تسعى وثيقة خلاصة السياسات التي بين أيدينا إلى فهم نقاط القوة التي تتميَّز بها الجهات الفاعلة المسلَّحة غير الحكومية، وشرح سبب الصعوبات التي تلاقيها الدول التي تمتلك قوَّةً أكبر في إلحاق الهزيمة بها على المستوى التكتيكي والعملياتي والاستراتيجي. تنقسم الوثيقة إلى أربعة أقسام: الأول يبيِّن التغير التاريخي في نتائج المعركة/الصراع التي تضمُّ دولًا (ممثلةً في الحكومات أو الأنظمة الحاكمة) والجهات الفاعلة غير الحكومية (ممثلةً في المتمردين أو الثوَّار). أما القسم الثاني، فيقدِّم نظرةً عامَّة على الشروح الأساسية المقدَّمة في المؤلفات العلمية من دراساتٍ أمنية واستراتيجية تشرح ذاك التغير التاريخي في النتائج. والقسم الثالث يلقي نظرةً عامَّة على الاستراتيجية (أو الاستراتيجيات) التي اتبعتها دولٌ معيَّنة في التعامل مع الصعود العسكري لجهاتٍ فاعلة مسلَّحة غير الحكومية. وأخيرًا، يقدِّم القسم الرابع ملاحظاتٍ واستنتاجات.

صعود الطرف (الأطراف) الأضعف

منذ الربع الأخير من القرن العشرين ونحن نشهد صعودًا مضطردًا في إمكانيات المتمرِّدين المسلَّحين. إذ أظهر ماك (1975)، وأريغوين توفت (2001)، وليال وويلسون (2009)، و كونابل وليبيكي (2010)، وجونز وجونستون (2013)، وشوت (2014) وآخرون غيرهم زيادةً بارزةً في نسبة الانتصارات التي يحرزها المتمردون المسلحون على حساب السلطات الحاكمة التي تفوقهم قوةً، وعجز السلطات الحاكمة عن إلحاق الهزيمة بالمتمردين المسلحين الأضعف منهم. ويُعَدُّ هذا تغيُّرًا في الأنماط التاريخية. إذ أظهر ليال وويلسون (2009) باستخدام مجموعة بيانات ضمت 286 حالة تمرُّد بين عامي 1800 و2005 أنَّ الدول أحرزت انتصاراتٍ في 25% فقط من هذه الحالات بين عامي 1976 و2005، مقارنةً بنسبة 90% بين عامي 1826 و1850. وانتهى كونابل وليبيكي (2008) إلى نتيجة مشابهة في أثناء دراسة 89 حالة تمرُّد. في 28 حالة (31%) انتصرت القوات التابعة للدول، وفي 26 حالة (29%) كان الانتصار من نصيب قوات المتمردين. وكانت النتيجة غير واضحة في 19 حالة (21%) (كونابل وليبيكي 2008، 5).[1] وانتهى علماء آخرون إلى نتائج مشابهة، وكانت النتائج إجمالًا متوافقةً، بغضِّ النظر عن مجموعة البيانات والإطار الزمني المختار. وبهذا يبدو أنَّ الجهات الفاعلة المسلَّحة غير الحكومية تعمل منذ مدَّة على تغيير نمطٍ تاريخيٍّ: ألا وهو احتكار الدول لوسائل العنف، ما يمنحها قدرةً أكبر على إلحاق الهزيمة بالجهات الفاعلة غير الحكومية في ساحة المعركة. ويسري هذا التوجُّه على جميع أنواع الجهات الفاعلة غير الحكومية، بدءًا من متمرِّدي القوات المسلَّحة الثورية الكولومبية “فارك” في كولومبيا، ووصولًا إلى حركة طالبان في أفغانستان وغيرهما.

التفسيرات المتعارضة والمتكاملة

تُقدِّم مؤلفات الدراسات الأمنية والعسكرية والاستراتيجية نطاقًا واسعًا من التفسيرات لأسباب تمكُّن المتمردين الأضعف من إلحاق الهزيمة بقوَّة الدول التي تفوق قوتهم، أو الصمود في وجهها. وتركِّز تلك التفسيرات في المقام الأول على عوامل الجغرافيا والسكان والدعم الخارجي والتكتيكات العسكرية والاستراتيجية العسكرية. وقد سلَّط ماو ([1938] 1967) الضوء على مركزية ولاء السكان في إنجاح التمرُّد، وذكر أنَّ التمرُّد “لا بدَّ أن يتحرَّك وسط الناس كما يسبح السمك في البحر”. وينتهي الدليل الميداني لمكافحة التمرُّد الخاص بقوات مشاة البحرية في الجيش الأميركي إلى أنَّ حالات التمرُّد تمثِّل “منافسةً على ولاء” العامَّة، الذين يكونون في أغلب الأحوال غير منحازين لطرفٍ دون آخر، والذين يمكن أن يصطفوا مع الوضع القائم أو مع تغيير الوضع القائم، ويتطلَّب النجاح في هذا المنافسة إقناع هؤلاء العامة غير المنحازين بالاصطفاف مع الوضع الراهن من خلال “الفوز بقلوبهم وعقولهم” (بيترايوس وزملاؤه 2007، 79-136). وتُظهر دراسات تومسون (1966)، وماسون وكرين (1989)، ووود (2003)، وكالفايس (2006)، وكالفايس وكوشر (2007)، وبرايث وايت وجونسون (2012)، وكوندرا وشابيرو (2012)، أنَّ قسوة تعامل الحكومة مع السكان المحليين تؤثر في ولائهم، وبالتالي تساعد المتمرِّدين فيما يخصُّ تجنيد عناصر في صفوفهم والحصول على موارد واكتساب شرعية. ويشير القائد السابق للقوات الأميركية في أفغانستان الجنرال ستانلي مكريستال إلى هذا التأثير بـ”رياضيات المتمرِّدين”: بمعنى أنَّه أمام كلِّ فردٍ بريء من السكان المحليين تقتله الحكومة، يُخلق عشرة متمردين جُدد (دايفوس 2013). وسبق أن صكَّ كيلكولين (2009) مصطلح “المتمردون بالصدفة”؛ في إشارة إلى تبعات القمع العشوائي الذي يؤدي إلى انجذاب عناصر من السكان المحليين إلى محاربة الدولة دون سابق عداء بينها وبينهم. وثمة حُجج أخرى بديلة، تُظهر أنَّ استخدام الدولة للعنف ضد المدنيين يمكن أن يساعد الحكومة في دَحْر المتمردين من خلال تحييد السكان المحليين.