نجاد أيضاً هجوماً على شرعية المعارضة من داخل النظام. فرغم أن الإصلاحيين، الذين مثَّلوا المعارضة داخل النظام حتى يومنا هذا، ينتقدون قرارات الترشُّح التي يتخذها مجلس صيانة الدستور، بقوةٍ وعلى الدوام، فقد أيَّدوا، أو على الأقل لم يعارضوا، قراره بشأن أحمدي نجاد، ما يضع الموقف المبدئي للإصلاحيين موضع شك. لكن السؤال الآخر المطروح للنقاش هو: نيابةً عن من اتخذ أحمدي نجاد هذه الخطوة؟

اتهاماتٌ ضد المُرشَّحين: كلهم لصوص

في سياق السباق الرئاسي، هناك قضيةٌ أخرى تُعزِّز التصوُّرات حول فساد النظام، وتُمهِّد الطريق لآثارٍ ونتائج تتجاوز الانتخابات الرئاسية، هي اتهامات الفساد التي يوجِّهها المُرشَّحون لبعضهم البعض. ومن أجل فهمِ هذا، يكفي أن نشاهد برامج التلفزيون التي يواجه فيه المُرشَّحون بعضهم. في إيران، التي تخلو من القنوات الخاصة، تُعد السجالات بين المُرشَّحين، والتي تُعرَض في بثٍ حيٍ على تلفزيون الدولة، واحدةً من أهم الوسائل للتأثير على الرأي العام في أثناء الانتخابات الرئاسية. وفي هذه السجالات، التي تُعقَد ثلاث مرات بفاصل أسبوعٍ بين كلٍ سجالٍ والآخر، ربما يتوقَّع المُرشَّحون أسئلةً وإجاباتٍ في موضوعاتٍ مُحدَّدةِ سلفاً، لكن – عملياً – تجري الأمور على نحوٍ مُختلِفٍ كليةً. يقول المُرشَّحون ما يريدون قوله في الموضوعات التي يُفضِّلون التحدُّث فيها، أكثر مما يُقدِّمون إجاباتٍ على الأسئلةِ المُوجَّهةِ إليهم، ويتبادلون الاتهامات بلهجةٍ قاسية. والسجالات التي عُقِدَت قبل هذه الانتخابات بالتحديد كانت قد خرجت عن نطاقِ السيطرةِ عند نقطةٍ مُعيَّنة، إذ تبادَلَ المُرشَّحون انتقاداتٍ لاذعة وهاجموا بعضهم بطريقةٍ لم يسبق لها مثيلٌ منذ الثورة الإسلامية حتى الوقت الراهن. وأدى هذا الوضع إلى شخصنة السجال بصورةٍ قلَّما وُجِدَت في التراث السياسي الإيراني، وأدى أيضاً إلى تدمير سمعة النظام في عيون الجمهور، بطريقةٍ لا شك أن ما مِن مُرشَّحٍ كان يريدها هكذا. وكان السبب وراء ذلك هو أن شخصياتٍ هامة، مثل الرئيس ونائبه وعُمُدات العاصمة والمدن الكبرى، وغيرهم ممن يتولون مناصب رفيعة في الجمهورية الإسلامية، التي تُعرِّف نفسها في المقامِ الأول بـ”قيمها الأخلاقية”، كانوا يُوجِّهون لبعضهم اتهاماتٍ بادعاءاتٍ ملموسة وفظاظةٍ غير مسبوقة. وكنتيجةٍ لذلك، وبصرفِ النظر عمَّن سيفوز بالانتخابات، فإن واحدةً من القضايا التي يتعيَّن عليهم بذلِ الكثير من الجهد فيها هي تصحيح التصوُّر العام عن فساد النظام، الذي أسهموا هم أنفسهم فيه. وبالطبع لن يكون الرئيس وحده الذي سيجد نفسه في موقفٍ صعبٍ نتيجة هذه الاتهامات المُتبادَلة، فالمرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يُعد النصير الأكبر للمنظومة القيمية للنظام الإسلامي، سيكون بحاجةٍ للتطرُّقِ لهذه القضايا والإجابةِ عن الأسئلة المُتعلِّقة بها. وأخيراً، سيتابع الجمهور عن كثبٍ ما إذا كانت السلطات القضائية ستتخذ خطواتٍ إزاء هذه الادعاءات الملموسة والخطيرة. ومن هذه الزاوية وحدها، يمكن أن نرى الانتخابات الرئاسية المُفتَرَض عقدها في الأيامِ المقبلة كبدايةٍ لتمزُّقٍ خطيرٍ في الدولة الإيرانية.

استنتاج

كما نرى، سيكون لكلٍ من الانتخابات المُزمَع عقدها في 19 مايو/أيَّار في إيران، والعملية الانتخابية برمتها، تأثيرٌ أكبر من مجرَّد اختيار الرئيس. وسيعتمد المسار الذي ستسلكه العلاقات الإيرانية الغربية في أعقابِ الاتفاق النووي الذي جرى توقيعه مع الغرب في ظل حكمِ روحاني، بصورةٍ كبيرةٍ، على هذه الانتخابات، إذ قد يؤدي انتخابُ رئيسٍ مُحافِظٍ تفصله مسافاتٌ عن الغرب، بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، إلى العودة لأيام التوتُّرات القديمة. لكن الأهم هنا هو أرجحية حدوثِ تطوُّراتٍ هامة على مستوى النظام في الساحةِ السياسيةِ الإيرانية في الفترةِ المقبلة. ولقد صارت كل الفصائل السياسية تُركِّز أنظارها، بالأخص خلال العامين الماضيين، على فترةِ ما بعد خامنئي. وجاءت هذا العام وفاة رفسنجاني، الذي يُعتَبَر شخصيةً أكثر اعتدالاً نشطت في الإصلاحات، لتُمثِّل خسارةً فادحةً للكثير من الإصلاحيين والمعتدلين في ضوءِ تغييرٍ مُحتَمَلٍ للمرشد الأعلى. وفي الوقتِ الراهن، يبدو أن المُحافِظين التابعين لخامنئي يقبضون بقوةٍ على مسألةِ تحديدِ المرشد الأعلى المقبل. لكن ليس من الصعب أن نرى أنهم مُنقسِمون وأن هناك نوعاً من التنافس الداخلي في ما يتعلَّق بحزمةٍ متنوعةٍ من قضايا اليوم. قد يكون جناحٌ منهم مؤيداً لإبراهيم رئيسي، لكن لا يمكن إغفال أن جناحاً آخر يحاول الترويج لأسماءٍ أخرى. إلا أن شرائح أخرى في المجتمع بالتأكيد ستحاول التدخُّل في قضية اختيار المرشد الأعلى الجديد، رغم القبضة القوية لمؤيدي خامنئي. ولن يتخلى مُحافظون مثل أحمدي نجاد عن الهجوم المباشر على النظام، تماماً كما لن يوقف الإصلاحيون والمعتدلون، الذين يحاولون الدفع باسمٍ مثل الرئيس روحاني كمرشدٍ أعلى جديد، صراعهم داخل النظام. لهذا السبب، ولفترةٍ طويلة مقبلة، حين ننظر إلى سياسات إيران المحلية، لابد أن نضع في أذهاننا التساؤلات حول مستقبل النظام وهوية المرشد الأعلى الجديد، إذ تُعد هذه الأسئلة أهم بكثيرٍ مِن مَن سيكون الرئيس.