ملخص تنفيذي:

كان المؤتمر العاشر لحزب النهضة التونسي، الذي حضره 1185 مُفوض من أنحاء تونس ومن خارج محيطها، لحظةً مرتقبة بشدة بالنسبة للخريطة الزمنية للسياسة التونسية. فتحديداً، انصبت الأنظار على موضوعٍ واحدٍ في المؤتمر، وهو قرار الحزب بالعدول عن العمل الاجتماعي والدعوي كـ”حركة”، والتحول التام إلى حزبٍ سياسي. فقد أعلن قائد الحزب، راشد الغنوشي، بصورة دراماتيكية أنه: “لم يعد هناك مبرر للإسلام السياسي في تونس”. هل مثل هذا القرار الذي يهدف إلى هدم صورتهم كـ”إسلاميين”، وإعادة تصويرهم على أنهم “حزب المسلمين الديمقراطيين”، تغييراً راديكالياً؟ كيف انتهت الأمور إلى هذه الخطوة؟ ولمَ يُنحي الحزب عُنصراً شكّل تعريفه لعدة عقود؟

في هذا التحليل، سيتم تحديد التغييرات التي يُمكن أن يُستدل عليها من خلال مؤتمر العاشر لحزب النهضة، مع محاولة استقراء الأسباب التي تقف وراء هذه التغييرات، وكيفية حدوثها، ومعناها بالنسبة لتطور الحزب مستقبلاً، بالإضافة إلى أثرها على دوره في المشهد السياسي التونسي. على الرغم من جرأة قرار الحزب في المؤتمر الأخير، إلا أنه يؤكد فحسب على التغييرات التي تحدث بشكلٍ تدريجي في دور الحزب، وهويته، وأولوياته خلال السنين الأخيرة. فواقع الإطار السياسي المُتغير في تونس قد وضع عدة قيود على حزب النهضة، وفتح له المجال لعدة فرصٍ جديدة. فالقرار الذي أخذه الحزب بالتخلي عن أصوله كحركةٍ اجتماعية تعني بالقضايا الدينية والأخلاقية، والتحول إلى حزبٍ سياسي قومي يدعو للإصلاح السياسي والاقتصادي، يمكن رؤيته على أنه مقامرة قد تؤدي إلى خسارة الحزب لجزءٍ من قاعدته الشعبية. في نفس الوقت، قد تفتح المجال للحزب كي يكون حزبًا شاملاً ذو قاعدةٍ أوسع، بحيث يكون قادراً على احتلال الوسط السياسي التونسي.

وبعيداً عن السياق التونسي، فقد قدم حزب النهضة نفسه كدراسة حالة هامة لفهم العوامل والعمليات التي تؤدي إلى تغيير مسار، وموضع، واستراتيجيات الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية. لقد حوى قرار الحزب عدة دروسٍ للأحزاب الإسلامية الأخرى على قابلية “الفصل” بين الدين والسياسة، وعلى كيفية تحقيق هذه الخطوة داخلياً. كما أنه قد قدم أيضاً مفهوماً جديداً لـ “المسلمين الديمقراطيين” كتصورٍ جديد للعلاقة بين الحكم والدين، وأثار أسئلةٍ محوريةٍ حول كيفية استيعاب الإسلام، والديمقراطية، والتعددية، والحرية في المجتمعات المختلفة.

خلفية للأحداث

أقيم مؤتمر حزب النهضة في مايو من عام 2016، لينهي أشهرًا من القراءات، والتحليلات، والتنظيرات. ويعد المؤتمر، الذي يقام كل أربع سنوات، السلطة الأعلى في الحزب؛ فهو يشمل مفوضين منتخبين من قبل أعضاء الحزب المحليين والإقليميين، كي يحددوا رؤية الحزب على المدى البعيد، ولينتخبوا الجهاز ذو السلطة العليا في اتخاذ القرارات الخاصة بالحزب، وهو مجلس الشورى.

أكثر ما جذب الاهتمام في المؤتمر الأخير كان اقتراح النهضة بالفصل بين الدين والسياسة، وقصر أنشطة الحزب على السياسة فقط، ما أسموه “تخصصاً”. فقد طُرح اقتراح “التخصص في السياسة” عن طريق “إنهاء الخلط بين كونها حزباً وحركةً شاملة، كي تتحول إلى حزب ديمقراطي سياسي بمرجعيةٍ إسلامية، ذي انتماءٍ قومي، ومنفتحٍ على جميع طوائف الرجال والنساء التونسيين، يمنح العدالة الاجتماعية والتنمية المحلية أولويته القصوى، ويُصنف كحزبٍ وسطي على الخريطة السياسية، ليتجاوب مع قطاعاتٍ متعددة من المجتمع.”

الحديث عن مفهوم “التخصص” كان اختياراً مُحكماً بعناية، لاحظ أن التغيير المطروح لا يدعو إلى الفصل بين الدين والسياسة، وإنما بين اختصاصات الدين واختصاصات السياسة، والفارق طفيفٌ بين التفسيرين، ويدل على أن ذلك الفصل ليس فصلاً معرفياً، وإنما يقتصر على النواحي الوظيفية، فتصبح السياسة مستقلةً عن الدين، مع الإبقاء على إمكانية أن تتأثر بمبادئه، ويظل للدين دوره الذي يلعبه في الحياة العامة والسياسية، ولكن في إطار القيم التي يتم تفسيرها وتأويلها من قبل السياسيين لا رجال الدين.

لن تمس التغييرات دور الدين كـ “مرجعيةٍ” أو إطارٍ للسياسة. “فالحزب يعتمد على أسس الدين، ومقاصده، ومبادئه في بناء رؤيته، وخياراته السياسية والاجتماعية، بجانب جميع الاقتراحات والسياسات التي يقدمها”، لذا فحتى وإن لم تعد النهضة حركةً تقوم بأنشطةٍ دينية بعد الآن، إلا أنها لا تزال تسمي الدين مصدر الإلهام الأساسي لها – فهي حزب مدني مبني على قيمٍ دينية.

هل لم يعد حزباً للـإسلاميين؟

صرح قائد الحزب، راشد الغنوشي، في أحد الحوارات الأخيرة أن التخصص يعني أن النهضة “ستخرج من الإسلام السياسي لتدخل في الديمقراطية المُسلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون، ولا نعرّف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي.” ما الذي يمكن أن تعنيه هذه العبارة الملتوية؟”

قد يعني جزء “الخروج من الإسلام السياسي” شيئين؛ الأول هو التخلي عن نموذج الحركة الإصلاحية الإسلامية المُوحَدة الشاملة، التي تنخرط في أعمالٍ سياسية، ودينية، وتعليمية، واجتماعية، وثقافية. لقد كان جوهر العديد من الحركات الإسلامية التي ظهرت في القرن العشرين هو تحقيق “نهضة حضارية” عن طريق الترويج إلى العديد من الإصلاحات في العديد من المجالات المختلفة (مثل التعليم، والعلوم، والقانون، وإصلاح المؤسسات الدينية)، اعتماداً على العديد من الطرق المختلفة (مثل الدعوة، العمل المجتمعي، المراكز الشبابية، المبادرات التعليمية). ويمكن ملاحظة هذا النموذج في هيكل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، حيث تمتلك الجماعة شبكةً واسعة من المنظمات التعليمية والخيرية كي تساهم في مهمة الإصلاحيين المسلمين. وبالمثل، فقد نشطت جماعة الإخوان المسلمين بالأردن على أنها منظمةٌ خيرية للعديد من العقود (كان حظر الأحزاب السياسية في القانون الأردني منذ عام 1989 أحد أسباب ذلك)، وقامت بإدارة العديد من الأنشطة الأهلية.

تشير قرارات النهضة بالتخلص من كل الأنشطة التي تخرج عن السياسة إلى إعادة تعريفٍ لدورها وأولوياتها. كانت خطبة الغنوشي الافتتاحية في المؤتمر الأخير، التي أُلقيت على مسامع عشرة ألافٍ من جمهورٍ ضم شخصياتٍ محلية بارزة وضيوفٍ أجانب، قد تضمنت رسائل محورية بخصوص توجهات الحزب المستقبلية: “الدول الحديثة لا تُدار بالأفكار والشعارات الفضفاضة والمزايدات، بل بالبرامج والحلول الاجتماعية والاقتصادية التي تحقق الأمن والرفاهية للجميع.” يدل ذلك على إعادة تنظيم دور الحزب بإبعاد تركيزه عن إعادة إصلاح أخلاق الشعب التونسي، وتوجيهه إلى العمل على إعداد سياسات تناسب احتياجات التونسيين المادية اليومية – أو كما قال أحد المُعلقين: “التخلي عن سياسات الهوية والتركيز على الخبز والزيت”.

المعنى الآخر لـ “الخروج عن الإسلام السياسي” هو التخلي عن مسلك “الحركات” والتحول إلى حزبٍ يمكن لأي تونسي أن ينال عضويته. تحدث العديد من الحضور في مؤتمر النهضة عن منح الحزب المزيد من “المهنية”، ما يدل على التحول من حركةٍ متمحورة حول الهوية، تعتمد على قاعدةٍ اجتماعية ثابتة ومترابطة مع بعضها البعض لأسبابٍ تتعلق بالمرور بتجربة القمع نفسها على يد النظام السابق، إلى حزبٍ سياسي منفتح يضم التونسيين من كافة الخلفيات، سواءً أكانوا متدينين أو غير متدينين. لقد كان قرار الحزب بالتخلي عن شروط عضويته المرتبطة بمعاييرٍ دينية وأخلاقية بمثابة خطوة استراتيجية على طريق فتح أبواب الحزب لكي يضم دماءً جديدة، وليجذب المزيد من المؤيدين الذين لا ينتمون إلى قاعدته الجماهيرية المعتادة.

كيف حدث هذا التغيير؟

يرى العديد من المحللين وجود فجوةٍ كبيرة بين قيادات النهضة، الأكثر ليبرالية وبراغماتية، وبين قاعدتها الشعبية، الأكثر محافظة. وعلى الرغم من توقعات أغلب المعلقين بأن قرار الحزب بالفصل بين الأنشطة الدينية والسياسية سيثير الجدل بين قاعدة الحزب الجماهيرية، إلا أن ذلك القرار قد تم تمريره بأغلبية تصل إلى 80.8% من الأصوات. ويبدو أن هذا النجاح هو حصيلة عنصرين أساسيين؛ قوة خطاب القيادات الحزبية، وعملية التواصل المكثفة مع القاعدة الشعبية للحزب.

فوثائق المؤتمر تظهر حججاً قوية اعتمد عليها قيادات الحزب في تفسير الأسباب التي دفعتهم إلى الفصل بين الاختصاصات الدينية والسياسية بطريقةٍ مقنعة. فقد أكدوا على أن التخصص ضروريٌ للإبقاء على أهمية النهضة كحزبٍ، ولاحترام القانون الذي يحتم أن يكون العمل المجتمعي مستقلٌ وغير منتمٍ لأية أحزاب. ويقولون أيضاً أن التخصص هو أفضل خيارٍ للنهضة، وذلك لأنه يعزز “الكفاءة والفاعلية” بالسماح للناس بأن “يقوموا بالأعمال المناسبة لخبراتهم وتفضيلاتهم”، كما أنها مفيدةٌ للمؤسسات الدينية هي الأخرى، وذلك بمنحها “ذاتيتها التي تمكنها من الطور والنمو السليم بعيداً عن التجاذب الحزبي وتقلبات المشهد السياسي.”، وتفيد الدين بالسماح له بأن “يعمل على توحيد المجتمع لا تقسيمه”.

تم الترويج لهذا الخطاب في مراحل الإعداد للمؤتمر نفسه، والتي تضمنت عملياتٍ مطولة من الاستشارات المحلية، والإقليمية، والقطاعية لمناقشة التغييرات المطروحة مع أعضاء الحزب، فقد تم عقد 279 مؤتمراً محلياً، و24 مؤتمراً إقليمياً، و8 مؤتمرات قطاعية، شهدت جميعها مشاركة ما يزيد عن 6000 مُفوّض. تمت مشاركة هذه الفعاليات على صفحات مواقع الواصل الاجتماعي الخاصة بالحزب، وجمعت بين أعضاء الحزب المحليين وقيادات الحزب لمناقشة أسباب التغييرات بالتفصيل. هذه العملية المُطوّلة من التواصل المباشر قد سمحت لقيادات الحزب ببث رسائل محورية على عدة مستويات للحزب، مما سهل تعزيز فهمٍ متبادل للمفاهيم المطروحة.

وقد نقل العديد من الأعضاء أن قرار التغيير بالفصل بين اختصاصات الدين والسياسة قد تم مناقشته بشكلٍ واسع في العديد من المؤتمرات المحلية. لقد سجل العديدون قلقهم من أن يؤدي هذا الفصل إلى علمنةٍ كاملة للحزب بحيث لا تصبح للقيم الدينية أي دورٍ، لكن القائمين على صياغة هذا التغيير في أعلى المستويات قد شرحوا لهم أن التخصص لا يعني رفضاً لدور القيم الدينية في إلهام المنصة الحزبية بشكلٍ جوهري، بل يعني فقط الفصل بين الأنشطة الدينية والسياسية على مستوى التطبيق. هذه العملية المطولة من صنع القرار ساعدت على الحصول على موافقة بالإجماع والحصول على الدعم اللازم للتغيير.

لماذا ستخرج النهضة من الإسلام السياسي؟

تحاول العديد من الأبحاث العلمية في مجال العلوم السياسية أن تشرح التغييرات و “اعتدال” الأحزاب الإسلامية. يستخدم الكثير منها فرضية “الاعتدال الشامل”- النظرية التي يجب أن توافق عليها الأحزاب الراديكالية كشرطٍ على دخولها للحياة السياسية القانونية، فيتوجب عليهم أن “التخلي عن العنف وأي نية للثورة، وبقبول المؤسسات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية القائمة… والالتزام بالانتخابات والإجراءات البرلمانية كقنواتٍ للحصول على السلطة ولعرض سياساتهم؟”

وتحدد هذه الأبحاث عدة عوامل تسببت في تحوّل الأحزاب الإسلامية إلى “الاعتدال”، من بينها:

  • انتهاز الفرصة – الحاجة إلى التغيير من أجل الحصول على مكاسب (مثل إكساب الحزب شرعية).
  • ما يفرضه المسار الحالي (التزامات سابقة تؤدي إلى المزيد من التغييرات)
  • تأثير الخصوم السياسيين
  • تغييرات الأجيال الجديدة
  • تغييراتٍ حزبية / انشقاقات واختلافات
  • دور القائد
  • ضغوط وقيود هيكلية: ضغط واستمالة (الإعلام، والنظام، والنخبة)
  • الحاجة إلى تبرير بعض المواقف علناً

لمعرفة أيٍ من هذه العوامل قد لعب دوراً في إعلان النهضة الأخير، يجب العودة إلى التاريخ. ظهرت “حركة الاتجاه الإسلامي”، الاسم السابق لحركة النهضة، في السبعينات لمجابهة نظام الحبيب بورقيبة الذي قاد تونس منذ الاستقلال عام 1956 إلى أن تم خلعه في انقلابٍ عام 1987. لقد كان هدف الحركة منذ نشأتها أن تواجه ما رأته مشروعاً لبورقيبة يهدف إلى فرض قيمٍ غربية وإلى طمس هوية وتراث تونس العربية الإسلامية. تمحورت معارضتها للنظام حول القضايا الدينية، والاجتماعية، والثقافية في بادئ الأمر، إلا أنه مع الوقت انخرطت الحركة في الضغط على النظام بخصوص قضايا أوسع متعلقة بالإصلاح السياسي – فاتسم العقد الأخير من حكم بورقيبة بالكثير من الاحتجاجات الشعبية الواسعة، وبالتقلبات السياسية. لقد اُستدرجت الحركة بشكلٍ متزايد تجاه مناقشاتٍ أوسع بخصوص الإصلاحات السياسية والاقتصادية، تحديداً عن طريق أعضائها من الطلاب الذين نضجوا في عهد تأججت فيه القضايا السياسية والثقافية في حرم الجامعات التونسية. فتح ذلك المجال للحركة للمشاركة في العديد من الموضوعات التي هي أبعد ما يكون عن الشئون الدينية والثقافية – فعلى سبيل المثال، شاركت الحركة في يوم العمال العالمي لأول مرة عام 1980، وألقى الغنوشي يومها خطبة يؤكد فيها على أن الإسلام يضمن للعمال حقوقهم، وتحدث فيها عن قضية التوزيع العادل للثروات.

بيان عام 1981: الانتقال الأول من الديني للسياسي

في خضم هذا السياق السياسي المتغير، أصدرت الحركة بياناً تأسيسياً في يوم 6 يونيو 1981، أعلنت فيه عن تحولها إلى حزبٍ سياسي. يضع هذا البيان إطاراً سياسياً تضمن الالتزام بالديمقراطية القائمة على التعددية السياسية، والمشاركة، وتداول السلطة السياسية عبر الانتخابات كمصدر لشرعية الحكومة. كما يقدم تعريفاً ذاتياً لحركة الاتجاه الإسلامي كلاعب سياسي، وليس حركة دينية، “حركة التيار الإسلامي لا تقدم نفسها باعتبارها ناطقاً رسمياً باسم الإسلام في تونس، ولن تطمع يوماً في أن يُنسب هذا اللقب إليها. فهي مع حق جميع التونسيين في التعامل الصادق المسؤول مع الدين، ترى من حقها تبني تصور الإسلام يكون من الشمول بحيث يشكل الأرضية العقائدية التي منها تنبثق مختلف الرؤى الفكرية”.

ويمثل بيان عام 1981 أول تحرك رسمي تتخذه الحركة مبتعدةً عن العمل الديني على حساب التوجه إلى السياسي، فكان تصحيحاً لوضعها كي تصبح حزباً سياسياً. لقد حوى البيان بعض العناصر نفسها التي استُخدمت في تمرير قرار الحركة في مؤتمر الحزب عام 2016؛ بالاعتماد على الدين كأساس لرؤيتها مع عدم التحدث باسم الدين، ولا اعتبار نفسها لاعباً دينياً. ومع ذلك، أبقت الحركة على هويتها الدينية قوية – جنبا إلى جنب مع الاجتماعات السياسية، والدوائر الدينية، والتربية (التعليم الديني) التي قامت جميعها بدور مهم في رؤية الحزب، بل وشملت معايير العضوية في الحزب العديد من الشروط الأخلاقية والدينية. استمر العديد من الأعضاء في اعتبار الحزب حركة اجتماعية تتحمل مسؤولية مناقشة وتغيير الحالة الأخلاقية للمجتمع من خلال الأنشطة التعليمية والاجتماعية والثقافية التي شددت على القيم الدينية.

في أعقاب الثورة: من المعترك السياسي إلى الحكم

بعد فشل طلب الحصول على الاعتراف بحزبها السياسي عام 1987، وحملة القمع على الحركة التي انتهجها نظام بن علي منذ 1989 حتى الثورة. عملت النهضة حركة سرية داخل تونس، وحزباً سياسياً في المنفى بالخارج. وتركزت أنشطتها بشكلٍ كبير على التظاهرات ضد نظام بن علي، بجانب تقوية الروابط مع الحركات المعارضة الأخرى، ومنظمات حقوق الإنسان غير الحكومية، والعمل على لفت انتباه العالم لانتهاكات حقوق الإنسان والقمع الذي يرتكبه النظام في تونس.

عقب الثورة، تغير الإطار الخارجي للنهضة بشكلٍ راديكالي، فبعد أن كانت حركة معارضة تحتج ضد النظام، وجدت نفسها في قلب الحكم السياسي، وبدخولها الحكومة لأول مرة بعد فوزها بانتخابات أكتوبر 2011. فتحت هذه التغيرات الدراماتيكية في المشهد السياسي التونسي آفاقاً جديدة، لكنها فرضت قيوداً أخرى على النهضة بعد أن أصبحت لاعباً سياسياً رسمياً.

القيود: التركيز على دورها السياسي

منذ قيام الثورة، كان على حركة النهضة تكريس مواردها لخدمة دورها السياسي بوصفها عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة (لجنة بن عاشور) بين فبراير وأكتوبر من عام 2011، بينما تسعى في الوقت نفسه إلى إعادة بناء هياكلها المؤسسية وإدارة حملتها الانتخابية في أول انتخابات ديمقراطية عُقِدت في أكتوبر 2011. وعقب فوز النهضة في الانتخابات، تقلَّد كثير من قيادتها الحركة العليا مناصب وزارية وبرلمانية، تاركين خلفهم فجوات داخل بنية الحزب بعد أن استنفدت موارده البشرية.

في أعقاب الثورة، يبدو أن قد أولوية وظائف “النهضة” السياسية قد احتلت صدارة أولوياتها بدلاً من الأنشطة التعليمية والثقافية التي تقوم بها. تم تقييد الحزب على نحو متزايد في الأنشطة الاجتماعية على الصعيد العملي والقانوني على حدٍ سواء. وبموجب قانون حرية الاجتماع الذي أُصدِر بعد الثورة، لا يُسمَح للمنظمات غير الحكومية أن تضم في إدارتها أفراداً يشغلون مناصب سياسية حزبية. ومع أن العديد من النشطاء السياسيين كانوا سابقاً أعضاءً قياديين في منظمات حقوق الإنسان ونقابات العمال (على سبيل المثال، منصف المرزوقي، الذي أصبح رئيساً بعد انتخابات أكتوبر 2011، كان عضواً مؤسساً للرابطة التونسية لحقوق الإنسان)، صار جميع الناشطين مضطرين عندئذ إلى الاختيار بين السياسة والعمل في منظمات المجتمع المدني. وبالمثل، كان على قادة النهضة الاختيار بين أدوارهم السياسية والاجتماعية.

وعلاوةً على ذلك، عرَّض الدخول إلى صفوف الحكومة بيانات حركة النهضة، وأنشطتها، وسياساتها إلى تمحيص أكثر من أي وقت مضى. حين شبَّه حمادي الجبالي، الأمين العام للحزب ورئيس الوزراء لاحقاً، فوز الحزب في انتخابات 2011 بظهور “سادس الخلفاء الراشدين”، وجَّه له القاصي والداني انتقادات لاذعة في وسائل الإعلام والنخب السياسية أجبرته على توضيح تصريحه قائلاً: هذه الإشارة الدينية “تهدف ببساطة إلى استخلاص الإلهام من قيمنا وتراث الشعب التونسي وحضارته … أنا أؤكد بحزم وبصورة رسمية على أن خيارنا في نظام الحكم السياسي هو الديمقراطية الجمهورية التي تستمد شرعيتها من الشعب فقط”.

وهكذا، فتحت التغييرات الجذرية في السياق السياسي التونسي آفاقاً جديدة لحركة النهضة بأن تحتل مقعد الحكم للمرة الأولى، ولكنها أيضاً فرضت على الحركة قيوداً جديدة بأن ألزمتها بضبط خطابها لتتناسب مع الرأي العام وتوضيح أفكارها لجمهور جديد أوسع من أعضائها. وبعد أن أصبحت النهضة هي الحزب الحاكم، تعرضت الحركة أيضاً إلى متاعب وتحديات جديدة: إدارة الأجهزة الحكومية، والعمل ضمن ائتلاف يتكوَّن من ثلاثة أحزاب، وإدارة مناخ اقتصادي، واجتماعي، وإقليمي معقد.

هذه القيود الجديدة تساعد في تفسير اهتمام الحزب بوضع سياسات للإصلاح الاقتصادي، والسياسي، والأمني. وفي مواجهة مشكلة نفاد كوادر إدارتها العليا الذين أصبحوا يشاركون في إدارة التحوُّل الديمقراطي الهش، جعلت النهضة أولويتها هي العمل السياسي لا الأنشطة التعليمية، والاجتماعية، والثقافية.

حل مسألة الدين والدولة

في خطابها العام، تولي النهضة اهتماماً كبيراً إلى التركيز على مساهمتها في وضع دستور تونس الجديد. وهي ترى الدستور، الذي يُعَد الأكثر تقدماً في المنطقة العربية، الإنجاز الأكبر في تونس منذ قيام الثورة، ونموذجاً يحتذى في المنطقة. وعلى وجه الخصوص، يُقدم خطاب النهضة الدستور رداً نهائياً على مسألة العلاقة بين الدين والدولة. تحدد الوثيقة موقفاً وسطاً؛ إذ تنص على أن تونس هي “دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وسيادة القانون” (المادة 2)، في حين تعترف بالإسلام “ديناً لتونس” وتلزم الدولة بأن يكون “حامي الدين” وبتعزيز “الهوية العربية الإسلامية” (المواد 1، و6 و39).

من وجهة نظر النهضة، يحل الدستور صراعاً وجودياً دام أكثر من قرن بين الرؤى العلمانية والإسلامية لدور الدين في الحياة العامة. فقد كان ظهور النهضة لأول مرة معارضةً رؤية بورقيبة العلمانية رداً على هذا الصراع، جاعلةً مهمتها تقوم على الدفاع عن الحريات الدينية وتعزيز دور الدين في الحياة العامة. قادة النهضة يرون أن الحل الوسط الذي تحقق في الدستور يُنهي هذا الصراع (نظرياً على الأقل) عبر استحداث نمط جديد من الحكم الذي يلزم الدولة باحترام الحريات الدينية وحمايتها، ودعم المؤسسات الدينية، ومن جهة أخرى، يجعل نظام الحكم “مدنياً جمهورياً”، ويُبقي الأماكن الدينية محايدة سياسياً بكل حزم.

وكما ذكر الغنوشي في مقابلة أجريت معه مؤخراً: “الإسلام يتعايش الآن مع الدولة. الدولة، كما هو مذكور في دستورنا، تحمي الإسلام. والمسلمين ومجتمعنا الحر يحمون الإسلام. إذاً فالإسلام لا يحتاج إلى حزب واحد يحميه…”. ولهذا انعكاساته على دور النهضة المتطور، كما يتابع الغنوشي: “نود تقديم نهضة جديدة، لتجديد حركتنا ووضعها في المجال السياسي، منفصلة عن أي ارتباط بالدين. قبل الثورة كنا مختبئين في المساجد، والنقابات، والجمعيات الخيرية، لأنه النشاط السياسي الحقيقي كان محظوراً. ولكن الآن يمكننا أن نكون الفاعلين السياسيين علناً. لماذا يجب أن تلعب لعبة السياسة في المسجد؟ علينا أن نخوض معترك السياسة علناً عن طريق الحزب”. وهكذا، فإن التسوية الجديدة، التي ساهمت النهضة في تشكيلها، تلتزم بتحرير الدين من سيطرة الدولة، ولكن السياسة أيضاً يجب أن تتحرر من سيطرة الدين. ومع هذه التطورات، انتهى جزء من مهمة النهضة الأصلية باعتبارها حركة اجتماعية تقاتل من أجل الحريات الدينية.

حزب يستلهم الدين، لا حزب ديني؟

إن القرارات والبيانات الصادرة عن مؤتمر حركة النهضة تُظهِر رغبة واضحة من جانب الحركة لتأسيس نفسها حزباً وطنياً في مركز الحياة السياسية، وليس حزباً دينياً. في الواقع، تبنَّت قيادة النهضة، من رئيسها ولجنتها المركزية حتى أعضائها في البرلمان، تبنَّوا خطاباً غير ديني على نحو مضطرد. يُبين استعراض البيانات الصحفية والتصريحات الرسمية التي أصدرتها الحركة منذ عام 2011 أن عدداً قليلاً للغاية من البيانات والتصريحات تتركز على القضايا الدينية أو الأخلاقية. في الواقع، يبدو أن حركة النهضة تمتنع بوعيٍ عن التعليق على القضايا الدينية، على الأقل في بياناتها الرسمية.

ومن الأمثلة على ذلك الاقتراح الذي تقدَّمت به الكتلة البرلمانية “الحرة” في مارس 2016 إلى فرض حظر على النقاب. قد يتوقع الكثيرون أن النهضة قد أخذت زمام المبادرة في معارضة هذا الحظر، لكن الحزب اعتمد خطاباً منضبطاً نسبياً، وأكَّد على الحق الدستوري في حرية الدين، مصراً على أنه أي تقييد لحرية اللباس تفرضه ظروف البلاد الأمنية يجب أن يحترم الحقوق المنصوص عليها في الدستور. وعارض راشد الغنوشي الحظر المقترح علناً استناداً إلى أن ارتداء النقاب وكشف الشعر كلاهما حق شخصي لا يمكن للدولة أن تتدخل فيه، مؤكداً أن هذا الحظر من شأنه أن يُمثل تدخلاً في حياة المواطنين الخاصة. وانصرفت النهضة، واعيةً، عن المناقشات المتعلقة بالقضايا الأخلاقية أو الدينية، وحتى عندما تتعاطى مع هذه القضايا فإنها تستخدم حججاً تستند إلى حقوق الإنسان أو الدستور، لا حججاً فقهية.

هل هذا القرار يستند إلى مبدأ أم هو مجرد حساب تكتيكي؟ من الصعب الحُكم. ما هو واضح هو أن “العلامة التجارية” النهضة على المستوى الوطني ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهويتها بوصفها الحزب الذي تأسس على قيم دينية. صوَّت العديد من التونسيين لحركة النهضة في عام 2011 باعتبارها الحزب الذي يمكن الاعتماد عليه في تعزيز القيم الدينية. وهكذا، تملك النهضة علامة دينية تميزها عن الأحزاب الأخرى الموجودة على الساحة السياسية، ويستوجب هذا أن تسعى الحركة إلى الحفاظ على هذه العلامة. في اتخاذ هذا القرار محفوفا بالمخاطر إلى الابتعاد عن علامة تجارية أنشئت نحو منطقة مجهولة، في سياق من عدم اليقين السياسي، يشير الى الحزب على التزامها القوي هذا التغيير. إذاً، فاتخاذ هذا القرار الخطير بالانصراف عن ارتباط النهضة في الأذهان بالقيم الدينية إلى منطقة أخرى غير مضمونة تتنازعه عليها الأحزاب الأخرى يوضح لنا أن الحزب ملتزم بشدة بهذا التغيير.

تغيير الاتجاه أم التيه؟

تثير هذه التغيرات سؤالاً مهماً في عقل الناخب التونسي العادي: ما الذي يجعل النهضة مختلفة كحزب سياسي؟ كانت القيم الدينية ومعارضة علمانية بورقيبة هي “نقطة البيع الفريدة” التي تملكها النهضة، لكن الآن، ماذا يميز النهضة، كونه “حزباً ذا مرجعية إسلامية”، عن جميع الأحزاب الأخرى في الطيف التونسي؟

إن هذه الخطوة التي اتخذتها النهضة محفوفة بالمخاطر. أولا؛ فبتبني خطاب غير ديني، تخاطر الحركة بفقدان أنصارها، وكذلك بإخلاء الأرض التي يمكن أن يشغلها الأحزاب الأكثر محافظةً أو حتى الأحزاب المتطرفة. إشارات النهضة الواضحة على أنها ليست حزباً دينياً تترك مساحة مفتوحة لظهور أحزاب جديدة تلبي حاجة بعض الناخبين إلى حزب ذي أجندة دينية قوية. تخاطر النهضة بهذا التعريف المحدود الجديد بتضييق قاعدة مؤيديها، وتخاطر بفقدان بعض شخصياتها العامة المعروفة بسبب الاختيار الصعب بين الأنشطة السياسية والدينية.

يبدو أن النهضة تراهن على أن هذه التغييرات قد تؤدي بالفعل إلى فقدان بعض المؤيدين، لكنها سوف تساعدها في كسب مؤيدين آخرين. يدفع مؤتمر النهضة باتجاه “تحول استراتيجي إلى وسط الطيف السياسي المحافظ”، وهو الوسط الذي يقدر المؤتمر أنَّه يمثل “أكثر من 70٪ من الشعب التونسي”. قبل إعادة موضعة نفسها كحزب وطني على يمين الوسط، مفتوح للتونسيين من جميع الخلفيات الدينية وغير الدينية، تأمل النهضة في بناء قاعدة شعبية أوسع والوصول إلى شرائح أخرى من المجتمع كانت تنفر من النهضة باعتبارها حركة دينية أو اجتماعية.

حزبالمسلمين الديمقراطيين؟

عبر هذه الخطوة، تسعى النهضة إلى تشكيل هوية جديدة باعتبارها حزباً لـ”الديمقراطيين المسلمين”، وهو مسمَّى يستخدمه قادتها في كثير من الأحيان في السنوات الأخيرة. ما يزال معنى هذا المفهوم غير واضح، على الرغم من أن بعض عناصره تظهر في خطاب النهضة. إن أحد محاور هذه الهوية الجديدة هو مفهوم “المصالحة”، أو إيجاد توازن جديد بين الحداثة والتقاليد، وبين الدين والأمة، وبين الإسلام والديمقراطية. وقد ذُكِر هذا المفهوم بما لا يقل عن تسع مرات في كلمة افتتاح المؤتمر التي ألقاها الغنوشي، والتي حددت رؤية “للمصالحة بين الدولة والمواطنين، وبين الدولة والمناطق المهمشة، وبين النخب السياسية المتصارعة، وبين الماضي والحاضر”. ويمكننا أيضاً أن نرى هذا المفهوم في خطاب النهضة بشأن بورقيبة ودولة ما بعد الاستقلال، فهو خطاب متصالح مع إنجازات الدولة (مثل الرعاية الاجتماعية، وحقوق المرأة، إلخ) ويحتفي بها، رغم أنه ما يزال ينتقد بعض جوانبها.

هذه المصالحة تتصل بعنصر رئيس آخر في تطور النهضة باعتبارها حزب “الديمقراطيين المسلمين” هو: علاقة جديدة مع الدولة القومية. كانت إحدى أكثر اللحظات حيويةً في حفل افتتاح مؤتمر النهضة الهتاف الذي بدأة نائب رئيس الحزب، عبد الفتاح مورو، وردده وراءه 12 ألف شخص كانوا حاضرين “الوطن قبل الحركة”. إن هذا التصالح مع مفهوم الوطن هو ميزة جديدة نسبياً؛ فالحركات الإسلامية كانت، على مر التاريخ، تركز على مفهوم الأمة، أو المجتمع الإسلامي الأوسع، باعتبارها الوحدة الأساسية للانتماء، ترتبط ببعضها البعض عن طريق المثل العليا مثل التقوى والفضيلة، أما علاقة هذه الحركات بمفهوم الأمة بوصفها مجتمعاً إقليمياً فقد كانت دائماً معقدة ومتصارعة. بعضهم رفضوا مفهوم الوطن تماماً، ونفوا شرعية الدولة القومية في مرحلة ما بعد اتفاقية سايكس-بيكو، أما البعض الآخر فقبلوا به على مضض، وآخرون تبنوه دون حرج.

وقد تطوَّر خطاب النهضة نفسها عبر عدة مراحل بدأت من كونها حركة عموم الإسلاميين في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي متأثرة بأفكار الحركات السياسية في الشرق الأوسط ومخالفة إلى حد ما لمفهوم الدولة القومية، وانتهت إلى تعريف نفسها بوصفها حزباً تونسياً على وجه التحديد. ويمكن ملاحظة ذلك في صورة تطور الحزب، واختيار للموسيقى، واللباس، والوجود في كل مكان من النشيد الوطني والعلم في جميع المناسبات، واستخدام حتى قادتها متزايد من اللهجة التونسية الدارجة بدلا من اللغة العربية الفصحى. حركة المؤتمر الذي يحدد النهضة بأنها “الحزب الوطني”، ويؤكد هذا التطور الذي احتضنت النهضة على نحو متزايد الدولة القومية الحديثة باعتبارها ركيزة إيجابي من التماسك والاجتماعية ينتمون.

ويمكن ملاحظة ذلك في صورة الحزب المتطورة، واختياره للموسيقى، واللباس، والوجود الطاغي للنشيد الوطني والعلم في جميع المناسبات، وحتى استخدام قادتها المتزايد للهجة التونسية الدارجة بدلاً من اللغة العربية الفصحى. واقتراح المؤتمر الذي يُعرِّف النهضة بأنها “حزب وطني”، يؤكد هذا التطور الذي احتضنت عبره الحركة مفهوم الدولة القومية الحديثة باعتبارها ركيزة إيجابية تدعم من تماسك المجتمع وحِس الانتماء.

يصاحب هذا النهج عنصر رئيس آخر: تأكيد جديد على الشمولية. تشير اقتراحات المؤتمر مراراً إلى ضرورة “فتح” حركة النهضة على دماء جديدة وأفكار جديدة. وتُظهِر حركة المؤتمر لتعديل معايير عضوية الحزب رغبةً في الوصول إلى شريحة أوسع من المجتمع التونسي، في حين تؤكد النصوص التفسيرية الحاجة للوصول إلى “النخب الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والمالية، والسياسية ضمن مشروع وطني مفتوح وشامل”.

المكتب التنفيذي الجديد لحركة النهضة

تشير إزاحة الستار عن المكتب التنفيذي الجديد لحزب حركة النهضة إلى الكيفية التي يخطط بها الحزب لوضع قرارات المؤتمر موضع التنفيذ. ومع أن الكثير من أعضائه من ذوي الوجوه المألوفة، إلا إن التشكيل المُعلَن يضيف كوادر جديدة تمثلت في ست نساء في مقابل اثنين فقط في التشكيل السابق. ضم المكتب من بين السيدات الست “سيدة الونيسي”، وهي واحدة من أصغر أعضاء البرلمان، في منصب المتحدث باسم الحزب، و”محرزية العبيدي”، نائبة رئيس البرلمان سابقاً، في منصب المسؤولة عن العلاقات مع المجتمع المدني، و”أروى بن عباس”، وهي أول امرأة غير محجبة تنضم إلى المكتب التنفيذي، في منصب المسؤولة عن البيئة والتخطيط الحضري.

وكان التغيير الأبرز هو تعيين وزير التشغيل والتكوين المهني السابق زياد العذاري في منصب استراتيجي مهم هو الأمين العام. العذاري، محامِ التمويل الدولي المقيم سابقاً في باريس والبالغ من العمر 41 عاماً، هو وجه مألوف لكثير من التونسيين؛ إذ كان المتحدث الرسمي للحزب سابقاً. وبوصفه أقرب إلى الشباب، ولديه شعبية واسعة ونزعات إصلاحية معروفة، يشير اختيار العذاري إلى أن القيادة جادة في جهود الإصلاح الداخلي في الولاية القادمة.

نموذج للمنطقة؟

إن وجود أكثر من ألف ضيف أجنبي في مؤتمر النهضة يشير إلى اهتمام قوي من قبل أطراف خارجية بما يجري في تونس. وشهد المؤتمر تمثيل الأحزاب السياسية والمعلقين السياسيين من مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي، ومن مناطق بعيدة مثل ماليزيا، والهند، وسنغافورة. كما أطلق المؤتمر سلسلة من الحوارات والمناقشات في كافة أنحاء المنطقة العربية، بما في ذلك تحليلات كبار المفكرين الإسلاميين مثل فهمي هويدي وعزام التميمي. وفي حين تبنى بعض المعلقين توجهات الفصل بين المجالين الديني والسياسي، ندد آخرون بالأمر باعتباره تخلياً عن المبادئ الإسلامية، في حين نظر إليه البعض الآخر على أنه علامة على فشل الإسلام السياسي تماماً.

إن فكرة الفصل بين الديني والسياسي ليست جديدة بين الحركات الإسلامية في العالم العربي. المفكر المصري محمد عمارة، وسياسي حزب العدالة والتنمية المغربي ووزير الخارجية السابق، سعد الدين العثماني مؤلف كتاب “الدين والسياسة: تمييز لا فصل”، هما من بين العديد من الشخصيات التي ناقشت هذه الأسئلة. ولدى الأردن، ومصر، والسودان، والمغرب جميعاً شكل من أشكال الفصل التنظيمي بين الحركة الدينية والحزب السياسي الذي قد ينشأ منها.

ومع ذلك، يبدو أن نهج حركة النهضة في الفصل بين السياسة والدين يختلف عن النماذج القائمة في أماكن أخرى من العالم العربي. لقد تبنت أحزاب أخرى، مثل حزب العدالة والتنمية في المغرب، وحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، والجبهة الإسلامية القومية في السودان، تبنوا الفصل بين أنشطتهم السياسية والدينية، والحفاظ على الارتباط التنظيمي بين الحزب والحركة الأم، التي لا تزال تقوم بالأنشطة الدينية، والاجتماعية، والثقافية. لكن الحزب والحركة تداخلا في الأردن، ويبدو أن الاثنين لهما قيادة مشابهة للغاية. وفي الحالة السودانية، ما يزال الحزب والحركة مرتبطان داخل مظلة إدارية واحدة. أما في حالة المغرب، يعمل الحزب والحركة بصورة مستقلة.

في حالة النهضة، اعتمد المؤتمر التخلي عن العمل غير السياسي تماماً، تاركاً الأمر لمنظمات المجتمع المدني المستقلة، دون أن يوفر مظلة لحركة منفصلة تواصل الأنشطة الاجتماعية، والثقافية، والدينية. وبهذا المعنى، يكون نموذج النهضة نموذجاً جديداً في المنطقة العربية؛ مما سيجعل طريقة تنفيذه وتأثيره على الحزب جديراً بالمتابعة عن كثب في جميع أنحاء المنطقة.

استنتاج:

تمثل التغييرات التي اعتُمدت في مؤتمر النهضة معلماً رئيساً في تاريخ الحزب الممتد إلى أربعين عاماً. ومع ذلك، فإن قراراته لا تُعَد مؤشراً على هجر مفاجئ لمسار “النهضة” الشامل. بدلاً من ذلك، عندما ننظر إلى هذه التغييرات في ضوء تطور الحزب على مدى أربعة عقود، وعلى وجه الخصوص خلال السنوات الخمس الماضية، تبدو التغييرات تأكيداً على تطور مستمر وفقاً للفرص ومعوقات السياق الذي يعمل الحزب وفقاً له. وعن طريق عملية التكيف الخارجي والمراجعات الداخلية، تطوَّر حزب النهضة من كونه “المشروع الإسلامي” حصراً، الذي يهدف بالدرجة الاولى إلى استعادة الهوية العربية الإسلامية ودور الدين، تطوَّر إلى حزب وطني معني بأسئلة محلية مثل الحكم السياسي، الاقتصادي، وبناء “مشروع وطني” جديد.

تبقى الخطوط العريضة لهذا “المشروع الوطني” الجديد قيد التحديد – وهي مهمة صعبة تواجه النهضة وكذلك الأحزاب التونسية الأخرى في مواجهة أزمة ما بعد الاستقلال ونموذجها الاقتصادي والسياسي، الذي لم يعُد يلبي احتياجات تونس وتحدياتها اليوم. التحديات التي تواجه حركة النهضة كثيرة: تنفيذ اقتراحات المؤتمر بشأن تحديث الطابع المهني للحزب وفصله عن الأنشطة الدينية مهدداً بتقويض قاعدته الشعبية، وإضعاف هويته، وربما فقدان بعض قياداته. ومع ذلك، فإن هذه التحديات يمكنها أيضاً فتح آفاق واسعة لحركة النهضة؛ مما يجعلها أكثر انفتاحاً وجذاباً لشرائح واسعة من المجتمع التونسي.

كل هذا، بطبيعة الحال، يعتمد على اتجاه السياق المحلي والإقليمي في تونس في السنوات المقبلة. بوصفه أكبر حزب في البرلمان، يواجه النهضة تحدياً مزدوجاً: أولهما هو الضغط من أجل الإصلاحات الوطنية لإنعاش الاقتصاد التونسي وخلق فرص العمل التي تشتد الحاجة إليها، وتوطيد الديمقراطية والتصدي للفساد، واستكمال إجراءات العدالة الانتقالية وتحقيق مطالب الثورة، بما يراعي متطلبات إدارة وضع أمني إقليمي حساس. أما التحدي الثاني فهو تحقيق الإصلاحات الداخلية لتحويل النهضة من حركة ذات مرجعية دينية ترى السياسة أداةً للإصلاح الأخلاقي والاجتماعي إلى حزب سياسي قادر على تحقيق التحسينات المادية وتحسين نوعية الحياة للمواطنين العاديين.