نبذة:

كشف وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي فلاديمير بوتين عن التوصل إلى اتفاق بشأن الأزمة السورية في العاشر من سبتمبر/أيلول، الأمر الذي وُصف بأنه انقلاباً دبلوماسياً لروسيا. وفي المقابل أكدت موسكو على مواصلة دور الوساطة مع واشنطن لحل الأزمة السورية. ويُساعد الموقف الروسي الحالي على تمكينها من تعديل بنود الاتفاق بالشكل الذي يُعزز من تواجد الأسد، بالرغم من المخاطر المُتوقعة حال انهيار الهدنة. ويرى الروس أن الاتفاق الذي أجراه كيري ولافروف يُعد نقطة انطلاق لضمان بقاء الأسد في السلطة بمباركة ضمنية أو صريحة من الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها تركيا. ويوضح هذا المقال مدى ملائمة المبادرة الدبلوماسية الحالية لخطة روسيا التي تهدف إلى عودتها إلى منطقة الشرق الأوسط وتوطيد علاقاتها مع الأطراف الإقليمية بما فيها تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية.

يبدو أن الأحداث الجارية تتعارض تماماً مع خطة بوتن وفريقه، بعد مرور عام على وجود الجيش الروسي في سوريا. إذ سمحت الولايات المتحدة الأميركية لروسيا بلعب دور الوسيط، لكنها ليست على قدم المساواة مع أميركا. ولم تنقطع مباحثات الزعماء الغربيين مع الرئيس الروسي بوتين بالرغم من العقوبات المفروضة على بلاده. إذ أُتيحت له الفرصة في سبتمبر/أيلول لإجراء محادثات مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند ورئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي والرئيس الأميركي باراك أوباما على هامش قمة مجموعة العشرين المُقامة بمدينة هانغتشو بالصين. وتُشير أصابع الاتهام إلى تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية المقبلة من خلال اختراقها للبريد الإلكتروني الخاص باللجنة الوطنية للحزب الديموقراطي. ويرجع تصاعد حدة الأزمة بين روسيا والغرب إلى الملف الأوكراني المتوتر; إذ يستمر انخفاض حدة القتال في إقليم دونباس. كما تتهم السلطات الروسية كييف بتدبير مؤامرة إرهابية في شبه جزيرة القرم المُحتلة.

وقطع التواجد الروسي في سوريا شوطاً كبيراً في تفسير استراتيجية الحوار والاحتواء المزدوجة التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وهذا لا يعني تفاؤل إدارة أوباما بالاتفاق الذي أجراه كيري مع موسكو بشأن انهاء الحرب في سوريا. ولا يُتوقع في هذه المرحلة إحراز أي تقدم على أرض الواقع بدون مشاركة الجانب الروسي. أتت المفاوضات التي أجرها وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بثمارها بعد أشهر من التباحث. إذ أعلن الطرفان في 10 سبتمبر/أيلول عن توصلهما إلى اتفاق “وقف الأعمال العدائية” اعتباراً من بداية عيد الأضحى. وفي حال استمرار الهدنة لمدة أسبوع واحد على الأقل، ستبدأ الولايات المتحدة الأميركية في إنشاء مركز عمليات مشترك بهدف تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق الضربات الجوية ضد الجماعات المتطرفة بما فيها تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يطلق عليها “داعش” وجبهة فتح الشام (المعروفة سابقاً بجبهة النصرة). مع ذلك يجب على النظام السوري وقف الضغط العسكري الذي يمارسه على المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة مثل شرق حلب. بالإضافة إلى وقف ضرباتها الجوية وطائرات الهليكوبتر التي تقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة وغاز الكلور السام، والسماح بتوصيل المساعدات الإنسانية. وفي المقابل وعدت أميركا بالتحدث إلى الميليشيات المناهضة للأسد ومُطالبتها بقطع علاقاتها مع جبهة النصرة.

ولا شك أن الاتفاق الروسي الأميركي سيكون من الصعب تنفيذه، إن لم يكن مستحيلاً على الإطلاق. إذاً هل يمكن منح الثقة لروسيا حتى تكبح جماح الأسد وحلفائه من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والميليشيات الموالية للنظام؟، وكيف ستتمكن الولايات المتحدة الأميركية من فصل جبهة فتح الشام عن الفصائل المتمردة الأخرى، بعد الدور الحاسم الذي لعبته الجماعات الجهادية في فك حصار نظام الأسد عن مدينة حلب في شهر أغسطس/آب؟. وقد أثارت هذه التساؤلات شكوك واشنطن والبيت الأبيض ووزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر خلال محادثات جينيف، بعد إقناعهم بقدرة روسيا على تحقيق وقف دائم لإطلاق النار. هذا وبمجرد بدء تبادل المعلومات الاستخباراتية وتقاسم العمليات العسكرية ستظهر نقطة الخلاف بين روسيا وأميركا. ولم يلق الاتفاق الذي أجراه كيري ولافروف في أواخر فبراير/شباط استحسان الخبراء الأميركيين، إذ انهار بعد أسابيع فقط من التوقيع عليه. وفي المقابل شن الأسد هجوماً جديداً على مدينة حلب في منتصف إبريل/نيسان مدعوماً بالطائرات والمدفعية الروسية الثقيلة. وجاء الاتفاق كستار للمفاجأة التي أعلنها بوتن في مارس/آذار بشأن تقليص العمليات الروسية في سوريا (مثل “الأهداف التي تحققت بشكلٍ عام”).

وسيتم تكرار ما حدث في الربيع، إذ سيتخذ الروس و/أو الأسد فترة الهدنة كستار للاستيلاء على مزيد من المناطق (فقد تعهد الرئيس السوري باستعادة كافة الأراضي السورية من قبضة “الإرهابيين”)، وهذا ما حدث خلال مفاوضات “مينسك 2” في مطلع عام 2015.

فقد استولى الانفصاليين الذين يحظون بدعم من موسكو على مدينة دبالتسيفي الواقعة على خط سكة حديد ومُفترق طرق استراتيجي وحيوي، بعد أقل من أسبوع من تأييد “رباعية النورماندي” لقرار وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا يوم 12 فبراير/شباط. وكالعادة نفت روسيا تدخلها المباشر، لكن في المقابل ادعت حكومة الولايات المتحدة أن المدفعية الروسية أطلقت نار كثيف مع قاذفات الصواريخ المتعددة مما اضطر القوات الأوكرانية إلى الخروج من القرية المُحاصرة. وبالمثل وجه النظام السوري ضرباته الجوية بلا هوادة إلى حلب وإدلب قبل دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.

ومن المؤكد أن يكون هناك بعض التقييمات الإيجابية المتحفظة أيضاً. فقد يساعد الاتفاق على تمكن الفصائل المناهضة للأسد من تحقيق انتشار كبير في بعض المناطق السورية. ويرى محللون سوريون “تسعى جماعات مثل جيش الإسلام في الغوطة الشرقية إلى منع “جبهة فتح الشام” من تثبيت أقدامها في هذه المنطقة، وهذا قد يقلب ميزان الخطة لصالحهم. وينطبق نفس الشيء على الجبهة الجنوبية، حيث يعمل تحالف جماعات الجيش السوري الحر بشكل رئيسي في درعا”.

لكن هناك تحذير مهم: “إذ يمكن أن يكون للخطة تأثير دائم وتحويلي على سوريا، في حال مساعدة الولايات المتحدة الأميركية للمعارضة حتى تتمكن من حماية نفسها من النظام، مع ممارس نفوذها السياسي للمحافظة على المكاسب التي تحققت ضد المتطرفين”.

الاستراتيجية الروسية

بعد السماح لها بتحقيق مكاسب تكتيكية على أرض الواقع، كيف ستتناسب المبادرة الدبلوماسية الجديدة مع استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط وخارجه؟ ويُشير تدخل روسيا في سوريا إلى رغبتها في تحقيق عدة أهداف. تريد روسيا أولاً وقبل كل شيء إنهاء العزلة والعقوبات المفروضة عليها جراء ضمها لشبه جزيرة القرم في مارس/أذار، ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا.

لكن هذا هدف صعب المنال؛ إذ تنظر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى روسيا باعتبارها طرف أساسي في حل الأزمة الأوكرانية. كما ترفض الولايات المتحدة ضغط روسيا عليها من خلال تدخلها في سوريا لكي تتنازل عن العقوبات التي فرضتها على روسيا. لكن تصر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على ضرورة امتثال روسيا لخارطة طريق “مينسك 2” وضرورة السماح لقوات الأمن الأوكرانية من إعادة بسط سيطرتها على حدودها الخارجية مع روسيا، وهذا شرط لا غنى عنه لرفع العقوبات المفروضة على روسيا.

والهدف الثاني الذي تطمح إليه موسكو، والذي يمكن تحقيقه هو إعادة صياغة العلاقة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة لتكون على قدم المساواة معها. وتجلى ذلك في أغسطس/آب عام 2013 عندما فشلت مساعي أوباما في فرض “خطوطاً حمراء” في سوريا، حينئذٍ ظهر بوتن على الساحة السورية ومع مرور الوقت أصبح وسيط مهماً في عملية وقف الحرب في سوريا.

واعتزمت روسيا على تقديم الدعم للنظام السوري لكونه الحليف الوفي في منطقة الشرق الأوسط. ويأتي إنقاذ روسيا للأسد بهدف التحقق من (فكرة) تصدير الغرب للثورات التي ترى أنها تُزعزع الاستقرار في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك “فضاء ما بعد السوفيتي”. وبلغ التحالف الروسي مع سوريا ذروته مع الانتشار العسكري الروسي في سبتمبر/أيلول عام 2015, الأمر الذي أعاد موسكو إلى “التدخل” في سياسة الشرق الأوسط بعد انسحابها في الثمانينات.

وعلى النقيض من السياسية السابقة للاتحاد السوفيتي، تكره روسيا التمدد العسكري والسياسي، إذ ظلت روسيا تحافظ على التزاماتها المحدودة، وتجنبت زحف قواتها، واكتفت بالخيارات السياسية المفتوحة. وأخيراً وليس آخراً، يُعد التواجد العسكري الروسي في سوريا فرصة فريدة لاختبار القدرات الجديدة للجيش الروسي، الذي يخضع لعملية إصلاح وتحديث منذ عام 2008، بالإضافة إلى عرض مزايا نظام أسلحتها لعملائها الحاليين والمحتملين.

كيف تتناسب المبادرة الدبلوماسية الحالية مع الاستراتيجية الروسية الشاملة؟ هناك جانبان يجب أن يُؤخذا في الاعتبار:

  • سقوط نظام الأسد، الحليف الحالي لموسكو في الشرق الأوسط.
  • الآثار المترتبة على علاقات روسيا مع القوى الإقليمية الأخرى، بما في ذلك تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية.

بقاء الأسد في السلطة

ترى موسكو حتى الآن أن الاتفاق الذي أجرته مع الولايات المتحدة يُعد خطوة أخرى نحو الهدف النهائي المتمثل في إبقاء الأسد في السلطة، بشرط استمرار عمل القوات الجوية السورية في المناطق التي يُسيطر عليها “تنظيم الدولة” وجبهة “فتح الشام” مع تفعيل تعاون دمشق مع روسيا التي تلعب دور الوسيط. ويُلاحظ مدى تطور موقف الولايات المتحدة على مدار العام الماضي. فموقف أميركا السابق على أن رحيل الأسد يُعد شرطاً مسبقاً لأي حل مُستدام، وأنه على أي حال فأيام بقاء الأسد في السلطة أصبحت معدودة. ثم أسفر اجتماع بوتين وأوباما على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عن قبول كيري بفكرة بقاء الأسد في السلطة في المرحلة الأولى للفترة الانتقالية على الأقل، إذ أن “مغادرته للسلطة” لن تتم في يوم واحد أو حتى في شهر واحد، وأنه يجب أن تتضافر جهود كافة الأطراف للوصول إلى أفضل السبل الممكنة لتحقيق الاستقرار. ولاحقا في شهر مايو/أيار 2016 حدد كيري 1 أغسطس/آب ليكون بداية المرحلة الانتقالية، لكن تحذير من أن الولايات المتحدة قد تتخذ “مساراً مختلفاً للغاية” في حال عدم امتثال النظام لم يعقبه أي إجراء. وعلى النقيض، أسفر الهجوم على حلب عن إعطاء النظام فرصة أكبر للمناورة السياسية، على الرغم من فشل دمشق وحلفائها في الاستيلاء على المدينة المُحاصرة حتى الآن.

وتأتي الخطوة التالية لروسيا من خلال إعادة تسويق الأسد كحاكم فاسد إلى شريك في جبهة القضاء على التنظيمات الجهادية الدولية، بعد إخضاعه للشروط المتفق عليها من جانب الولايات المتحدة وروسيا. ويساهم ذلك في إعطاء نظام الأسد انتصاراً رمزياً بعدما كان انهيار النظام قاب قوسين أو أدنى من قبل عام واحد فقط من الآن. كما سيُعزز ذلك من دور الأسد في المفاوضات التي ستُعقد بشأن الترتيبات السياسية المستقبلية لسوريا، في حال إذا رغبت الأطراف في اتخاذ خطوات جادة في هذا الصدد.

وقد نجحت روسيا في تمكين حليفها من البقاء في السلطة، وإثبات صحة مزاعمها بشأن التطرف الإسلامي والفوضى وأنهما يُشكلان خطر مُحدق على المنطقة. وستُشكل موسكو جبهة عريضة لتضييق الخناق على معاقل “تنظيم الدولة” في الرقة والموصل. وسيُنسب الفضل إلى بوتن في رجوع صناع السياسة في أميركا إلى رشدهم، والتعامل مع الواقع المؤلم لسياسات الشرق الأوسط الذي سيقبل بالأنظمة الاستبدادية العلمانية باعتبارها أهون الضررين.

هل ستنجح الخطة؟ يعتمد ذلك على مدى تعاون الأسد جنباً إلى جنب مع الروس. وتحظى روسيا في هذه الفترة بنفوذ كبير، بسبب توفيرها للدعم العسكري الحيوي والغطاء الدبلوماسي للنظام. وحاليا لا يمكن تحديد الطرف المستفيد من هذه الخطة كما هو الحال في كثيرٍ من الحالات. فالنظام لديه الوسائل التي يستفيد منها وبالتالي سيفشل اتفاق وقف إطلاق النار. وتخاطر روسيا بالانجرار وراء حملات دمشق لتوسيع سيطرتها الإقليمية، بدلاً من توجيه النظام والسيطرة عليه، وهذا تفسير معقول لما حدث في إبريل/نيسان. وأيضاً يُشكل ضعف الأسد بطاقة رابحة يمكن استغلالها في تفعيل خطة المرحلة الانتقالية. إذ يعترف الخبراء العسكريين والروس بأن الجيش السوري يعيش حالة فوضى تامة، كما يعاني من انخفاض الروح المعنوية ووجود نقص في الموارد بالإضافة إلى ظهور الانقسامات داخل صفوفه، وأنه يعتمد في الأساس على الدعم الحيوي الذي تُقدمه روسيا وإيران وحزب الله. ويُساعد الوضع الهش لنظام الأسد في تعزيز تأثير روسيا وقدرتها على الإطاحة بنظام الأسد، لكنها تُفضل تقليص التزامات الأسد مع تجنب بسط سيطرته على الأرض. ومن المفارقات التي عانى منها الجانب الروسي في سوريا هي وقوع مزيد من الضحايا بعد اعلان بوتين إنهاء العملية العسكرية في مارس/آذار الماضي. ولا يزال شبح التصعيد الغير مرغوب فيه يُطارد موسكو، لكنها ترفض الانسحاب من سوريا أو التخلي عن دعم نظام الأسد. وهذا يُعطي النظام ورقة مساومة كافيه لإبقاء روسيا على الساحة السورية.

 علاقة روسيا بقوى الشرق الأوسط

يحمل الوضع السوري وسياسة الكيل بمكيالين التي تتبناها أميركا العديد من الأصداء على علاقة روسيا بالقوى الإقليمية في المنطقة، لا سيما تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية. 

وترى روسيا أن التطبيع مع أنقرة بعد تجميد العلاقات بينهما جراء إسقاط تركيا للطائرة الروسية سو-24 في نوفمبر/تشرين الثاني، سيعمل على تحويل شكل العلاقات الثنائية بين البلدين. واستند نموذج التقسيم القديم على: عدم الخلط بين الخلاف الناتج عن الصراع السوري والعلاقات الاقتصادية المُربحة تجنباً لتفاقم التأثير السلبي على العلاقات. ولكن اختلف الموقف الآن، إذ تطورت العلاقات الروسية التركية بشكل إيجابي من خلال تضييق التعاون الثُنائي للفجوة في سوريا. وأشارت وكالة الإعلام الروسية الحكومية “سبوتنيك” قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا إلى استعداد موسكو وطهران للمساعدة في رأب الصدع بين أنقرة ونظام الأسد تحت مُسمى مكافحة “الإرهاب الدولي”.

وحافظت سوريا على هدوئها أثناء شن القوات المسلحة التركية والجيش السوري الحر لعملية “درع الفرات”. وأعرب وزير الخارجية الروسي عن مخاوفه في أول تعقيب لروسيا على عملية “درع الفرات”. إذ أعربت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في 24 أغسطس/آب عن قلقها من اشتعال الصراع بين الأكراد والعرب بسبب التوغل عبر الحدود. لكن هدأت حدة لهجة موسكو بعد المكالمة الهاتفية الذي أجراها أردوغان مع بوتين في 26 أغسطس/آب وبعد اجتماعهما في قمة مجموعة العشرين في شهر سبتمبر/أيلول الحالي وأعلنت ان العمليات التركية لم تكن غير متوقعة بالنسبة لها وأنها تتفهم ما يجري وما هي نتائجه المتوقعة. ورحبت روسيا بغلق الحدود السورية التركية ومحاصرة معاقل “داعش”. وترى روسيا أنها تلعب دور الوسيط بين أنقرة والأكراد السوريين. ممثل حزب الاتحاد الديمقراطي في موسكو، رودي عثمان، الذي كان قد حذر تركيا من دخولها في حرب كبرى ضد روسيا إذا عبرت الحدود السورية، بعد تغير الوضع الآن، يشيد بدور روسيا الوسيط في سوريا. وتنعم روسيا بعلاقات طيبة مع تركيا والأسد وحزب الاتحاد الديموقراطي، مما يُميزها عن الولايات المتحدة الأميركية.

وفي المقابل، أدت تصرفات روسيا في سوريا إلى دخولها في صدام مع إيران الداعمة لنظام الأسد أيضاً. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية في 16 أغسطس/آب عن انطلاق قاذفات “تو-22 إم 3” الروسية وقاذفات “سو-34” من قاعدة همدان الجوية الإيرانية لضرب أبرز معاقل “داعش” في حلب ودير الزور ومحافظات إدلب. وتُعد المرة الأولى التي سمحت فيها إيران للقوات الأجنبية باستخدام قواعدها العسكرية لشن هجمات خارج حدودها منذ قيام الثورة الإسلامية في عام 1979. واختلف الأمر بعد ذلك، إذ انتقد وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان روسيا لأنها كشفت لوسائل الإعلام عن استخدامها لقاعدة جوية في همدان لشن ضربات في سوريا واصفاً ذلك بأنه فعل “استعراضي” ينم عن “عدم الاكتراث” على حد قوله. وشعر الإيرانيون بالقلق جراء الإعلان عن استخدام سلاح الجو الروسي لقواعدها العسكرية، بعدما كان الأمر في طي الكتمان لمدة طويلة. وقد أكد رئيس جهاز الأمن القومي الإيراني علي شمخاني على تعاون بلاده مع روسيا بشكل غير مباشر، جاء ذلك في تصريح له لوكالة الأنباء الإيرانية “فارس”. ووردت رسائل متضاربة حول استمرارية التعاون الروسي الإيراني في منتصف أغسطس/آب. وقد تفاجأ السياسيون الإيرانيون بإعلان بوتين المفاجئ في مارس/آذار عن رغبته في سحب القوات الروسية من سوريا دون مشاورة الجانب الإيراني. وهذا التحول جعلهم يتوقعون أن تتوصل موسكو بسهولة إلى اتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية بشأن التخلي عن الأسد في مقابل منحها دوراً في المرحلة الانتقالية لفترة ما بعد نظام الأسد. وشكلت علاقة روسيا مع الأكراد مصدر قلق آخر للإيرانيين.

ويرجع رد فعل إيران الغامض إلى عدم ارتياحها لصعود نجم روسيا في سوريا وتداعيات ذلك على الوضع في المنطقة. وقد يعمل اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعه كيري ولافروف على إثارة التوتر داخل الساحة. ورحبت وزارة الخارجية الإيرانية بالاتفاق وحذرت من استغلال الاتفاق في “نقل المقاتلين أو إرسال الأسلحة للإرهابيين”. وقد عززت موسكو اتصالاتها مع خصوم الجمهورية الإسلامية. وأعلنت روسيا والمملكة العربية السعودية في 5 سبتمبر/أيلول عن تشكيل فريق عمل لاستكشاف تنسيق مشترك في إنتاج النفط. ومع ذلك، اعترف بوتين بأنه سيكون من الصعب جداً إشراك إيران. وانهارت المحادثات المتعددة الأطراف في ابريل/نيسان وسط خلافات بين الرياض وطهران، حول ما إذا كانت روسيا جادة بشأن اتفاق السلام في سوريا، وأنها تستمر في التودد إلى السعوديين.

وتمد روسيا أيضا يدها إلى إسرائيل. إذ من المقرر أن تستضيف موسكو عقد اجتماع قمة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. فيما قد يفشل الاجتماع في تحقيق نتائج جوهرية، مشكلاً بذلك انقلاباً دبلوماسياً آخر لبوتين في مساعيه المنافسة للولايات المتحدة. وعبر السفير الإسرائيلي السابق في موسكو زافي ماجن عن رغبة الروس في لعب دور الوسيط في منطقة الشرق الأوسط. ويرى أن الروس لا يهتمون بالتوصل إلى نتائج إيجابية ملموسة في الشرق الأوسط بالقدر الذي يدفعهم إلى لعب دور الوسيط. ويوضح البيان أن روسيا تطمح في إجراء “صفقة” جديدة في سوريا على الرغم من كل الصعاب التي تواجه مساعيها الرامية إلى تفعيل السلام الحقيقي. وتؤكد موسكو على أن ذلك سيعزز من دورها كضامن خارجي لإجراء ترتيبات سياسية جديدة في سوريا. وسيساعد استمرار الهدنة في سوريا على مواصلة موسكو في تطوير علاقاتها داخل الشرق الأوسط بصفته الطرف الجاذب للولايات المتحدة للجلوس على طاولة المفاوضات. وفي كلتا الحالتين، ستنجح المناورة في تحقيق أهدافها.